د. انيس مصطفي القاسم
لقد استطاع الجنرال الاسرائيلي المتقاعد دورون المو الفرار من لندن قبل القبض عليه للتحقيق معه في تهم موجهة اليه بارتكاب انتهاكات جسيمة لاتفاقية جنيف الرابعة، وهي انتهاكات يعاقب عليها القانون الانكليزي. وقد أصدر قرار القبض كبير قضاة محكمة (بو ستريت) يوم 10 ايلول (سبتمبر) 2005 بعد أن دلت التحريات علي أن الموج سيصل الي مدينة بيرمنغهام البريطانية يوم الأحد 11 ايلول (سبتمبر). غير أن الخبر قد وصل اليه بطريقة ما، فعاد أدراجه الي اسرائيل من المطار.
والموج هذا البالغ من العمر 54 سنة كان قائد القوات الاسرائيلية للمنطقة الجنوبية (قطاع غزة) في الفترة ما بين 8 كانون الاول (ديسمبر) 2000 حتي 7 تموز (يوليو) 2003. وتحت قيادته ارتكبت القوات الاسرائيلية انتهاكات كثيرة لحقوق الانسان الفلسطيني بالمخالفة لاتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بمعاملة المدنيين تحت الاحتلال. وقد وُجِهت اليه مبدئيا تهمة تدمير 59 بيتا في مخيم رفح للاجئين في 10 كانون الثاني (يناير) 2002، وبناء علي ادلة أعدها المركز الفلسطيني لحقوق الانسان، اعدادا جيدا وقدمها للمحامين في لندن، الذين قاموا بدورهم بعرضها علي المحكمة، صدر أمر القبض عليه لوحدة مقاومة الارهاب وجرائم الحرب التابعة لشرطة لندن. غير أنه تمكن من العودة من حيث أتي قبل القبض عليه. والي جانب هذه التهمة فقد قُدمت أدلة علي مسؤوليته عن ارتكاب جرائم قتل محددة ضد أفراد وجريمة قتل جماعي حين تفجرت قنبلة تزن طنا في مدينة غزة وقتلت 15 شخصا وجرحت أكثر من 150. غير أن أمر القبض كان قاصرا علي تهمة تدمير المنازل علي أساس أن التحقيق معه، بعد القبض عليه، في امكانه أن يشمل الجرائم الاخري. وقَْبْلَ ألموج هذا فَرَّ موفاز من انكلترا لتجنب القبض عليه.
في كل يوم تقريبا ترتكب اسرائيل جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية يعاقب عليها القانون، وكانت مطمئنة الي عدم المحاسبة القانونية علي هذه الجرائم بحكم أنها رفضت الانضمام للاتفاقية الدولية التي انشأت محكمة الجنايات الدولية، ولأنها مطمئنة كذلك الي أن مجلس الأمن لن يقوم بانشاء محكمة خاصة، علي غرار ما حدث في مناسبات أخري ارتكبت فيها جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية، كما هو الحال مثلا في يوغوسلافيا السابقة، ولأنها كذلك مطمئنة الي أن مجلس الأمن سيمنعه الفيتو الامريكي من اتخاذ قرار باحالة المتهمين الاسرائيليين الي محكمة الجنايات الدولية، بناء علي اختصاص مجلس الأمن في هذا الشأن، حتي ولو لم تكن دولة المتهم طرفا في المعاهدة الدولية التي أنشأت المحكمة، كما حصل مع متهمين سودانيين بارتكاب جرائم ضد الانسانية في دارفور. ومما كان يزيد في اطمئنان اسرائيل أن حاميتها و راعية نشر الديمقراطية وسيادة القانون في العالم ، الولايات المتحدة الامريكية، لم تنضم هي الأخري لاتفاقية انشاء المحكمة هذه، بل أنها أبرمت اتفاقات مع بعض الدول، ومن بينها مصر مع الأسف، تقضي بعدم تسليم الرعايا الامريكيين للمحاكمة أمام تلك المحكمة، اذا أصدرت المحكمة أمر جَلْبٍ لهم وكانوا في أرض تلك الدولة . ولمزيد من طمأنة اسرائيل فان قرار القمة العربية القاضي بملاحقة اسرائيل علي جرائمها قد نُسِيَ تماما ولم يُتابَع لا من لجنة المتابعة ولا من أي جهة رسمية عربية.
وبالرغم من هذا كله فان الأبواب ليست مغلقة بالكامل، كما أثبتت ملاحقة موفاز وألموج، واحتمال الملاحقة القضائية في الخارج ما زال ماثلا في أذهان المسؤولين الاسرائيليين. وليس أدل علي ذلك من تصريحات وزير العدل الاسرائيلي الذي قال ان التصرفات الاسرائيلية ستقود القياديين السياسيين والعسكريين في الدولة العبرية عاجلا أم آجلا الي محكمة جرائم الحرب في لاهاي . كما قال بأن ذلك سيؤدي في نهاية الأمر الي طرد اسرائيل من الأمم المتحدة والي مقاطعة العالم بأسره لاسرائيل.
هذا التخوف الاسرائيلي ثبت أن له ما يبرره، خاصة وأن اسرائيل لا تُقَدِّم للمحاكمة السياسيين والعسكريين الذين يرتكبون أفعالا جرَّمتها اتفاقية جنيف الرابعة أو يرتكبون جرائمَ حرب وفقا للقانون الدولي. وها هو شارون يرأس الحكومة بالرغم من أن التحقيق الذي أجري بشأن مجزرة صبرا وشاتيلا قد أكد مسؤوليته غير المباشرة عن المجزرة، مع أنه كان يجب أن يترك الأمر للقضاء لتقرير هذه المسؤولية وليس للجنة ادارية. وما دامت اسرائيل لا تُحاكِم هؤلاء المجرمين محاكمة جدية وتُنزل بهم العقوبات التي يجب فرضها في حالات مماثلة، فإن محاكمتهم في الخارج تظل قائمة. والسبب في ذلك هو أن محاكم جميع الدول المنضمة لاتفاقية جنيف الرابعة مختصة في النظر في الجرائم التي ترتكب انتهاكا لها. ولا توجد دولة حسب ما نعلم ليست طرفا في هذه الاتفاقية.
وعلي هذا الاساس لن ينفع اسرائيل عدم انضمامها للمعاهدة التي أنشأت محكمة الجنايات الدولية، حيث أنه بالامكان ملاحقتها أمام المحاكم الوطنية في أية دولة هي طرف في اتفاقية جنيف الرابعة.
ان الخوف من المحاسبة القانونية أصبح اليوم هاجسا جديا مقلقا لاسرائيل وقادتها، بالرغم من تماديهم في جرائمهم، خاصة وأنهم يعلمون أن هذه الجرائم لا تتقادم بمرور الزمن، فهاهم النازيون القدامي ما زالوا يلاحقون بعد أكثر من نصف قرن من الزمان علي ارتكاب الجرائم المتهمين فيها، واسرائيل أصبحت تعلم أن النشطاء العرب والأجانب في ميدان حقوق الانسان وسيادة القانون واعون لهذا الأمر تماما وينصبون الكمائــــن للمتهمين الاسرائيليين. ولذا فإن اسرائيل لا تستطيع الاطمئنان الي الفيتو الامريكي ولا الي تخاذل الأنظمة العربية في ملاحقتها عن جرائمها.
ان عملية ملاحقة المتهمين الاسرائيليين علي نطاق دولي عملية طويلة ومعقدة، وتحتاج الي تنظيم ونفس طويل، وتوثيق دقيق تقتنع المحكمة الأجنبية بسلامته وجدية الادعاء، وجهود كبيرة في جمع الأدلة وافادات الشهود بسبب العراقيل التي سبقت الاشارة اليها وبسبب الأوضاع السائدة في الأراضي الفلسطينية التي تجعل عملية توثيق الجرائم الاسرائيلية اليومية في غاية الصعوبة والتعقيد. ولا يسعنا إلا أن نُقدم التهنئة للمركز الفلسطيني لحقوق الانسان علي المهنية العالية في إعداد ملف أقنع القاضي البريطاني بجدية الدعوي. بالرغم من هذه العقبات فانه لا بد من مواجهة الأمر قدر المستطاع حتي لا تتوهم اسرائيل بأنها تستطيع أن ترتكب من الجرائم ما تشاء وتفلت من العقاب. فانها ستعاقب، ان عاجلا أو آجلا، علي مجازرها وجرائمها منذ أن قامت، وهذه هي مسؤولية الأجيال المتعاقبة من أبناء الأمة العربية، تماما كما لا يزال اليهود يلاحقون المتهمين النازيين.
هذه الحاجة الي التنظيم والاستمرارية وتوحيد الجهود كانت من بين الدوافع التي أدت الي انشاء صندوق العون القانوني للفلسطينيين عام 2002 بفرعيه في بيروت ولندن، بحيث توجد مؤسسة تستطيع متابعة الموضوع جيلا بعد جيل، بالتعاون الوثيق مع منظمات حقوق الانسان الفلسطينية والاجنبية. فمن بين أهداف الصندوق طويلة الأجل، ملاحقة مجرمي الحرب الاسرائيليين، بالاضافة الي هدف عاجل وهو تقديم العون القانوني للدفاع عن الاسري والمعتقلين العرب والفلسطينيين في السجون والمعتقلات الاسرائيلية.
ان الصندوق مجهود شعبي، وكذلك الحال مع منظمات حقوق الانسان الفلسطينية والأجنبية، وجميعها تعتمد علي الدعم الشعبي لها في تمويل نشاطاتها، حيث أنه لا أمل في دعم من أنظمة عربية كان من أول واجباتها أن تتصدي هي لاسرائيل والمتهمين الاسرائيليين. ولذا فاننا ندعو الخيرين من ابناء هذه الأمم أن يلتفوا حول هذه المنظمات، وأن يدعموها لتستطيع مواصلة نشاطٍ هو في صميم مبدأ سيادة القانون الذي تطمح اليه جميع الشعوب وتدعي جميع الدول أنها تحترمه،عن طريق اللجوء الي القضاء، بحيث لا يمكن أن يُفسر نشاطها بأنه نشاط إرهابي لا يجوز دعمه وفقا للمعايير التي فرضتها أمريكا علي الأنظمة العربية.
غير أن هذا الجهد الشعبي لا يعفي الأنظمة العربية من مسؤوليتها عن ملاحقة المتهمين الاسرائيليين. وأول ما يجب عليها أن تفعله هو الانضمام للاتفاقية التي انشأت محكمة الجنايات الدولية، حيث أن الأردن وحده هو الذي انضم اليها، وتخويل قضائها الوطني، بنصوص صريحة، اختصاص محاكمة المتهمين بارتكاب جرائم ضد الانسانية وفقا لاتفاقية جنيف الرابعة ونظام محكمة الجنايات الدولية. وهذا ما فعلته الدول الأطراف في الاتفاقيتين. فاذا حصل هذا أمكن محاكمة الاسرائيليين أمام المحاكم العربية، اذا وطأوا أرضا عربية. وكذلك، وبعد القرار الاستشاري لمحكمة العدل الدولية الذي أدان بناء الجدار العنصري، واعتبر اسرائيل ملزمة باتفاقية جنيف الرابعة، فقد أصبح من واجب الدول العربية أن تنشط في الجمعية العمومية للامم المتحدة ومجلس الأمن لإنشاء محكمة خاصة تحاكم المتهمين الاسرائيليين ولو عن عدم امتثالهم لرأي المحكمة في التوقف عن بناء الجدار وهدمه. والي أن تنجح هذه الجهود، يجب العمل علي تعليق عضوية اسرائيل في الامم المتحدة تمهيدا لطردها للسبب ذاته. إن مصداقية الولايات المتحدة الحامية لاسرائيل مهتزة في العالم ونفوذها في تدهور، وهي فرصة لا تسنح دائما.
ولكن يبقي دائما السؤال الكبير وهو هل ستقدم الدول العربية علي مثل هذه الخطوات التي لا تتردد دول العالم الأخري في اتخاذها لو كانت هي ضحية جرائم حرب كالجرائم الاسرائيلية؟ أليس من العار أن يجري ما جري في بريطانيا من قاض بريطاني ومحامين بريطانيين وشرطة بريطانية بناء علي شكوي فلسطينية، ولا يمكن حصول شيء منه في دولة عربية أو اسلامية يتردد عليها المجرمون الاسرائيليون بحرية؟
ومهما يكن موقف الانظمة العربية، فان العمل الشعبي لملاحقة مجرمي الحرب الاسرائيليين سيتواصل من جانب منظمات حقوق الانسان الفلسطينية والعربية والأجنبية ومن المحامين الشرفاء في أماكن كثيرة من العالم، وسيعمل هؤلاء في هدوء وروية ودون ضجيج اعلامي، ليجد الاسرائيليون الجناة أنفسهم واحدا بعد الآخر، مدنيين وعسكريين جنودا وقادة وسياسيين، أمام القضاء ان عاجلا أو آجلا، أو تصبح اسرائيل سجنا لهم لا يقدرون علي مغادرته.
القدس العربي