افساد الحياة النيابية في الوطن العربي: المجلس التشريعي الفلسطيني مثالا
د. أنيس مصطفى القاسم
الحياة النيابية في الوطن العربي في أزمة حقيقية، ليس فقط بما تعانيه الانتخابات من تزوير، وليس فقط من سيطرة حزب واحد على على عضوية المجالس النيابية في عدد من الاقطار العربية أو التحكم في الترشيح للعضوية، وليس فقط من الانقطاع الحقيقي بين النائب ومن ينتخبونه من أبناء الشعب بعد الانتخابات، وليس فقط من سيطرة الحكومة سيطرة تكاد تكون كاملة على معظم المجالس النيابية أو مجالس الشورى، سمها ما شئت، وما يرافق ذلك من خنوع كامل لهذه السلطة حتى في أهم المواقف التي يجب فيها على النائب أن يقف موقفا وطنيا يعبر عن موقف الشعب الذي يفترض أنه انتخبه، وانما أيضا لأن العضوية أصبحت في الكثير من الاقطار مصدرا للثراء والتنافس من أجله، وما يتبع ذلك من الحرص على العمل المتواصل للبقاء في هذا الموقع بالنفاق للحاكم والعمل على كسب رضاه، فرضاه يتيح فرصة تزوير النتائج، وبالتالي فرصة البقاء والاثراء.
والغريب في هذا الوضع أن القانون يضمن هذه المزايا والحقوق التي يتمتع بها النائب والتي لا تتمشى اطلاقا مع ماهية الحياة النيابية. والقانون، في وطننا العربي، كما نعلم، هو اتفاق بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، قلما يدري به الشعب عن طريق نقاش مفتوح، أو تتحدث عنه وسائل الاعلام وتنبه الى مضمونه، وعندما يكون القانون هذا لخدمة مصالح الجانبين بما يتضمنه من مزايا ومنافع، وتنعقد الصفقة بين الطرفين على هذا الأساس، فانه يقر ويصدر وينفذ في غيبة كاملة من التدقيق، بل والمعرفة الشعبية بوجوده. ولا يعلم بهذه الحقوق والمزايا الا المستفيدون منها أو الراغبون في ذلك، بالرغم من أن القانون ينشر في الجريدة الرسمية. ولكن كم من المواطنين يقرأون الجريدة الرسمية، وكم من المحامين ورجال القانون يتابعون هذا النوع من القوانين الذي لا تثار بشأن تطبيقاته خصومات تعرض على القضاء؟ وبالتالي فان هذا النوع من القوانين قلما يلفت النظر أو يتعرض المستفيدون منه للمساءلة أو المحاسبة. ونقول “قلما” لأنه يصدف أن يقع خلاف بين النواب والحكومة على بعض المزايا وعلم الصحافة به فتشير اليه، كالخلاف الذي وقع مؤخرا بين أعضاء البرلمان الأردني والحكومة عن نوع السيارة التي يتمتع النائب بالمزايا بشأنها فنشبت معركة ال بي.ام.دبليو وعلم الناس بها. والمزايا والحقوق هذه هي من أهم وسائل الاغراء التي تقدمها السلطة التنفيذية للسيطرة على السلطة التشريعية. يتم ذلك والشعب لا يدري ما يحصل لأن شعوبنا لا تتابع القوانين ولا تتابع نشاط النواب الذين انتخبتهم، والنظام لا يريد مجالس نيابية حقيقية، تعبر عن ارادة الشعب ورغباته، تحاسب وتثير الاسئلة، وانما يريد مجالس خانعة منافقة يحرص أعضاؤها على رضا النظام وما يوفره له من مزايا ويوفرون لسياساته غطاء الشرعية البرلمانية.
انظروا مثلا ما حصل في الانتخابات المصرية الأخيرة. مرشحون رشحوا أنفسهم على أنهم مستقلون، وانتخبهم الناخبون على هذا الأساس، واذا بهؤلاء يعلنون انضمامهم للحزب الحاكم في أول جلسة يعقدها مجلس الشعب. عملية خداع وتزوير على ارادة الشعب. لماذا فعلوا هذا؟ ليفوزوا برضا الحاكم ويوفروا له أغلبية لم تكن له، حرصا على المزايا التي يتمتع بها عضو مجلس الشعب وما تفتح أمامه صفته هذه من أبواب. هؤلاء كان يجب أن تسحب منهم العضوية لأنهم حصلوا عليها بالغش والخداع. غير أنهم، مع الأسف، بقوا في مواقعهم، وطعنوا الحياة النيابية في الصميم.
وانظروا في مأساة جلسة مجلس الشعب السوري عند تعديل الدستور لانتخاب الرئيس. ونحن لا نتحدث عن التعديل في حد ذاته، بالرغم مما لنا ولغيرناعليه من تحفظات وما أرساه من سابقة خطيرة بدأت تحاول الانتشار في العالم العربي والاسلامي، وانما نتحدث عن اجراءات. اجراءات شكلية فقط لم يستطع مجلس النواب السوري لالتزام بها، خوفا من أعضائه على المزايا التي يتمتعون بها، أو خوفا من العواقب. في الجلسة قام أحد النواب يذكرالرفاق باجراء محدد. لم يعترض المسكين على المرشح ولا على التعديل، بل أراد أن يكون التعديل سليما من الناحية الاجرائية فقط، حيث أن الدستور السوري يشترط أن يرافق قانون التعديل مذكرة بالاسباب الموجبة له. ولم تكن هناك مذكرة، ولم يكن من الصعب على رجال النظام أن يكتبوا مذكرة في غاية البساطة يقولون فيها أن المصلحة العامة والظروف التي تمر فيها البلاد تقتضي التعديل. سطر واحد كان يكفيهم. ولكن الثائرة ثارت على هذا المسكين وأرغم على الاعتذار للمجلس عن تقديم اقتراحه، وجاء رئيس المجلس ليعلن أن العضو قد أعلن “توبته”، نعم توبته، عما فعل. لقد كفر الرجل وتاب. هل يجوز هذا النفاق والى هذه الدرجة من رئيس مجلس الشعب؟ ولحسن الحظ فقد نحي هذا عن موقعه بعد انتخابات تلت هذه الواقعة، غير أن طبيعة المجلس نفسه لم تتغير، اذ بقي مجلس حزب واحد يتمتع هو ونوابه بالمزايا والحقوق والسلطة.
نكتفي بهذين المثلين عن مدى الهوان اذي وصلت اليه المجالس النيابية في معظم أرجاء الوطن العربي. أما محاسبتها للسلطة التنفيذية عن سياساتها ومساءلتها عن ذلك واسقاطها عند الاقتضاء بسحب التقة منها، فمعظم المجالس النيابية العربية لا تعرف شيئا من هذا. ولعل مجلس الشعب الكويتي والمجلس التشريعي الفلسطيني قد شذا عن هذه القاعدة في عدد من المواقف.
ويهمنا في هذا المقال التركيز على مصدر خطير من مصادر احتمال افساد الحياة النيابية في بلادنا، وهذا المصدر هو الاغراءات التي تنص عليها القوانين الخاصة بحقوق وامتيازات أعضاء المجالس النيابية. وفي هذا الشأن نتحدث عن الوضع في فلسطين، وله أمثاله في أقطار عربية أخرى.
أقر المجلس التشريعي الفلسطيني قانونين أصدرهما الرئيس الراحل تعبيرا عن موافقته عليهما وهما القانون رقم 10 لسنة 2004 والقانون رقم 11 لسنة 2004 ونشرا في الجريدة الرسمية العدد 52 المؤرخ 18 يناير 2005. القانون الأول يتعلق بواجبات وحقوق أعضاء المجلس التشريعي والقانون الثاني خاص بمكافآت ورواتب أعضاء المجلس التشريعي وأعضاء الحكومة والمحافظين. القانون الأول يعدد واجبات العضو وهي واجبات تتمشى بصورة عامة مع واجبات أي عضو في مجلس نيابي من حيث أنها تحظر عليه بعض النشاطات التي ترتبط بالحكومة حرصا على استقلاليته، كما تحظر عليه تولي أية أعمال وظيفية أو استشارية لدى أية جهة كانت مقابل أجر. وعلى العضو أن يقدم اقرارا بذمته المالية الخاصة به وبزوجه وبأولاده القصر، ويحفظ هذا الاقرار مغلقا وسريا لدى محكمة العدل العليا ولا يجوز الاطلاع عليه الا باذن المحكمة وفي الحدود التي يسمح بها القانون. هذه واجبات معقولة وتتمشى مع الاستقلالية التي يجب أن تكون لعضو المجلس النيابي.
هذا فيما يتعلق بالواجبات. ثم تعرض القانون للحقوق واذا من بينها:
(1) مكافأة شهرية
(2)بدل مهمات عن جلسات المجلس ولجانه تحدد بقرار من المجلس
(3) اعفاء جمركي لسيارة واحدة عن عضويته في كل مجلس تشريعي منتخب جديد، يتولى المجلس تأمينها وترخيصها وصيانتها طيلة مدة العضوية
(4) جواز سفر دبلوماسي دائم له ولزوجته
(5) وبدون المساس بالحقوق يستحق العضو أو ورثته من بعده مبغا يساوي 12.5% عن كل سنة قضاها في المجلس بحد أقصى لا يزيد على 80% من المبلغ الاجمالي المحدد للمكافأة الشهرية مربوطا بجدول غلاء المعيشة يصرفشهريا فور انتهاء عضويته في المجلس بانتهاء مدته أو بالوفاة أو العجز عن أداء مهامه أو الاستقالة. ولا يجوز الجمع بين هذه المكافأة وأي راتب أو مخصصات تقاعدية تصرف من حساب الخزينة العام.
القانون الثاني يضيف، ونستمر في الترقيم:
(6) المكافأة الشهرية حددت بمبلغ 3000(ثلاثة آلاف) دولار أو ما يعادلها بالعملة المتداولة قانونا.
(7) التقاعد حدد بأن لا يقل عن 50% من الراتب الشهري أيا كانت المدة التي قضاها العضو عضوا في المجلس. ويجوز الجمع بين لمستحقات التقاعدية مع أية مستحقت تقاعدية أخرى بما لا يتجاوز الحد الأعلى وهو 80% من المكافأة الشهرية.
(8) بدل تحسين أوضاع بقيمة 15000 دولار أمريكي ويصرف هذا المبلغ مرة واحدة بغض النظر عن مدة الولاية.
(9) أية حقوق مالية أخرى يقررها المجلس التشريعي لأعضائه.
هذه هي الحقوق المالية التي خصصت لعضو المجلس التشريعي في مجتمع ستون في المائة من أبنائه على الأقل يعيشون تحت خط الفقر حسب تقرير البنك الدولي، وحددت هذه الحقوق دون أي اعتبار لطبيعة العمل النيابي وللعبء المالي المرهق على ميزانية سلطة تعيش على المنح الخارجية، ودون أي اعتبار للخلل الخطير الذي تحدثه هذه الحقوق في سلم المرتبات في السلطة. انه هدر للمال العام لا مبرر له، ومدعاة للفساد، وتعبير سيء عن استغلال السلطة التشريعية لفائدة أعضائها، والتي يفترض فيها أن تعمل نيابة عن الشعب ف المحافظة على المال العام لا التصرف في لفائدة أعضائها بهذا الشكل المزري.
انها مخالفة لطبيعة العمل النيابي الذي يفترض فيه أن يكون عملا تطوعيا في الأصل لا مصدرا للثراء وتلامتيازات. القانونان لا يحرمان العضو من ممارسة أية مهنة أو تجارة أو حرفة، ولا يتطلبان منه التفرغ الوظيفي لعمله بحيث يستحق راتبا شهريا مقطوعا، وتقاعدا عن مدة نيابته. والأمر لا يتوقف عند حدود الراتب الشهري، بل أضاف القانون حقا للمجلس التشريعي بأن يقرر لأعضائه أية حقوق مالية أخرى. وبموجب القانون رقم 10، فانه يحق للمجلس أن يقرر لأعضائه بدل مهمات عن حضور جلسات المجلس أو المشاركة في لجانه، هذا بالاضافة الى الراتب الشهري، أي أن المجلس ينفرد باضافة أعباء مالية على الخزانة العامة لفائدة أعضائه.وهذه الأعباء لا تضاف بقانون تشترك فيه السلطة التنفيذية ووزارة المالية بوجه خاص، وانما يقررها المجلس وتفرض فرضا على الميزانية بغض النظر عن أثرها فيها. هذا وضع دستوري غريب، أن يترك لأية جهة كانت أن تقرر لنفسها حقوقا مالية تلتزم بها الميزانية العامة للدولة. الوضع السليم هو أن تقرر مكافأة عن حضور الجلسات، لا أن يتقاضى العضو الاثنين معا البدل والمرتب الشهري.
ولماذا المكافأة الشهرية بقيمة ثلاثة آلاف دولار ما دام أنه لم يشترط على العضو أن يتفرغ لعمله في المجلس؟ النائب ليس موظفا متفرغا، ولذلك فان الراتب الشهري الذي يقرر له يأخذ هذا الأمر في الاعتبار، فلا يكون في قمة الرواتب التي تدفع في الدولة وانما في أوسطها على أكثر تقدير. فكيف يقاس راتب عضو المجلس التشريعي مقارنة برواتب الموظفين المتفرغين؟ هذه مسألة يبدو أنها غابت عن المشرع الفلسطيني. هناك اختلال خطير في الموازين وفي الفلسفة التي يستند اليها في تقرير المرتبات وغيرها من الحقوق.
ليس هذا فحسب، بل انهم يستحقون تقاعدا في اللحظة التي تنتهي فيها مدة المجلس أو عند استقالتهم أو وفاتهم، في حين أن الموظف عليه أن ينتظر سن التقاعد، فيكون راتب لتقاعد هو الدخل الذي يعتمد عليه الكثيرون منهم عندما يصبحون عاجزين عن العمل، في حين أن أعضاء المجلس التشريعي يتقاضون تقاعدهم دون شرط بلوغ سن معينة، ومعنى هذا أن العضو يستطيع أن يستمر في ممارسة تجارته أو مهنته ويتقاضى هذا التقاعد الضخم الذي لا يصل اليه الموظف عندما يصل سن التقاعد والعجز عن العمل المنتج. وهذا التقاعد ينتقل لورثته عند وفاته، كما أن سيبلغ بسهولة الحد الأقصى وهو 80ً%، أي بعد أقل من سبع سنوات عضوية، مع ملاحظة أن القانون قد نص في مادة استثنائية الا يقل الراتب التقاعدي عن 50% من الراتب مهما كانت المدة التي يقضيها في عضوية المجلس. هذا باب واسع لافساد الحياة النيابية باغراء المغامرين والانتهازيين، خاصة وأن التقاعد سيكون على الأقل خمسين في المائة من الراتب مهما كانت مدة العضوية. وعلى هذا الأساس فان ميزانية التقاعد ستكون في تصاعد مستمر بازدياد المستحقين لها من اعضاء جدد مع كل انتخابات جديدة، خاصة وأنها ستكون وراثية الى ما لا نهاية، ولا يساهم الاعضاء في تكوين صندوق لها كما هو الحال في صناديق التقاعد. فأية ميزانية تستطيع تحمل هذا العبء؟
ولماذا لا يدفع العضو من هذا المرتب الضخم الرسوم الجمركية على سيارته أسوة بغيره من المواطنين الذين لا يصل دخلهم الى مستوى راتبه الشهري؟ لم يشترط القانون الا تستعمل السيارة الا في أغراض المجلس. فالسيارة يستعملها العضو لقضاء أغراضه الخاصة في نشاطاته الأخرى دون قيد. وما دام الوضع كذلك فما هو المبرر ليكون تأمين السيارة وترخيصها وصيانتها على حساب المجلس وليس على حساب صاحبها؟ وما دام أن العضو يستحق سيارة جديدة معفاة من الرسوم الجمركية عند كل مجلس جديد، فان الفرصة تكون متاحة للعضو للمتاجرة في سياراته وانتقال ملكيتها الى أشخاص آخرين دون أن تكون قد سددت عنها الرسوم الجمركية. والخاسر دائما هو الخزانة العامة.
وأضاف القانون حقا غريبا للعضو وهو أن يكو له الحق هو وزوجته، وربما زوجاته، في جواز سفر دبلوماسي دائم، وليس فقط طوال ما هو عضو في المجلس. ومعنى هذا أنه قد يكون تاجرا أو مهندسا أو مقاولا ومع ذلك له الحق في جواز سفر دبلوماسي دائم بما يمنحه هذا الجواز من مزايا معترف بها دوليا. هذا وضع لا تعرفه الدول التي تحترم جواز سفرها الدبلوماسي أو تريد من الدول الأخرى أن تحرم هذا الجواز.
ولماذا يتقاضى العضو بدل تحسين بمبلغ خمسة عشر ألف دولار؟ ان الناخبين الذين يمثلهم قد اقتنعوا به على ما كات عليه، هذا هو المهم، ثم ما دام يتقاضى هذا الراتب الكبيرفلماذا لا يشتري منه البدلة التي يريدها كما يفعل الموظفون والمواطنون من كافة الطبقات. هذه بدعة ومصدر للثراء العاجل على حساب المال العام. واذا نظرنا الى العبئ المالي على الميزانية فان المبلغ الذي سيدفع يكفي لاصلاح أحوال الكثير من الاسر الفلسطينية المحتاجة. فعلى وجه التقريب اذا كان عدد أعضاء المجلس مائة فان هذه العلاوة لوحدها ستكف الخزانة العامة مليونا ونصف مليون دولار تدفع لمن يتقاضون ثلاثة آلاف دولار في الشهر، ناهيك عن المزايا الأخرى.
ولكي تتضح الصورة نشير الى الحقوق والمزايا في الدول التي تزن الأمور بميزانها الصحيح حيث نجد أن عضو البرلمان يتقاضى مرتبا وسطا،بل وأقل من الوسط، بالنسبة للموظفين المتفرغين، فهؤلاء وحدهم هم الذين يتقاضون المرتبات العالية لأنه يحظر عليهم ممارسة أي عمل آخر يتكسبون منه، ويتمتعون بنظام تقاعدي. أما أعضاء البرلمانات فعملهم خدمة عامة في اطار نظام سياسي لا يسمح لهم بأن يكون عملهم هذا سبيلا للثراء، فثراؤهم يأتيهم من عملهم الخاص، حيث لا يشترط فيهم التفرغ للعمل البرلماني. ونضرب مثلا ببريطانيا والهند.
في بريطانيا مثلا قاضي المحكمة العليا، وهي محكمة بداية، يتقاضى ضعفي ما يتقاضاه العضو في مجلس العموم، فالقاضي يتقاضى حوالي مائة ألف جنيه في السنة، وله تقاعده الذي يصل الى ثلاثة أرباع مرتبه بشرط أن يقضي في وظيفته مدة معينة حددها القانون، في حين أن عضو مجلس العموم يتقاضى 57485 جنيها في السنة أي حوالي ستة الآف جنيه في الشهر في دولة ميزانية بلدية من بلدياتها أضعاف ميزانية فلسطين،بل وأضعاف ميزانيات عدد من الدول العربية، وغلاء المعيشة فيه أعلاه في العالم، وليس للعضو تقاعد عن عضويته ولا سيارة معفاة من الرسوم الجمركية يرخصها ويؤمنها ويصونها مجلس العموم البريطاني، ولا جواز سفر دبلوماسي دائم أو غير دائم لا له ولا لزوجته، ولا بدل تحسين أوضاع أو بدل حضور جلسات أو لجان. ويدفع عضو البرلمان ضريبة الدخل العالية التي تبلغ 40%، وضريبة التأمين الاجتماعي التي تشمل تقاعدا لكل مواطن عند بلوغ سن التقاعد وليس قبل ذلك، كما ينفق منه على اتصالاته بالناخبين، الذين يعدون بمئات الالوف، وزيارة دائرته الانتخابية، ويتحمل نفقات السفر العالية سواء بسيارته أو بوسائل النقل العامة، وعلاوة السيارة فيما يتعلق بعمله البرلماني، أي من بيته لدار البرلمان، هي حوالي نصف جنيه للميل مع العلم أن ثمن لتر البنزين هو حوالي ضعف هذا المبلغ. أما التقاعد فلا حق لهم فيه ما داموا قد اختاروا العمل السياسي بدلا من الوظيفي. في بريطانيا يتقاضى الأمين العام لمجلس الوزراء وهو أعلى موظفى الدولة، تقريبا ضعف ما يتقاضاه رئيس الوزراء الذي يتقاضى 121437 جنيها في السنة أو الوزير الذي يتقاضى 72862 جنيها سنويا. طبعا جميع هذه المرتبات نخضع لضريبة الدخل. والوزير عندما يستقيل أو يقال يتقاضى مقابل نهاية خدمة مقداره راتب ثلاثة أشهر فقط. لاتقاعد أو ما يشبه ذلك. السبب هو التفرغ من جهة وطبيعة العمل من جهة أخرى. وبالمقابل فان رواتب أعضاء المجلس التشريعي ومخصصاتهم لم تأخذ في الاعتبار مرتبات الموظفين المتفرغين، واعتبر الأعضاء أنفسهم كبار كبار الموظفين في الدولة من حيث المرتبات، وفوق الموظفين المتفرغين دون تفرغ مثلهم لعملهم في المجلس. اننا لا نعارض في أن يتقاضى عضو المجلس التشريعي مرتبا أو مكافأة، ولكننا نعترض على هذه المغالاة فيها وعدم وضعها في الميزان الصحيح في سلم المرتبات، ونعترض على أن تكون هي وغيرها من المزايا مصدرا للثراء وارهاق الميزانية.
وفي الهند، أكبر ديموقراطية في العالم والتي يتوقع لها هي والصين أن تكون منافسا جديا للولايات المتحدة وأصبحت المركز العالمي لتكنولوجيا المعلومات، نجد أن راتب عضو مجلس النواب 12000 روبية هندية. والدولار الامريكي يعادل حوالي 43 روبية. ومعنى هذا أن الراتب الشهري يقل عن 300 دولار، أي عشر الراتب المقرر لعضو المجلس التشريعي الفلسطيني. ويتقاضى العضو 500 روبية يوميا عن الجلسات التي يشارك فيها. أما التقاعد فهو 3000 روبية (حوالي 70 دولارا في مقابل حد أدنى مقداه 1500 دولار لعضو المجلس التشريعي الفلسطيني) عن كل فصل برلماني مدته خمس سنوات يضاف اليها 600 روبيةعن كل سنة تزيد عن الخمسة. وهذا التقاعد لا يتوارث، وانما تستحق زوجة العضو الذي يتوفى 1500 روبية تدفع لها لمدة خمس سنوات من تاريخ الوفاة. أما السيارة فللعضو الحق في أن يأخذ قرضا يسدده اثناء مدة العضوية ويصبح مستحقا بالكامل عند انتهاء العضوية. واذا لم يأخذ العضو قرضا فانه يستحق علاوة تنقل مقدارها ثمانية روبيات للكيلو المتر الواحد من مكان اقمته الى المجلس. ويدفع العضو ضريبة الدخل كغيره من المواطنين على هذه المزايا. وطبعا لا يوجد جواز سفر دبلومسي دائم أو غير دائم، لا له ولا لزوجته. وفي الهند يعاد النظر في هذه الحقوق والمزايا كل خمس سنوات لكي تتمشى مع تكاليف المعيشة. فحتى عام 2001 كان المرتب 4000 روبية زيدت في ذلك العام لتصبح الرقم الذي ذكرناه وهو أقل من 300 دولار. وكما هو الحال في بريطانيا وفلسطين، فانه لا يشترط تفرغ العضو لعمله النيابي.
اننا نعلم أن دولا عربية أخرى قد أعطت نوابها حقوقا ومزايا مشابهة. وهي كلها مطبات لافساد الحياة النيابية. ولن نكل عن تذكير الأخوة بأن النظم العربية ليست هي القدوة التي علينا أن نقتدي بها، ونحن نرى هذا الغليان على امتداد الوطن العربي الذي يطالب بالاصلاح، ونرى بأم أعيننا الحالة التي وصلت اليها الحياة النيابية في معظم أرجاء الوطن العربي، وهي حالة مزرية بأي مقياس من المقاييس. أن واجبنا أن نشق طريقا لاحترام المال العام وموازنة الأمور بميزانها الصحيح. قد يقال ان الدول المانحة هي التي تتكفل الآن بدفع هذه المبالغ، غير أن هذا يتجاهل أن الوضع السليم هو أن تكون في قدرة الميزانية العامة للوطن أن تنفق على اجهزتها على الأقل من دخلها، وا ارتهنت المصير بيد الغير. وانها لنظرة قصيرة وخاطئة الاعتماد على العون الخارجي لتوفير ضروريات الحكم، فهل يستطيع الدخل الفلسطيني من مواردفلسطين الخاصة أن تتحمل هذا العبء والأعباء الأخرى؟ واذا كانت الظروف الراهنة قد جعلت الاتحاد الاوروبي والدول المانحة الأخرى تسكت عن هذا الوضع، فماذا يكون الحال في المستقبل حيال هذه الالتزامات التي فرضت على الشعب الفلسطيني؟ هذا وضع لا يستقيم ويجب الا يستمر.
1-نشرت في القدس العربي بتاريخ 4 يوليو 2005 ص 18.
2-من مؤسسي منظمة التحرير الفلسطينية