انتفاضات ما زالت تنتظر

انتفاضات ما زالت تنتظر

د. أنيس مصطفى القاسم

مقدمة

ما ضاع حق وراءه مُطالِب. والمطالبة بالحقوق لها وسائلها المتعددة، من بينها المطالبة بالحسنى، بالكلام الطيب ومحاولة الاقناع، على أمل أن يكون الطرف الآخر مستعدا للاستجابة للدعوة للحق عندما يتضح له الموقف، فتقع المصالحة برد الحق لصاحبه، استجابةً طوعية لما يفرضه الحق أو القانون بناء على ذلك الاستعداد المسبق للانصياع لهما. فاذا فشلت مساعي المطالبة بالحسنى، أصبح من الضروري اللجوء الى الوسائل الأخرى. وجميع هذه الوسائل تشترك في عنصر أساسي واحد، وهو الضغط على الطرف المتعنت لكي يستجيب لداعي الحق. ولذا يلجأ الناس الى القضاء لأن أحكام القضاء نافذة على الجميع، فاذا امتنع الطرف الغاصب للحق عن الاستجابة لحكم القضاء طواعية، يجري التنفيذ عليه بما للدولة من سلطة الاجبار. وفي بعض الاحيان قد يضطر المرء لمحاولة أخذ حقه بيده عندما تُسَدُّ في وجهه السبل، سواء كانت تفاوضية أو

قضائية. وفي هذه الحالة تتصارع قوتان: قوة صاحب الحق وقوة الغاصب. فاذا صمد صاحب الحق واستفاد

من فرص الضغط المتاحة له مع الزمن ولم يتنازل عن حقه واستمر في المطالبة، فانه في معظم الحالات يصل

الى حقه وان طال الزمن وامتد الصراع. فالخطر الذي يهدد استرداد الحقوق هو عدم التحرك، هو السكوت عنها

والاستسلام لواقع عدم التمكن من الحصول عليها في لحظة من لحظات الزمن بسبب التفاوت في تلك اللحظة بين

قوة الطرفين، وكأنما هذا التفاوت قدر محتوم أزلي لن يتغير.

والمطالبة بحقوق الشعوب لا تختلف عن ذلك. فبالحسنى، ومن بينها التفاوض، يمكن أحيانا استردادها، كما يمكن استردادها عن طريق التقاضي أمام المحاكم الدولية استنادا الى أن الدول تلنزم عادة بأحكام القضاء. فاذا فشلت وسيلة التفاهم بالحسنى أو اذا كان باب التقاضي مقفلا لسبب من الاسباب، وتعنت الخصم، فلا بد عندئذ من اللجوء الى الوسائل الاخرى لضمان عدم ضياع الحق. وجميع هذه الوسائل وسائل مقاومة ومطالبة في وقت واحد، ويتوقف اختيار الوسيلة المناسبة على الظروف والامكانيات في كل فترة زمنية، ولكنها يجب الا تتوقف. المطالبة يجب أن تستمر بالاساليب المتاحة، ويجب عدم التسليم بالهزيمة أو التردي في مستنقع اليأس.

وعندما بدأ الغزو الصهيوني لفلسطين كان قادة الحركة الصهيونية يدركون تماما أن مشروعهم مشروع استعماري وأنه سيلقى مقاومة من ابناء البلاد، كما حصل في جميع حالات الاستعمار. وقد حلل ذلك جابوتنسكي ، الزعيم الصهيوني الذي ورث تفكيره حزب الليكود وشارون ونتنياهو، بل والمؤسسة الصهيونية بكاملها وعلى اختلاف مشاربها بعد قيام اسرائيل. وموقف جابوتنسكي هذا أعلنه صراحة ودون مواربة في مقال نشره في برلين في 4 نوفمبر عام 1923 ، وجهه بشكل خاص لأولئك الذين كانوا يعتقدون بأنهم يستطيعون اغراء الفلسطينيين بمنافع مادية لهم زعموا بأنها ستترتب على المشروع الصهيوني. وكان جابوتنسكي في منتهى الدقة والصراحة في تحديد طبيعة المشروع الصهيوني من أنه مشروع استعماري استيطاني، ومن أنه، نتيجة لطبيعته هذه، فانه سيُواجَهُ بمقاومة من الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، وأن هذه المقاومة ستستمر الى أن يستولي اليأس على النفوس . ويؤكد جابوتنسكي أن التاريخ ومسيرة الشعوب كانت دائما في هذا الاتجاه، فما من شعب احتلت أرضه من غزاة أجانب الا وقاوم هذا الاحتلال واستمر في هذه المقاومة الى أن تخلص من الغزاة، وأفشل المشروع الاستعماري الاستيطاني، ما لم يبلغ حد اليأس المطلق، كما حصل مع السكان الاصليين في القارة الامريكية واستراليا مثلا. فهؤلاء قد يئسوا من امكانية المقاومة للقوة القاهرة التي واجهتهم، وانتهى الأمر بنجاح المشروع الاستعماري الاستيطاني وانزواء من تبقى من السكان الاصليين في مناطق محصورة معتمدين اعتمادا كاملا على الغزاة فيما يمكن أن يمنحوه لهم من حقوق أو يقدمونه من خدمات.

لقد كتب جابوتنسكي ما كتب عام 1923 والاستعمار الغربي كان ما زال مسيطرا على الكثير من الاقطار. فالامبراطورية البريطانية كانت في عنفوانها، وكذلك الفرنسية والايطالية والهولندية بل والبرتغالية، ولم تكن حركة التحرر الوطني في العديد من الاقطار قد بلغت رشدها. الا أن هذه الحركة قد بدأت واشتد عودها وحققت أهدافها بسرعة مذهلة ابتداء من العقد الخامس من القرن الماضي، بحيث أن الشعوب التي قاومت الاستعمار، حتى ولو كان استيطانيا، كما كان الحال في ليبيا والجزائر وجنوب افريقيا، على سبيل المثال، استطاعت أن تقضي عليه، ولم يتبق سوى الاستعمار الاستيطاني الذي تميز بإبادة السكان الاصليين ابادة كاملة أو شبه كاملة أوفرض عليه ظروفا تجعل مقاومته من الامور المستحيلة. أي أن هؤلاء قد بلغوا حد اليأس. ومع ذلك فنخن نلحظ تحركات من هؤلاء السكان الاصليين لمحاولة استرداد حقوقهم، أي أن مضي قرون من الاحتلال لاستيطاني لم تستطع أن تقتل التعلق الطبيعي بالارض والوطن . وقد شهد العالم في مستهل القرن الواحد والعشرين اعتذارا رسميا من الحكومة الاسترالية للسكان الاصليين عما لحقهم من ظلم، مع التعهد بالتعويض عنه.

هذا كله وقع بعد عقود من المقال الذي نشره جابوتنسكي. ولكن كانت له نظرته الثاقبة في تشخيص المشروع الصهيوني على أنه استعمار استيطاني لوطن شعب آخر، هو الشعب الفلسطيني، وأن هذا الشعب موجود في أرضه ووطنه وسيقاوم هذا المشروع، خلافا للدعاية الصهيونية الكاذبة والمضللة التي رفعت شعار “اعطوا أرضا بلا شعب لشعب بلا أرض”، وأن هذا الشعب لن يغريه ادعاءات بأن أوضاعه المعيشية ستتحسن نتيجة لتنفيذ هذا المشروع.

وكما أصاب جابوتنسكي في تشخيص طبيعة المشروع الصهيوني، فانه قد أصاب أيضا في تشخيص ما يؤدي الى حمايته أو افشاله.

وسارت اسرائيل منذ قيامها على سياسة محاولة تيئيس الفلسطينيين والعرب جميعا من جدوى مقاومة المشروع الصهيوني. ومن أجل هذا، فقد نفذت الحكومات الاسرائلية المتعاقبة ما أوصى به جابوتنسكي في مقاله المذكور، حيث قال إن على الاسرائيليين أن يضمنوا استمرار تفوقهم وذلك بالتحالف المتواصل مع دولة عظمى قادرة على فرض ارادتها وحماية المشروع الصهيوني من المقاومة التي تنتظره، هذا من جهة، ومن جهة أخرى ببناء القوة الذاتية التي يكون في مقدورها مواجهة المقاومة المنتظرة. ولذا تحالفت الحركة الصهيونية مع بريطانيا في الحرب العالمية الاولى، ثم نقلت تحالفها الى أمريكا بعد صعود القوة الامريكية، وهاهي الآن تسعى لاكتساب دعم القوتين العالميتين القادمتين، الهند والصين بوجه خاص. ومن الجهة الاخرى فقد استغلت نفوذها داخل أمريكا لبناء قوتها الذاتية في شتى المجالات، وخاصة في الجوانب العلمية والتكنولوجية، بحيث أنها تفوقت في هذه الامور على الدول العربية مجتمعة. ومن هذا الموقف، الدعم الامريكي من جهة والتفوق العسكري والتكنولوجي من جهة أخرى، بدأت في فرض ارادتها على عدد من الانظمة العربية، كما سلكت سبيل تيئيس الفلسطينيين من امكانية مقاومة المشروع الصهيوني بما تقوم به من اعتداءات متواصلة في جميع الاتجاهات وفرض حصار يتحكم في لقمة العيش بحيث ييأس الفلسطينيون ويستسلمون للقدر الذي تريد اسرائيل فرضه عليهم. وبطبيعة الحال فانه ما كان في مقدور اسرائيل أن تفرض هذا الحصار أو أن تنتهك القانون الدولي انتهاكا صارخا لولا أنها وفرت لنفسها العنصرين اللذين تحدث عنهما جابوتنسكي، ولولا أن الانظمة العربية قد فشلت في التخطيط لمواجهة هذا المشروع ومقاومته، ووصلت الى حد اليأس من امكانية افشاله. فجاء الاعتراف الرسمي أو الواقعي باسرائيل، أي بالتخلي عن مقاومة هذا المشروع، بل والتطبيع معه والتعاون ولو كان ذلك على حساب الشعب الفلسطيني الذي واصل مقومته للمشروع ولم ييأس من امكانية دحره وافشاله.

واذا كانت بعض الانظمة العربية قد يئست من امكانية مقاومة المشروع الصهيوني، فان الشعب الفلسطيني لم ييأس، وما زال يخوض مقاومة لم تتوقف هي أطول مقاومة متواصلة للاستعمارعرفها تاريخ الشعوب. وهذه المقاومة ما زالت مستمرة بشتى الوسائل المتاحة. وقد كشفت تصريحات المسئولين الاسرائيليين والبرامج التي نفذتها وتنفذها اسرائيل عن أهدافها الحقيقية. وجاءت مناسبة مؤتمر أنابوليس لتؤكد على هذه الاهداف، وهي أهداف لا يمكن لأي فلسطيني أو عربي الموافقة عليها. ومعنى هذا أنه لا مفر من استمرار المقاومة.

لقد اتخذت المقاومة الفلسطينية أشكالا متعددة، وكانت جميعها تسعى لافشال المخطط الصهيوني، وبعد قيام اسرائيل واحتلال جميع فلسطين، اتجهت المقاومة نحو القضاء على الاحتلال. وفي خضم هذه المقاومة لتحقيق هذا الهدف، غاب التركيز على أهداف محددة كان يتوجب التركيز عليها لابقائها حية فاعلة في تحقيق الهدف الأكبر. وفي الفترة الاخيرة قامت انتفاضتان، وحان الوقت للقيام بانتفاضات أخرى تتميز باهداف محددة.

انتفاضة العودة

وأول هذه الانتفاضات هي انتفاضة حق العودة، هذا الحق الذي اساءت اليه وأطمعت اسرائيل في التنكر له مواقفُ وتصريحاتُ مسئولين فلسطينيين، بل ووثائق وقعوا عليها، ظناً منهم أن ذلك سيحمل اسرائيل على التساهل في مواقفها أو أن الرأي العام الاسرائيلي أو الدولي سيكون أكثر تجاوبا مع المطالبة بالحقوق الاخرى. هذه نظرة ضيقة الأفق تتعامى عن طبيعة وأهداف الحركة الصهيونية وتتوهم أنه بمكن انقاذ حقوق بالتهاون في حقوق لا يصح التهاون فيها. وهذه المواقف هي من بين مواقف أخرى جرَّأت وزيرة خارجية اسرائيل على التصريح بما كان يجري تداوله في المفاوضات السرية من أن اسرائيل هي دولة الشعب اليهودي بمعنى أنه لا عودة للاجئين الفلسطينيين وأنه على الفلسطينيين الذين تمسكوا بأرضهم ووطنهم داخل اسرائيل أن يرحلوا. لقد حذرنا من التورط في مثل هذه المواقف على صفحات هذه الجريدة، وتأتي الايام لتثبت أن ما كنا نخشاه من هذه المواقف والتصريحات والاتفاقيات هو الحقيقة التي تضمرها اسرائيل ويتغافل عنها من أدلوا بتلك التصريحات أو وقعوا على تلك الوثائق أو الاتفاقيات.

إن تنفيذ حق العودة يتطلب جهدا كبيرا متواصلا، ويتطلب قبل كل شيء تحركا واعيا من جانب أصحاب هذا الحق، وهم اللاجئون. إنه لا يكفي أبداً أن يبقى اللاجئون في مخيمات اللجوء ليصبح حق العودة حقا يتوجب على اسرائيل احترامه ويتوجب على المجتمع الدولي الزام اسرائيل به. فالبقاء في المخيمات ورفض التوطين لا يوفران الضغط الكافي على اسرائيل أو المجتمع الدولي للالتزام بحق العودة، وهو الضغط الذي لا بد منه لتحقيق ذلك. لقد دعونا منذ أربعين عاما في كتابنا “من التيه الى القدس” الى تحرك على الأرض بشكل متواصل لكي يصبح حق العودة قضية يجب التعامل معها وفقا للشرعية الدولية. ويأتي الموقف الاسرائيلي وموقف بعض المسئولين الفلسطينيين ليؤكد ضرورة تحريك اللاجئين بأنفسهم لحقهم في العودة الى بيوتهم التي أخرجوا منها. وفي هذا الوقت بالذات يصبح التحرك أشد ضرورة من أي وقت مضى.

والتحرك الذي ندعو اليه هو ما سميناه بانتفاضة العودة، وهي انتفاضة يقوم بها اللاجئون أنفسهم، بالتحرك من المخيمات في تظاهرات متعاقبة في اتجاه الحدود التي تفصلهم عن بيوتهم وأراضيهم، تظاهرات سلمية لا يحمل فيها سلاح ولا تطلق فيها رصاصة واحدة في الهواء ولا يعتدى فيها على أحد. انها عودة الانسان الى بيته. هذا التحرك السلمي يجب أن يكون منظما وملتزما، تتعاقب موجاته نحو الحدود، من المخيمات داخل فلسطين وخارجها، بحيث يشعر العالم كله بأن هناك شعبا قد شُرِّد من وطنه وأرضه وبيته وأنه يصر على العودة اليها جميعا. وباستمرار هذه التظاهرات يتثبت هذا الحق في أذهان الجميع، ويتكشف التطهير العرقي الذي مارسته اسرائيل وما زالت تتمسك به بمطالبتها بالاعتراف بها كدولة عنصرية لليهود فقط مع استبعاد أبنائها الاصايين منها.

بالطبع إن تنفيذ هذه الخطوة يحتاج الى تنظيم لكي يؤتي ثماره، ويحتاج الى التزام مطلق بالهدف منه، وخاصة بالنسبة للدول المضيفة. فلا يجوز اطلاقا الاخلال بأمنها أو التعرض لممتلكات أبنائها أو التسبب في المشاكل لها. ومن المؤكد أن بعض الانظمة ستخشى على أمنها من هذا التحرك، وخشيتها في محلها اذا لم يكن التحرك منظما ومنضبطا. ولذا يجب تكوين لجان العودة في كل مخيم وأن تتكاتف جميع الفصائل الفلسطينية في تأسيس هذه اللجان وتنظيم التظاهرات.

رئيس اللجنة القانونية سابقا في المجلس الوطني الفلسطيني

أنظر مقال جابوتنسكي في : “The Iron Wall: We and the Arabs” in 51 Documents: Zionist Collaboration with the Nazis, ed.: Lenni Brenner, (2002) p. 32

الإعلان