تعقيب على محاضرة البابا في جامعة ريجينزبيرج
د. أنيس مصطفى القاسم
1 – ألقى قداسة البابا بندكت السادس عشر في 12 سبتمبر 2006 محاضرة في جامعة ريجنينزبيرج اختتمها بدعوة للحوار حول قضايا أثارها في تلك المحاضرة. وفي هذا التعقيب نعالج هذه القضايا بايجاز تحت عنوانين رئيسيين: (لأول) التهمة الموجهة للاسلام بانه ارغم الغير على اعتناقه عن طريق العنف، و(الثاني) الايمان والعقلانية، والتي يبدو أنها، في رأي البعض، قضية أخرى بالنسبة للاسلام.
اعتناق الاسلام بالعنف
2- سأعالج هذا الموضوع من زاويتين، (الاولى) ادلة التاريخ، و(الثانية) ادلة النصوص. الا انه قبل الخوض فيهما لا بد من بحث قضية في غاية الأهمية، وهي المصداقية. لقد أدرك قداسة البابا ردود الفعل لما استشهد به من أقوال الامبراطور ايمانويل الثاني، فقال في العظة التي التي القاها في 17 سبتمبر ما نصه ” ان هذه في الحقيقة هي مقتطفات من نص كتب في القرون الوسطى، ولا تعبر بأي وجه من الوجوه عن تفكيري الشخصي”. اذا كان الأمركذلك، فما هو الهدف اذن من الاستشهاد بها؟ ان قداسته، بوصفه باحثا اكاديميا، يدرك تماما أن الاستشهاد بقولٍ ما، يكون له عادة أحد هدفين: اما لدعم رأي يطرحه المستشهد، واما لأن القول المستشهَدَ به يحتاج الى بحث لتوضيحه أو لنقده. فاذا كانت الاقوال التي استشهد بها قداسته لا تعبر عن تفكيره الشخصي فقد كان عليه، بوصفه باحثا متميزا، أن يباعد بينه وبينه في محاضرته أو يتجنبها كلية. ولكنه لم يفعل أيا من هذين الأمرين، بل على العكس من ذلك، فانه قد أعطى، على ما يبدو، تأييده الضمني لها، على الأقل عندما أشار مباشرة الى الآية 256 من السورة الثانية (البقرة) والتي تصها “لا اكره في الدين” وأردفها بتعليق قال فيه “انها من السور المبكرة عندما كان محمد لا يزال لا قوة له وتحت التهديد”. وأولا، ان هذه السورة لم تكن من السور المبكرة، فقد نزلت في المدينة عندما كان الرسول آمنا وقويا. وثانيا، فان هذه الملاحظة من جانب قداسة البابا، عند ربطها بما جاء بعدها في محاضرته من أنه ” من الطبيعي أن يكون الامبراطور على علم بالتعليمات التي طرأت فيما بعد ودونت في القران فيما يخص الجهاد” قد تؤدي الى الاستنتاج بأن قداسته قد منح النص المستشهد به دعما أكثر من الدعم الضمني. ولهذا ليس من السهل قبول ما قاله قداسته من أنه، وقت كتابة محاضرته على الأقل، لم يكن يشارك الامبراطور في رأيه. من حق البابا بطبيعة الحال أن يعيد النظر في رأيه، ولكن، في هذه الحالة، تثور أسئلة أخرى لا داعي للتعرض لها.
أولا: أدلة التاريخ
3 – هل أدلة التاريخ وشواهده تدعم الادعاء بأن الاسلام يؤيد فرضه على الغير بالقوة أو يدعو الى ذلك؟ انني لا استطيع الا أن أفترض أن قداسته قد مارس مهاراته الاكاديمية في البحث عندما قرر القاء محاضرة في هذا الموضوع، ويدل على ذلك استشهاده بنص قروسطي واتخاذه لهذا النص نقطة انطلاق لمحاضرته. واستنادا على هذه الفرضية، فانه يكفي أن نلمح فقط الى بعض الحقائق التاريخية لعلها تنبه قداسته الى ضرورة المزيد من التأمل.
4 – لاشك أن قداسته على علم بوجود كنائس مسيحية ومسيحيين باعداد كبيرة في العديد من البلدان الاسلامية، وخاصة في بلدان الشرق الأوسط التي أصبحت تحت الحكم الاسلامي ، منذ القرن السابع الميلادي، بعد ظهور الاسلام وزوال الامبراطورية البيزنطية. وهذه البلدان تشمل البلدان العربية الاسلامية فلسطين والاردن ولبنان وسوريا والعراق ومصر.وقد كانت المسيحية قائمة في هذه الاقطار قبل مجيء الاسلام وقبل الحكم الاسلامي. فلو كان الاسلام من بين الديانات التي تفرض اعتناقها بالقوة أو كان الجهاد قد شرع أو استعمل لفرض الاسلام بالعنف لما بقيت الكنائس أو المسيحية في هذه الاقطار منذ القرن السابع الميلادي وحتى يومنا هذا، أي لمدة تزيد على أربعة عشر قرنا. انني متأكد أن قداسته يعرف دون شك بأن في القدس مطرانا كاثوليكيا وأن الكاثوليكية جاءت الى الشرق الأوسط الاسلامي مع الحروب الصليبية، ومع هذا فانه عندما عاد الحكم الاسلامي الى القدس، فلا الكنيسة الكاثوليكية ولا مطرانها ولا اتباعها ارغموا على اعتناق الاسلام، بالرغم من تبعيتهم جميعا للبابا الذي كان قد أثار نيران الحروب الصليبية. فهل كان هؤلاء سيستمر بقاؤهم لقرون تحت الحكم الاسلامي لو كان الاسلام يدعو الى اعتناقه بالعنف أو كان الجهاد وسيلة لذلك؟ ولا شك أنه يعلم أن اعتناق الاسلام من قبل كثيرين من ابناء هذه الاقطار قد استغرق أكثر من ثلاثمائة سنة، وأن الذين لم يختاروا اعتناقه قد بقوا على مسيحيتهم مع كنائسهم وبابواتهم ورجال دينهم حتى يومنا هذا. ان التاريخ يحدثنا أن مسيحيي هذه الاقطار قد رحبوا بالحكم الاسلامي لتخليصهم من طغيان الاباطرة البيزنطيين الكاثوليكيين، وأن القبائل العربية المسيحية قد انضمت للجيوش الاسلامية ضد الامبراطورية الفارسية للسبب نفسه، وأن مسيحيي فلسطين انضموا لاخوانهم المسلمين اثناء الحروب الصليبية للدفاع عن الاماكن المقدسة، وأن مسيحيي الشرق الاوسط هم في قلب النضال العربي من أجل التحرر والنهضة والتقدم، وأنهم اسهموا، وما زالوا يسهمون، بشكل بارز في بناء الحضارة العربية الاسلامية التي يعدونها، بحق، حضارتهم.
5 – ان قداسته، وهو الاكاديمي، لا شك يعرف الظروف والشروط التي رافقت دخول القدس تحت الحكم الاسلامي عام 637 للميلاد. وباختصار، فان كبير اساقفة المدينة أصر على أن لا يسلمها الا الى خليفة المسلمين شخصيا. ومع أن كبير الاساقفة لم يكن في وضع يسمح له باملاء شرط كهذا، حيث أن جيش الامبراطورية البيزنطية كان قد هزم بالكامل، الا أن القائد المسلم لم يكتسح المدينة، كما كان من المحتمل جدا أن يفعل أي قائد عسكري آخر، أو لو كان الجهاد سبيلا لفرض الاسلام بالعنف. القائد المسلم نقل الطلب الى الخليفة عمر بن الخطاب. وعمر هو ثاني خلفاء المسلمين وكان من الصحابة المقربين للرسول ومن مستشاريه قبل وفاته، وكان مطلعا اطلاعا عميقا على تعاليم الرسول وتعاليم الاسلام. واستجاب الخليفة للطلب وقطع كل المسافة الى القدس، وأبرم مع كبير الاساقفة عهدا، هو العهدة العمرية، التي لا زالت محفوظة في سجلات الكنيسة. وارجو من قداسة البابا أن يطلب نسخة منها، اذا لم تكن موجودة في مكتبة الفاتيكان، وليحكم بنفسه ما اذا كان لها مثيل في تاريخ الديانات كلها في التسامح واحترام المعتقدات الدينية للاخرين وحمايتها، وما اذا كان في التاريخ الانساني مثيل لاستجابة الخليفة المسلم. وهذه العهدة العمرية هي التي أمَّنَتْ استمرار وجود الكنائس والمسيحية، والحمايةَ الاسلاميةَ لها. ولا بد أن قداسته يعلم أنه في اثناء تلك الزيارة وعندما كان الخليفة في كنيسة القيامة حل موعد الصلاة للمسلمين، فدعا كبيرُ الاساقفة الخليفةَ ليصلي في الكنيسة، الاأن الخليفة رفض قائلا أخشى أن يقول المسلمون فيما بعدي: “هنا صلى عمر”، ويقيموا مسجدا. ولحماية الكنيسة من هذا الاحتمال، غادر الخليفة الكنيسة وصلى في فضاءٍ خارج فضاء الكنيسة ، حيث بني فيما بعد مسجد صغير لا يزال قائما اسمه مسجد عمر. كان هناك فرصة ذهبية للخليفة عمر، بل ولقائده، أن يستولي على أقدس كنيسة في المسيحية ويقضي على الحضور المسيحي في الاراضي المقدسة؛ غير أنه لم يفعل ذلك؛ وانما تعهد بالاعتراف الكامل بهما وبحمايتهما. ومع الأسف فان حكمة هذا الخليفة وقائده العسكري وعقلانية ما قاما به وما انطوى عليه من تسامح وتمسك بحرية الغير في اعتناق الدين الذي يراه قد غابت كلها عن قداسة البابا عندما أخذ يشير الى “التحول الديني بالعنف”. وما دام الحديث عن كنيسة القيامة، فلا شك أن قداسته يعلم بأن مفاتيح هذه الكنيسة، وهي أقدس كنيسة للمسيحيين، قد وُضِعَت وديعة في أيدي اسرتين مسلمتين من أُسَر القدس، باتفاق جميع الطوائف المسيحية، بما فيها الكاثوليكية، وأن أبناء هاتين الاسرتين يقومومون يوميا ولعدة قرون، بفتح أبواب الكنيسة واغلاقها للمصلين. وأما الكنيستان الاخريان الرئيسيتان للمسيحية، وهما كنيسة المهد وكنيسة الصعود، فقد تمتعتا بالاحترام والحماية أيضا من المسلمين وحكامهم طوال الحكم الاسلامي للقدس. ولم تُفْلِح حتى الحروب الصليبية غير المقدسة، وما رافقها من سفك دماء الالاف من المسلمين في مدينة القدس، في تغيير هذا الموقف الاسلامي. فلم يكن هناك انتقام من المسيحيين أو الاماكن المسيحية المقدسة، عندما استرد صلاح الدين المدينة في جهاده للدفاع عن أرض الاسلام، مع أن الصليبيين، اتباع البابوية وتعاليمها في ذلك الوقت، قد كانوا قد حولوا المسجد الاقصى، وهو من أقدس المساجد الاسلامية، الى اصطبل لخيولهم. ولم يستخدم صلاح الدين الحروب الصليبية ذريعة أو مبررا لفرض الاسلام على الجميع.
6 – هذه شهادة التاريخ بالنسبة للشرق الاوسط. ولا بد أن قداسته قد درس تاريخ اسبانيا الاسلامي. فهنا أيضا لم يكن هناك ارغام لاعتناق الاسلام؛ بل على العكس من ذلك، واقتداءً بما فعله عمر، فان المسيحية لم تُمْحَ من الوجود أو تُضْطَهد. وتم اعتناق الاسلام ممن اعتنقوه على مدى سبعة قرون من الحكم الاسلامي. وقد احتفظ كثيرون بعقيدتهم المسيحية، فبقيت الكنائس والاساقفة ورجال الدين المسيحي ودور الرهبان والراهبات، يقومون بواجباتهم الدينية وغير الدينية لرعاياهم. كانت اسبانيا، تحت الحكم الاسلامي، هي البلد الوحيد في أوروبا الذي يتمتع بالتعايش السلمي المثمر والتعاون لسبعة قرون كاملة بين المسلمين والمسيحيين واليهود، وكانت المنارةَ الوحيدة للمعرفة والحضارة في القارة كلها. وقد تمتع اليهود، الذين كانوا يعانون من الاضطهاد في الاقطار الاوروبية الاخرى، بعصرهم الذهبي تحت الحكم الاسلامي في اسبانيا. والأمر الغريب الذي يدعو الى التأمل هو أنه في الوقت الذي كان يجري هذا في اسبانيا، فان الكنيسة الكاثوليكية والحكام المسيحيين في بقية أوروبا كانوا منغمسين في الحروب وفي اضطهاد المسيحيين الاخرين واليهود. ويعلم قداسته دون شك بأن تراث التسامح هذا في اسبانيا قد أعقبه محاكم التفتيش، بقيادة ملوك كاثوليك، وما رافق ذلك من ارغام المسلمين واليهود بالعنف على اعتناق المسيحية. في تاريخ الديانات كلها لا يوجد مثيل لمحاكم التفتيش الاسبانية التي قامت بحملة الكثلكة بحماس عنيف بالموافقة الكاملة للبابوية في ذلك الوقت.
7 – وفي أيامنا هذه، كانت هناك ضجة الاحتجاج في جميع البلدان الاسلامية وغيرها ضد خطط الطالبان لتدمير تماثيل البوذا في افغانستان. فذهبت وفود من جميع الاقطار الاسلامية تضم علماء دين بارزين لمحاولة الحيلولة دون تنفيذ تلك الخطط. ومع الأسف فان تلك المحاولات قد باءت بالفشل. ولكن من الجدير بالتذكير أن هذه التماثيل كانت موجودة قبل وصول الاسلام لافغانستان، واستمرت في البقاء بعده مزارات يحج لها اتباع البوذا، ولم يقم الحكام المسلمون بتدميرها أو منع الحج اليها ، ومن المعروف أنه لم يعترف بحكومة الطالبان، عندما كانت قائمة، سوى دولتين اسلاميتيين فقط. ووصلت الجيوش الاسلامية الى الهند، فلم يكن هناك ارغام بالقوة لاعتناق الدين الاسلامي. أما جنوبي شرق آسيا، فلم تصل اليها جيوش المسلمين، فهل يكون اعتناقها للاسلام، وفيها أكبر دولة اسلامية هي اندونيسيا، قد تم بالعنف عن طريق الجهاد؟ والالاف الذين يعتنقون الاسلام الآن هل يتم اعتناقهم له بالعنف عن طريق الجهاد، أم بطريق آخر؟
8- هذه هي شهادة التاريخ، وتكتسب هذه الشهادة قوة أكبر اذا تذكرنا أن الدولة الاسلامية كانت، لعدة قرون ، القوة العظمى في عصرها، وأنه كان في مقدورها أن ترغم الخاضعين لولايتها على اعتناق الاسلام. كأن هذا هو المتبع قبل مجيء الاسلام. ولكن الاسلام غيَّر ذلك، وأدخل مبدأ التعايش السلمي وحرية العقيدة الدينية، هذا المبدأ الذي لم تنضم اليه الدول الاوروبية الا مؤخرا وبعد الحرب العالمية الثانية، مع أن عددا من الدول الاوروبية ما زالت لم تعترف بالاسلام رسميا كدين من الاديان. ان التسامح الديني، حتى بين الطوائف المسيحية الاوروبية، لم يأتِ الا بعد حروب دينية أنهكت الجميع، والا بعد أن تثبتت جذور العلمانية. لم تعرف أوروبا مجتمعات متعددة الاديان الا في النصف الثاني من القرن العشرين، بينما عرف الاسلام هذه المجتمعات، واعترف بها وحماها داخل حدوده منذ ظهوره على المسرح العالمي في القرن السابع الميلادي.
9 – انه لكثير أن نفترض أن قداسة البابا، وحتى الامبراطور ايمانيول الذي استشهد به، كانا على جهل كامل بهذا التاريخ.
شهادة النصوص
10 – ان ما استشهد به قداسة البابا من محاورات الامبراطور والذي قرر فيه أن نشر الدين بالعنف أمر غير معقول، استشهادٌ ينسجم فقط مع تاريخ الاسلام، وحيث أن قداسة البابا ذكر في محاضرته بأن الامبراطور قد اختار عدم تسجيل رد محاوره العالم الفارسي، فان من حق الباحث أن يتصور أن الامبراطور قد نسب لنفسه جواب ذلك العالم لِمَا رأى فيه من عقلانية ، لأن العالم الفارسي ما كان ليجيب على السؤال بغير ذلك. ففي اللحظة التاريخية التي كان يدون فيها ذلك الامبراطور محاوراته في القرن الرابع عشر لم تكن مرحلة الهلينية، التي أشار اليها البابا والتي جاءت مع عصر التنوير، قد بدأت بعد. ولذا فانه من الصعب، نوعا ما، أن نتصور أن أفكار التسامح والعقلانية التي نسبها الامبراطور لنفسه هي أفكاره، أو أنها كانت تعبر عن الفكر البابوي في القرن الرابع عشر. غير أن هذه الافكار تمثل دون شك الدعوة القرانية لاعتناق الاسلام. : “ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن، ان ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين” (النحل 16:125) .”ولا تجادلوا أهل الكتاب الا بالتي هي أحسن، الا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل الينا وأنزل اليكم والهنا والهكم واحد ونحن له مسلمون” (العنكبوت 29:46). أن هذا ليس دعوة “لاعتناق الاسلام بالعنف”. وحيث أن قداسته افترض في محاضرته أن الامبراطور كان لا بد يعرف آيات أخرى من القرآن الكريم غير آية ” لا اكراه في الدين” فهل يكون بعيدا عن المعقول أن نفترض أن الامبراطور كان يعرف هذه الايات أيضا وأنه استولى على مضمونها ونسبه الى نفسه، ربما لانه كان يأمل في ايقاظ معاصريه لأهمية هذا الموقف؟
11- استشهد قداسة البابا بالآية الكريمة “لا اكراه في الدين” وعلَّق عليها بقوله ان محمدا كان حينئذ “لا قوة له وتحت التهديد”. وكما ذكرنا سابقا فان السورة الثانية (سورة البقرة) نزلت والرسول آمن وقوي في المدينة، ولم يكن “لا قوة له وتحت التهديد”. وهذا المبدأ، الذي أُُعْلِنَ والرسولُ آمِنٌ وقوي، لم يكن سوى تكرار لنفس المبدأ عندما كان لا قوة له وتحت التهديد. فالقرآن الكريم ثابت ومستقر في دعوته لحرية العقيدة. ففي سورة الكافرون، وهي سورة مكية، يقول تعالى “قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم عابدون ما أعبد، لكم دينكم ولي دين”. وفي سورة مكية أخرى، سورة يونس 10:99 يقول تعالى “ولو شاء ربك لآمن من في الأرض جميعا أفأنت تُكْرِهُ الناسَ حتى يكونوا مؤمنين”. وفي سورة مكية أخرى الزمر 39: 14-15) قال تعالى: ” قل اللهَ أعبد مخلصا له ديني. فاعبدوا ما شئتم من دونه قل ان الخاسرين الذين خسروا انفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين”. والأمثلة كثيرة، وكلها تدل على ثبات المبدأ، وعلى أن ذلك لا علاقة له بقوة المسلم أو ضعفه أو قوة الحاكم المسلم أو ضعفه. وهناك اجماع بين الفقهاء المسلمين على أنه لا صحة لإسلام تحت الاكراه، ما لم يستقر المُكْرَهُ على اسلامه بعد زوال الاكراه. إن القرآن الكريم يذكر الرسول باستمرار بأنه منذر ورسول وأن عليه أن يدعو فقط، ثم يترك الأمر لغير المؤمنين ليؤمنوا برسالته أو يرفضوها . ولذا نجد انسجاما كاملا بين المبدأ والممارسة في هذا الشأن ولا صحة على الاطلاق بأن الاسلام يدعو الى فرض الاسلام بالعنف أو يرضى بذلك.
12 – ننتقل الآن الى موضوع الجهاد الذي فُسِّرَ على أنه أداة للارغام على اعتناق الاسلام بالعنف. فأولا ان شهادة التاريخ، كما استعرضناها فيما تقدم، تُفَنِّد هذا الادعاء. وثانيا هناك قواعد تحكم تفسير النصوص. ومن بين هذه القواعد (أولا) أنه اذا كان النص واضحا فلا يجوز تجاوزه بالتفسير و(ثانيا) اذا وجدت قاعدة تتعلق بموضوع محدد فانها هي التي تطبق عليه ولا تطبق قاعدة أخرى تتعلق بموضوع آخر. والأحكام التي تتعلق بالدعوة هي، كما رأينا تؤكد حرية الاختيار، ولا تعترف بإسلامٍ يتم عن طريق الاكراه، وبالتالي فان استعمال الجهاد كوسيلة لفرض اعتناق الاسلام تتنافى مع الاحكام الخاصة بالدعوة. أما الجهاد في الاسلام فموضوع مختلف وله أهداف أخرى محددة قد شُرِّعَ من أجلها، وليس من بينها فرض اعتناق الاسلام بالعنف. يقول تعالى في سورة البقرة الآية 190: “وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين”. هذه هي القاعدة الاساسية في الجهاد، الدفاع عن النفس، ويتفق الفقهاء المسلمون على تحريم الحروب العدوانية. ان هذا ليس موضع بحث مدى التزام الحكام المسلمين بهذه القاعدة، غير أنه اذا كان قد وقعت مخالفة لها، فان المسئواية تقع على المخالف وليس على الدين. وفي جميع الأحوال فان التاريخ يشهد بأن الحروب الاسلامية لم تُستعمل أبدا لفرض الاسلام بالعنف.
الايمان والعقل
13- إن تذكير قداسة البابا للمستمعين بأن المواجهة “العميقة” بين التنوير الاغريقي والايمان المسيحي “كان حاسما في ميلاد المسيحية وانتشارها” تذكيرٌ عظيم الفائدة. وقال قداسته “ان هذا التلاقي الداخلي بين ايمان الكتاب المقدس والبحث الفلسفي الاغريقي كان حدثا له أهمية حاسمة ليس فقط من حيث تاريخ الديانات وانما ايضا من حيث تاريخ العالم” . وأبرز قداسته فيما بعد “أن هذه الاطروحة التي تقول بأن التراث الاغريقي، الذي نَقاهُ النقد، يُكَوِِّّنُ جزءاً عضويا من الايمان المسيحي” يواجه الآن دعوات للتخلي عن التراث الاغريقي. ويرى قداسته أن عبارة “لوجوس” الاغريقية (logos ) اي القانون يجب أن تحل محل “الكلمة” في الكتاب المقدس، وبهذه الطريقة يدخل التراث الاغريقي العقلاني المنقى كعنصر عضوي في الايمان المسيحي. المشكلة طبعا هي أن انجيل يوحنا يبدأ بهذه العبارة: “في البدء كانت الكلمة والكلمة كانت مع الله والله هو الكلمة”. واذا نجح البابا في دعوته هذه فقد يترتب على ذلك أن تكون هذه الدعوة بداية مراجعة للعقيدة نرى أن الحوار مع الاسلام قد يثريها.
14 – التنوير الاغريقي يوصف بالعقلانية، لتمييزه عن المسيحية، التي هي الايمان. والمحاولة التي ينتقدها قداسة البابا والتي ترمي الى تجريد المسيحية من العنصر الهليني ستترك المسيحية ايمانا فقط قد اُفْرِغَ من عنصر العقلانية. واصرار قداسته على الحفاظ على عنصر العقلانية أمرٌ مرحبٌ به لعدة اسباب. أولا: العقلانية ستوفر ارضية مشتركة هي ضرورية لأي حوار مسئول ذي معنى. ثانيا: وكما سنرى فيما بعد، فان هذا العنصر يرحب به المسلمون بشكل خاص. وثالثا: قد يسهم هذا العنصر في إحداث تغييرٍ في النظر للذات الالهية ولمراجعة تفسيرات لبعض جوانب العهدين القديم والجديد. اذ قد يؤدي مثلا الى اعادة النظر في كثير من جوانب كتاب التثنية في العهد القديم، وخاصة ما ينسب الى الله من أنه أمر بالتدمير الكامل والقتل لكل الرجال والنساء وحتى الاطفال في الاراضي التي يفتحها اسرائيلن باستثناء المواشي، او بتعهده سبحانه وتعالى بأن لا يكون عاقر بين نساء ورجال اليهود أو أن لا يعانوا من أي مرض. من المؤكد أن هذا ومثله يتنافى مع طبيعة الله ومع العقلانية، ولكنه، وللأسف، ما زال على ما يبدو مقبولا وممارسا حتى اليوم.
15 – أما بخصوص الاسلام والعقل، فلا بد من التذكير بأن عصر التنوير الذي أشار اليه قداسته قد قام على أعمال الفيلسوف المسلم الاندلسي أبن رشد (1126-1198 ميلادية) الذي أُحرقت كتبه بأمر البابوات الكاثوليك في تلك الايام في محاولة منهم لدفن التنوير والقضاء عليه. (وقد كانت كتب هذا الفليلسوف أيضا وقودا للنيران على أيدي رجال الدين المسلمين الذين حسدوا الفيلسوف على علمه ومكانته وأساؤا فهمه، قبل أن أثارت غضب البابوات في عصر التنوير). إن ابن رشد يمثل خاتمة المواجهة بين الفلسفة الاسلامية والفلسفة اليونانية، وهي مواجهة شغلت الفلاسفة المسلمين ورجال الدين والفقهاء طوال معظم القرنين الحادي عشر والثاني عشر، قبل انتقالها الى أوروبا عن طريق العرب. وقد نشأ عن هذه المواجهة أكثر من سبعين فرقة، تراوحت بين العقلانية المطلقة والاستسلام المطلق والصوفية. وليس من العمل الاكاديمي السليم أن يختزل هذه الفورة الفكرية، والتي لا زالت قائمة، في اشارة الى مفكر فرد، كابن حزم، الذي يمثل اتجاها واحدا، كما فعل قداسة البابا. ماذا عن المعتزلة الذين قاموا ربما بأعمق دراسة عقلانية لطبيعة الخالق جرت في التاريخ، سواء كانوا على خطأ أو صواب في تحليلاتهم؟ ماذا عن المتصوفين المسلمين والتصوف الذين قدموا اتجاها مغايرا كل المغايرة ولكنه يثري النفوس؟ ابن حزم شخصية ثانوية في تيار الفلسفة الاسلامية بحيث لا يصح الاكتفاء بالاستشهاد به.
16 – لقد ألف ابن رشد تحديدا عن التوففيق بين العقيدة والحكمة، وهي اصطلاح كثيرا ما يستعمله الفلاسفة المسلمون عند الحديث عن الفلسفة اليونانية. وبالنسبة لابن رشد فان هذا التوفيق لم يمثل مشكلة حقيقية، ولا يؤدي الى اضافة عنصر جديد للعقيدة أوالايمان حيث أن القرآن الكريم يأمر المسلمين في أيات كثيرة بالتأمل والتفكير والاعتبار والنظر والبحث عن المعرفة واكتساب العلم بوصفها الطريق السليم للايمان. أن القرآن كثيرا ما يدعو الانسان لاستعمال العقل “اللب”، والكون كلهن القوانين التي تحكمه، وكل مخلوق، انسان وحيوان ونبات وظاهرة طبيعية المطر والبرق والرعد والرياح وحركة الاجرام ، كل شيء يخضعه القرآن للتأمل عن طريق العقل، حتى القرآن نفسه لم يشذ عن هذه القاعدة. وكثيرا ما يطرح القرآن السؤال: الا يعقلون ، ألا يبصرون، الا يتفكرون، أو ما هو في معناها. وهذا المر موجه لكل انسان، وليس للمسلمين وحدهم، حيث أن كل فرد مسئول عن ايمانه. عليه أن بقرر. ولهذا لا يوجد كهنوت في الاسلام، هناك من قد يكونون علماء، يُستشارون، ولكن على كل انسان في نهاية المطاف أن يتخذ قراره ويواجه ما يترتب على هذا القرار من مسئولية. وبهذا ارتقى طلب العلم الى مستوى الالتزام الديني المتواصل. وهذا الأمر، من كثرة تكراره في القراآن، ربما اصبح ركنا يجب الاتزام به. “اطلبوا العلم من المهد الى اللحد” “اطلبوا العلم ولو في الصين” حديثان ينسبان للرسول الكريم، وكان الحماس الذي أوجدته هذه الأوامر هي التي انتجت الحضارة العربية الاسلامية وفتحت الابواب للحث على التعرف على الحضارات الاخرى والتفاعل معها.
17 – إن الأيات الاولى التي نزل بها الوحي كانت أمرا للعقل وتحديا له وللعقلانية: ” اقرأ باسمك ربك الذي خلق، خلق الانسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم”. ان هذه الايات الاولى التي افتتح بها الوحي لم تكن فقط أمرا بالقراءة، التي هي الطريق الى المعرفة، بل كانت ايضا تحديا للانسان لأن يفكر في الخلق بشكل عام، وخلق الانسان كمثال قريب منه، ونص على “القلم” كمصدر للعلم ، ثم جاء بيان من المولى عز وجل بأنه سيعلم الانسان ما لم يعلم ما دام يسعى لطلب العلم. وهذه بداية عظيمة الدلالة: فليس فيها اعلان عن عقيدة الدين الجديد، كما يمكن أن نتوقع، ولكنها أمر باكتساب المعرفة والتأمل، وهو تأمل لا يحدث في فراغ، ولكنه تأمل في عالم الواقع المنظور الملاحَظ الذي يستدعي الفهم والمعرفة، اللذين يقودان بدورهما، اذا طبقا تطبيقا سليما، الى الايمان. وحالة التأمل هذه والتحليل العقلاني للخلق والكون وما فيه، قبل الافصاح عن العقيدة، قد الهم الفيلسوف االمسلم ابن طفيل ليكتب اطروحة فلسفية في شكل قصة اسماها “حي بن يقظان” ، وفيها استطاع انسان يعيش بمفرده في جزيرة أن يصل بالتحليل العقلي الى معرفة الله والاقرار بوجوده. فالعقلانية هي واحدة من الأمور الجديدة في النظر الى الدين والأيمان التي جاء بها الاسلام، والتي سأل عنها الامبراطورُ البزنطي محاورَه الفارسي المسلم، دون أن يسجل رده في محاوراته.
18 – ولأن القرآن أعطى للعقل دورا أساسياً، فانه رفض استعمال المعجزات لاثبات نبوة محمد، كما طلب المشركون. فكثيرا ما تحدوا محمدا بأن ياتي بمعجزة، وفي كل مرة كان الرفض القرآني. وكمثال على هذه التحديات: “وقالوا لولا أنزل عليه أيات من ربه. الم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ان في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون” 0العنكبوت 29:50-51) . ذلك أنه بمجيء الاسلام جاء معه التأكيد على أن العقل هو الطريق الى الايمان، وان ادواته هي النظر والتأمل والتفكر واكتساب المعرفة، كما أمر كتابٌ أنزل للبشرية كافة، والتنوع في الخطاب القرآني انما جاء ليهتدي كل انسان مستجيبا للخطاب الذي يدركه. “قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الالباب لعلكم تفلحون” (المائدة 5:103) . إن بعض المسلمين يميلون لنسبة المعجزات للرسول الكريم، وهذه المحاولات الورعة لا تتمشى مع روح الاسلام ورسالته، فكما جاء في الايات السابقة “ألم يكفهم هذا الكتاب”؟ وهذا الكتاب في حد ذاته يدعونا الى التأمل فيه. “كتاب أنزلناه اليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الالباب” (ص 38:29). “أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها” (محمد 47:24).
19 – وكما رفض القرآن اللجوء الى معجزات غير معجزة القرآن وتمسك بالعقل، فانه كذلك رفض دعوى التمسك بما هو قديم أو بمعتقد موروث لا لسبب الا لأنه كان معتقد الآباء والأجداد. فهذا الموروث لا قيمة له الا اذا كان العقل يؤيده. وهذا الموقف ينسجم بطبيعة الحال مع الدعوة المستمرة للتأمل واستعمال العقل، فالشيء لا يصبح مرجعية ملزمة بمجرد مرور الزمن بغض النظر عن قيمته الذاتية. وقد أكدت آيات قرانية عديدة هذاالموقف، منه قوله تعالى في سورة المائدة 5:107 ” واذا قيل لهم تعالوا الى ما أنزل الله والى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أوَ لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون”.
20 – وكذلك ومن أجل ضرب أمثلة للعقلانية في الدعوة، فإن القرآن اتبع طريقة الحوار لاقناع غير المؤمنين برسالة الاسلام. فهو يعرض وجهتي النظر ويترك للقارئ أن يستنتج ما يهديه اليه عقله. والأمثلة كثيرة ومتنوعة وتشمل معظم ما كان شائعا من العقائد والاديولوجيات، والمثال الذي أوردناه في الفقرة السابقة يكفي لايضاح هذا المنهج المستقر في معالجة مواقف الآخرين. وكما ذكرنا سابقا فان المسلمين مأمورون بأن يجادلوا بالتي هي أحسن، ومن المؤكد أن الاسلام يرفض الجدل العدواني.
خاتمة
21 – انه لمن المؤسف حقا أن قداسته قد اختار نقطة البداية لبحث هذه القضايا الهامة مقتطفاتٍ هي واضحة في تحيزها حتى من دون التروي فيها. فلا يُنتظر من امبراطور عاصمته تحت الحصار أن يكون كريما أو موضوعيا. ومع ذلك فان القضايا التي أثارها قداسته جديرة بالبحث الجدي والمناقشة الصريحة، خاصة عندما يبدو أن هنالك من يحرصون على اثارة حروب دينية، مهما كان ظاهر المبرر لهذه الدعوة. لقد جلبت الحروب الدينية في الماضي مآسٍ كبيرة للجميع، والطريق الأمثل لتسوية الإختلافات في الاراء هو الحوار. الحوار العقلاني وحده، مقترن بحسن النية من الجميع، هو الوسيلة للتفاهم والتعايش السلمي البناء والاحترام المتبادل. اننا جميعا نعبد الاله الواحد، ولا شك أن الانسانية تكون قد فشلت فشلا ذريعا اذا هي قد أضاعت طبيعة ما يريده تعالى لنا جميعا. والسؤال هو هل نضجت البشرية الى الحد الذي يمكنها من القيام بهذه المهمة؟ اننا نرجو ذلك.
وسلام الله على الجميع
نشرت في القدس العربي في 3 أكتوبر 2006 ص 17.
الامين العام للمنظمة الدولية للقضاء على التمييز العنصري (ايفورد)