الاستفتاء بين المناورة والمصداقية

الاستفتاء بين المناورة والمصداقية

الاستفتاء الفلسطيني على الاتفاقية مع اسرائيل

د. أنيس مصطفى القاسم

مقدمة
1

– انتشرت في الوطن العربي ظاهرة استفتاء الشعوب من قبل الحكام، خاصة فيما يتعلق بالتعديلات الدستورية، وكان معظم هذه الاستفتاءات محل نقد لعدم استيفائها للشروط الموضوعية التي تحكم طرح الموضوع على الاستفتاء. ومن أهم الاستفتاءات التي وقعت وكانت محل جدل ونقد الاستفتاء الذي أجراه الرئيس السادات حول اتفاقيات كامب دافيد والصلح مع اسرائيل، واستمر فيه الى نهايته بالرغم مما اعتوره في نظر المدققين من مآخذ جدية. ويجري الحديث هذه الأيام عن استفتاء الشعب الفلسطيني بشأن ما قد يتم التوصل اليه من اتفاق مع اسرائيل. إن الاستفتاء في حد ذاته أمر مرغوب فيه وتمارسه حكومات، بل وشعوب كثيرة، وفقا للأنظمة المتبعة فيها. ونظرا لخطورة الموضوع بالنسبة للشعب الفلسطيني وما قد يترتب عليه من آثار لايمكن التخلص منها فيما بعد أو يكون من العسير ذلك، فانه من الضروري أن يكون الاستفتاء مستوفيا لشروط الصحة وأن لا يكون مناورة فاقدة للمصداقية لتحقيق أهداف سياسية آنية، خاصة في ظل الضغوط التي تمارس لانجاز اتفاق، مهما كان، يرضي غرور الرئيس الامريكي الحالي في حرصه على أن يدخل التاريخ على أنه هو الذي حل مشكلة القضية الفلسطينية وأمَّنَ مستقبل اسرائيل. وفي هذا المقال سنقصر الحديث عن الشروط التي يجب أن تتوفر في الاستفتاء ليكون صحيحا وسليما من الناحيتين الاجرائية والقانونية، ونطبق أهم هذه الشروط على الحالة الفلسطينية قبل أن يقع ما لا تحمد عقباه والذي لا نشك في أنه مخطط له من الجانبين الامريكي والاسرائيلي. وهاهي مصر تعاني من الاسلوب الذي طرحت فيه اتفاقية السلام والصلح مع اسرائيل، وأبرزها الوضع الذي عليه سيناء ومدى ما تستطيع مصر أن تمارسه من سيادة عليها. ولو أن الاستفتاء قد طرح كما كان يجب أن يطرح، فلربما كانت النتائج مختلفة.

شروط صحة الاستفتاء

2

– ليكون الاستفتاء سليما ذا مصداقية، وليس مناورة، يجب أن يستوفي عددا من الشروط من بينها ما يلي:

(أولا) أن يكون صادرا من الجهة المختصة قانونا باصداره. وهذا شرط له أهميته الخاصة في الاستفاءات الملزمة، لأنه لو جرى من قبل جهة غير مختصة فإنه يفقد صفة الالزام المرجوة من ورائه، ويكون الاستفتاء في هذه الحالة باطلا وعديم الأثر.

(ثانيا) أن يسبق طرح الموضوع على الاستفتاء مراعاة ما تنص عليه القوانين أو الدساتير أو العرف المستقر من اجراءات.

(ثالثا) أن يكون موضوع الاستفتاء ما يصح أن يخضع للاستفتاء وأن يكون محددا ودقيقا محصورا في مسألة واحدة معينة أو عدد من النقاط المحددة كذلك، بحيث لا تحتمل كل نقطة على حدة سوى واحد من رأيين اما الموافقة واما الرفض. وبناء على هذا لا يجوز الاستفتاء عن رزمة من القضايا، ولو كانت في وثيقة واحدة، ويُطلب الرد عليها بالموافقة أو الرفض ما دام كل منها، وإن كانت في رزمة واحدة أو موضوع عام واحد، يحتمل ردا يختلف عن الرد في قضية أخرى واردة في نفس الرزمة. ومعظم الاستفتاءات المطعون فيها هي التي تخالف هذا الشرط بالخلط ما بين ما تخشى رفضه وما تعرف أنه ستتم الموافقة عليه في رزمة واحدة بحيث يقع المستفتىَ في حيرة بين الرفض والقبول، ولا خيارا ثالثا. وهذا جانب مما تم في استفتاء السادات. وسنوضح ذلك في الأمثلة التي سنسوقها فيما بعد.

(رابعا) أن تنشر وتعمم المواد المستفتى فيها برمتها، بتفاصيلها، مع تحديد الاسئلة بدقة، وأية ايضاحات مناسبة، بما لها وما عليها، تنويرا للرأي العام، وتحديدا لما هو مستفتىً فيه بحيث أن ما لا ينشر على هذا الوجه لا يدخل في نتيجة الاستفتاء رفضا أو قبولا. أي أن الموافقة على ما هو مطروح للاستفتاء لا تفيد بالموافقة على ما بقي سريا. ويجب أن تكون أوراق الاستفتاء مطابقة لما جرى تعميمه فيما يخص الاسئلة المطروحة.

(خامسا) أن تكون الفترة الزمنية بين الاعلان عن القرار باجراء الاستفتاء ونشر مواده وبين موعد الاستفتاء الفعلي فترة معقولة تسمح للمناقشة العامة والحوار العلني الجدي المفتوح بين المؤيدين والمعارضين، وأن لا يُستثنى من هذه المناقشة أو الحوار أية مسألة من المسائل أو جهة من الجهات.

(سادسا) الا تفرض أية قيود أو تمارس أية ضغوطات خلال فترة الحوار هذه على المعارضين أو المخالفين، وأن تتاح لهم فرص متكافئة لإبداء آرائهم، وخاصة من أجهزة الاعلام التي تسيطر عليها الحكومات، والتي هي في النهاية، ملك للشعب، ويجب أن تستخدم لتنويره فيما هو مقدم عليه، ولا يُحجر على أحد في ابداء رأيه لأية حجة كانت

(سابعا) أن تتبع في الاستفتاء واحصاء الأصوات الاجراءات وتتوفر الضمانات المتبعة في الانتخابات العامة التي تتميز بالنزاهة والشفافية وحرية المستفتين في التعبير عن رأيهم دون أن يتعرض أحد للاستقصاء أو المضايقات أو الحرمان من الادلاء بصوته، وألا تفرض على المستفتين شروط مسبقة تتعلق بآرائهم أو بالموقف من أية مسألة من المسائل المستفتى عليها.

هذه هي بعض أهم الشروط التي تستقرا من الممارسات السليمة، وسنبحث الآن الوضع الفلسطيني مركزين على بعض الشروط، حيث أنه يستحيل التفصيل في مقال في جريدة سيَّارة.

الاستفتاء الفلسطيني

الجهة المختصة بتقرير اجراء الاستفتاء

(1) المجلس الوطني لا اللجنة التنفيذية ولا رئيسها

3

– موضوع الاستفتاء المقترح يتعلق باتفاقية تمس الشعب الفلسطيني كله وتؤثر في حاضره ومستقبله، وهو الى حد ما شكل من أشكال تقرير المصير. ولذا يجب الا يصدر الا عن الجهة التي تمثل الشعب الفلسطيني كله، وهذه الجهة هي منظمة التحرير الفلسطينية ممثلة بالمجلس الوطني الفلسطيني الذي هو “السلطة العليا لمنظمة التحرير وهو الذي يضع سياسة المنظمة ومخططاتها وبرامجها” (المادة 7 (أ) من النظام الاساسي لمنظمة التحرير). اللجنة التنفيذية لجنة تنفيذية، أي أنها فقط تنفذ السياسات التي يضعها المجلس الوطني، وليس لها الحق في تقرير هذه السياسات. فالمادة 15 من النظام الاساسي لمنظمة التحرير تنص على أنَّ : ” اللجنة التنفيذية هي أعلى سلطة تنفيذية للمنظمة وتكون دائمة الانعقاد وأعضاؤها متفرغون للعمل، وتتولى تنفيذ السياسة والبرامج والمخططات التي يقررها المجلس الوطني وتكون مسؤولة أمامه مسؤولية تضامنية وفردية”. كما تنص الفقرة (د) من المادة 16 على أن تباشر اللجنة ،على وجه العموم ” جميع مسؤوليات منظمة التحرير وفق الخطط العامة والقرارات التي يصدرها المجلس الوطني”. ومؤدى هذه النصوص أن اللجنة التنفيذية ليس لها الحق في أن تبدأ أوتباشر سياسات من جانبها الا في داخل الحدود التي رسمها المجلس الوطني، وأن المجلس هو صاحب القرار النهائي في سلامة ما قامت اللجنة بتنفيذه. صحيح أن المادة 16 (أ) من النظام الاساسي تنص على أن اللجنة التنفيذية تتولى “تمثيل الشعب الفلسطيني”. غير أن هذا التمثيل يمارس في حدود ما خولته الأداة المانحة له، وهو النظام الاساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، وورد النص عليه في المادتين 15 و16(د)، سالفتي الذكر، وليس للجنة التنفيذية صفة تمثيلية خارج هاتين المادتين، لاسيما في رسم السياسات واتخاذ القرارات أو ابرام الاتفاقيات. والمجلس الوطني، الذي هي مسئولة أمامه، هو صاحب القرار في مدى التزامها بما حدده وقرره من سياسات. وفي ضوء هذا فانه لا يحق للجنة التنفيذية أن تتخطى المجلس الوطني وتطرح للاستفتاء، بقرار منها، ما تراه من قضايا، ما لم يفوضها المجلس الوطني بذلك. المجلس الوطني وحده هو الذي يقرر ذلك. وما قيل عن اللجنة التنفيذية ينطبق بطبيعة الحال على رئيسها. فرئيس اللجنة التنفيذية ليس رئيسا لفلسطين، وانما موقعه القانوني وفق النظام الاساسي لمنظمة التحرير هو أنه عضو في اللجنة التنفيذية انتخبته لرئاستها، أي لتسيير أعمالها، ولا يتمتع بسلطات خاصة خارج اطار عضويته في اللجنة ( انظر المواد 13-21 من النظام الاساسي لمنظمة التحرير الخاصة باللجنة التنفيذية).

(2) اختصاص رئيس السلطة في طلب الاستفتاء

4 – قد يقال إن رئيس السلطة المنتخب بهذه الصفة له الحق في ذلك بمفرده أو مع السلطة. وهذا قول لا سند له في النظام الاساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، ولا في القانون الاساسي للسلطة الفلسطينية في المرحلة الانتقالية. واختصاصات رئيس السلطة حددها بدقة القانون الاساسي للسلطة الفلسطينية في المرحلة الانتقالية، ولا يمكن أن يكون، اجراء استفتاء يتعلق بالقضية كلها، من اختصاصات شخص أو سلطة لم يشارك في انتخابه أو انتخابها سوى المواطنين الفلسطينيين في الضفة والقطاع فقط. ولا يقال بأنه انتُخِبَ بناء على برنامج تقدم به وله الحق في تنقيذه ما دام قد فاز في الانتخابات، ذلك أن برنامجه هذا عرض على الناخبين فقط الذين هم في الضفة والقطاع، وهؤلاء هم الذين أدلوا بأصواتهم، مؤيدين أو معارضين، أما فلسطينيو الشتات، وهم أغلبية الشعب الفلسطيني، فلم يشاركوا، وبالتالي فانهم لم يحددوا موقفهم مما طرحه من سياسات في برنامجه الانتخابي لرئاسةِ سلطةٍ محليةٍ يتحكم فيها الاحتلال، هي نفسها غير مختصة باتخاذ قرارات تؤثر على الشعب الفلسطيني كله. وهذا القول ينصرف أيضا الى المجلس التشريعي. أعضاؤه أعضاء في المجلس الوطني، ويمارسون حقوق العضوية هذه من خلال المجلس هذا، شأنهم شأن الأعضاء الآخرين، ولا يملكون، في اطار المجلس التشريعي، ممارسة اختصاصات هي من حقهم في المجلس الوطني فقط.

موضوع الاستفتاء

موضوع الاستفتاء وطريقة عرضه هما المعياران للتعرف على مصداقيته من عدمها. ولذا فاننا سنتحدث عنهما بشيء قليل من التفصيل.

(أولا): ما لا يصلح موضوعا للاستفتاء:

5– إن ما يصلح موضوعا للاستفتاء هو ما يملك الانسان التصرف فيه. أما ما لا يملك التصرف فيه فلا يصح للاستفتاء، من حيث المبدأ. الدساتير يضعها المجتمع لتسيير نظامه، وأمامه خيارات متعددة، وهو يتصرف باختيار النظام الذي يريد. ثم قد يعدل عن ذلك النظام أو عن جزء منه، فيجري تعديلات. هذه كلها يستطيع المجتمع أن يتصرف فيها، ولذا فهي تصلح للاستفتاء، وكثيرا ما تجري استفتاءات بهذا الخصوص. أما ما لايصلح لذلك فانه لا يصح أن يستفتى عليه، وهذه هي الحقوق التي اصطلح على تسميتها “بالحقوق غير القابلة للتصرف”، ومن بينها تلك التي تعود أصلا للشعب في مجموعه ككيان واحد. وهذه الحقوق غير القابلة للتصرف، كما قال الفليلسوف الالماني هيجل، هي”حقوق لا تسقط بمرور الزمن ولا لأي سبب آخر يستخلص من موافقة سابقة على نقلها للغير أو الاستعداد للقيام بذلك”. بمعنى أن الشعب الذي سُلِبَت منه هذه الحقوق فانه يحق له استردادها في أي وقت، ليس هذا فحسب بل الإنسان نفسه مقيد في التصرف فيها، فلا يملك التنازل عنها ولا نقلها للغير، واذا سبق له ووافق على التنازل عنها فانه لا يجوز أن يُفهم من هذه الموافقة على أنه تنازل بالفعل وأصبح مُلزَماً به.

6 – ولكي لا نضيع في متاهات قانونية فيما يعتبر أو لا يعتبر من ضمن هذه الحقوق، فاننا سنشير فقط الى تلك الحقوق التي اعتبرها المجتمع الدولي عن طريق الجمعية العامة للامم المتحدة حقوقا غير قابلة للتصرف بالنسبة للشعب الفلسطيني، وهذه الحقوق حددتها الجمعية العامة في قرارها الصادر بتاريخ 22 نوفمبر 1974 وأنشأت لجنة خاصة لمتابعة تنفيذها وهي لجنة ممارسة الحقوق غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني، ومع الزمن أضافت الجمعية العامة حقوقا أخرى الى هذه القائمة، أو فسرت مداها، ويجمعها كلها أنها “حقوق للشعب الفلسطيني” أي أنها ليست حقوقا فردية. وهذه الحقوق لا يصح التفاوض عليها بهدف الانتقاص منها أو سلبها، وإنما لاحترامها فقط اذا كانت مهددة. ويكون التفاوض لاستردادها، في حين يكون الاستفتاء عليها فقط للتأكد من أنها احتُرِمَت بالفعل. والحقوق التي أشارت اليها الجمعية العامة على وجه التحديد في قراراتها المختلفة هي: (1) “الحق في تقرير المصير بدون تدخل خارجي”، (2) “الحق في الاستقلال الوطني والسيادة”، وحدد قرار صادر بتاريخ 31 يناير 2008 بانها “سيادة الشعب الفلسطيني بشكل دائم على الاراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس” (3) “حق الفلسطينيين في العودة الى بيوتهم وأملاكهم التي أُُخرِجوا واقتلعوا منها”، (4) “السيادة الدائمة على الموارد الطبيعية”. وأكدت الجمعية العامة مبدأ السيادة الدائمة للشعوب التي تخضع للاحتلال على مواردها الطبيعية هذه، وطبقت هذا المبدا بالنسبة للشعبين الفلسطيني والسوري في القرار الصادر بتاريخ 31 يناير 2008 . وبتاريخ 4 مارس 2008 أكدت الجمعية العامة جميع هذه الحقوق، وطالبت اسرائيل، “سلطة الاحتلال”، بالالتزام بواجباتها القانونية الواردة في فتوى محكمة العدل الدولية المتعلقة بالجدار والصادرة في 9 يوليو 2004، وبقرارات مجلس الأمن المختلفة، التي من بينها عدم شرعية المستوطنات وضم القدس وما أدخلته اسرائيل من تغييرات على المدينة، من سكانية وغيرها. وإذن فإن المفاوضات يجب الا تنتقص هذه الحقوق غير القابلة للتصرف أو تقيدها أو تمنح الشرعية لانتهاك ما انتهكته اسرائيل منها “كسلطة احتلال”. فلا يجوز مثلا انتقاص السيادة الفلسطينية على الارض باستثناء الارض الذي أقيمت عليها مستوطنات من الاراضي الخاضعة للسيادة الفلسطينية، أو الاراضي التي ضمتها اسرائيل لتكوين ما أصبح يسمى بالقدس الكبرى، أو بضم أراض فلسطينية لاسرائيل في مقابل تعويض مالي، كالتنازل عن الاراضي التي التهمها الجدار. كما لا يجوز توطين اللاجئين في حدود الدولة الفلسطينية بدلا من عودتهم الى “بيوتهم وأملاكهم التي أخرجوا واقتلعوا منها” فحق العودة من بين الحقوق غير القابلة للتصرف. وحيث أن هذه حقوق غير قابلة للتصرف فهي أصلا لا تخضع للاستفتاء واذا طرحت له فإنما يجب أن يكون الهدف هو تأكد المواطنين من أنها قد احترمت، ولم يجرِ التحايل عليها.

(ثانيا) ما يطرح للاستفتاء يجب أن يكون دقيقا ومحددا

7– إن الإساءة الكبرى التي يتعرض لها الاستفتاء تكمن في نوعية طرح الاسئلة التي يراد الرد عليها بالموافقة أو الرفض، وذلك مثلا بأن تطرح للاستفتاء رزمة واحدة تشمل موضوعات أو قضايا متعددة مختلفة في مواضيعها ويُطلب من المستفتين أن يجيبوا عليها مجتمعة، لا على انفراد، بالموافقة أو الرفض. القاعدة الاساسية في الاستفتاء هي أن تحدد بنود المسائل بندا بندا، وكأنما كل مسألة قد طرحت في استفتاء مستقل، بحيث يمكن للمواطن أن يقرر ما هو موافق عليه وما هو مرفوض منه. وفي موضوع بخطورة استفتاء الشعب الفلسطيني على مصيره لا يجوز اطلاقاً التلاعب أو المناورة أو التعمية.

8- ويبدو من مجريات الأمور أن المفاوضات معرضة لأن تسير في اتجاه التعمية والتضليل نتيجة للمناورات الاسرائيلية. فهناك حديث عن اتفاق مبادئ جديد أو اتفاق حول “إطار عام للحل”. وهذه كلها عبارات مبهمة مطاطة خالية من التحديد الدقيق . فلا يكفي من أجل الاستفتاء الاتفاق على “اطار” دون تحديد ما سيكون داخل هذا الاطار بدقة لا تترك مجالا للاجتهاد أو التفسيرات المتباينة. لقد جربنا اتفاق مبادئ أوسلو، ولن يختلف عنه، من حيث المبدأ، اتفاق أصبح يسمى باتفاق اطار عام للحل. هي تسميات يبتكرها المفاوض الاسرائيلي للاستمرار في السيطرة لاستكمال مشروعه، وتيئيس الفلسطينيين والعرب من امكانية الوصول الى حل يلتزم بالشرعية الدولية، إذ ما الذي سيكون عليه الحال بعد خمس عشرة سنة اخرى لبداية مفاوضات جديدة لتفسير معنى “الاطار” وتعيين حدود اضلاعه الأربعة أو الاربعين وما هو داخله .

9 – ونقدم الآن أمثلة على طريقة ما يمكن أن يقع من تعمية وتضليل في الاستفتاء بسبب غياب الدقة والتحديد. ولنا أن نفترض بعض الاحتمالات في ضوء ما كانت تعلنه الصحافة الاسرائيلية عن مواقف توصلت اليها مفاوضات قبل انتخابات المجلس التشريعي عام 2006. قد ينص الاطار على “انسحاب اسرائيلي لحدود عام 1967 (أو حدود هدنة 1949) مع تعديلات طفيفة”. وبالنسبة الى القدس قد ينص على أن “تكون المدينة موحدة وعاصمة للدولتين وتمارس كل دولة السيادة على الاجزاء منها التي يقطنها مواطنوها”. أو أن “فلسطين من النهر الى البحر هي الوطن التاريخي والقومي للشعبين الفلسطيني واليهودي يتقاسمانه على الوجه المبين في هذا الاطار”، أو “فلسطين دولة الشعب الفلسطيني واسرائيل دولة الشعب اليهودي”. هذه الامثلة تصلح أن تكون جزءأً من اتفاق “الاطار العام للحل” كما تراه اسرائيل. فكيف يكون الاستفتاء؟

10 – من الناحية الشكلية فقط لا يجوز الاستفتاء على اتفاق كهذا يكون المطلوب فيه هو الجواب بالموافقة او الرفض على الاتفاق في مجمله، لأن كل بند من هذه البنود إما غامض وغير محدد، وإما أنه يحتوي على أمرين كل منهما يمكن الجواب عليه بجواب يختلف عن الآخر، وإما لأنه يمكن رفض البعض والموافقة على البعض الآخر، فيستحيل الاجابة عليه في مجمله بالموافقة أو الرفض. هذا بالنسبة للاتفاق ككل. وبالنسبة للمسائل المذكورة كبنود في الاطار، فاننا نجد في موضوع الحدود، أن “حدود عام 1967 أو حدود هدنة عام 1949″، لها معنى محدد وهناك خرائط متفق عليها تبينها، ويجب ارفاقها بعد أن يتأكد الخبراء (وليس المفاوضون فقط) من صحتها، وتدخل ضمن السيادة الفلسطينية كحق غير قابل للنصرف. ولذا فانها تصلح مسألة للاستفتاء للتأكد من أنها كذلك. ولكن عندما أضيفت لها عبارة “مع ادخال تعديلات طفيفة” أو “مع تبادل للاراضي” أصبحت الحدود غير معينة وبالتالي أصبحت منطقة السيادة الفلسطينية مجهَّلة، والعبارة التي أضيفت غامضة، ولذا لا يمكن الرد عليها بالموافقة أو الرفض بسبب هذا التجهيل ، فيكون النص غير صالح للاستفتاء، وقد يصبح صالحا فقط عندما تكون التعديلات معروفة ومحددة.

القدس

11 – وفي موضوع “القدس عاصمة للدولتين أو للدولة الفلسطينية” فإن عبارة “القدس”، كأرض محتلة عام 1967، هي التي كانت قائمة بحدودها وسكانها في ذلك العام، وهذه مسألة موثقة، وهي التي تعنيها قرارات الامم المتحدة وتقر السيادة الفلسطينية عليها. غير أن المدينة قد طرأت عليها متغيرات ديموغرافية وحدودية أجرتها وتجريها اسرائيل يوميا وما ستجريه فيما بعد هذا الاتفاق. ويقيناً أن اسرائيل سترفض أن يشمل أطار الحل أية اشارة الى القرارات الدولية التي اعتبرت القدس جزءا من الاراضي الفلسطينية المحتلة الخاضعة للسيادة الفلسطينية، لأن هذه القرارات تصبح مرجعية للتفسير والتطبيق، واسرائيل تريد ان يكون الاتفاق وحده هو المرجعية، وهذا ما فعلته في اعلان المبادئ. فاذا لم ينص الاطار بالدقة على تعريف دقيق على الارض لحدود “القدس” التي ستمارس عليها السيادة الفلسطينية، أو تكون عاصمة لفلسطين، فإن اسرائيل ستفرض لاحقا ما تراه تفسيرا لِ”القدس” كمنطقة جغرافية وسكانية عند البحث فيما هو داخل الاطار. وتشير الدلائل الى محاولة القفز على ضرورة التحديد باعتماد مناورة تدعي أن قرية “أبو ديس” المجاورة للقدس، هي “القدس” بعد ضمها لما أصبح يسمى بالقدس الكبرى، والادعاء بأنها “القدس”، أو ما شابه ذلك. القدس يجب لأن تحدد تحديدا دقيقا نافيا للجهالة أو اساءة التفسير.

فلسطين وطن تاريخي وقومي للشعبين الفلسطيني واليهودي

12 – وكذلك الأمر بالنسبة لكون “فلسطين وطنا تاريخيا وقوميا للشعبين الفلسطيني واليهودي” و “فلسطين دولة الشعب الفلسطيني واسرائيل دولة الشعب اليهودي”. هذه النصوص لا علاقة لها على الاطلاق بانهاء الاحتلال، وللاسرائيليين أهدلفهم من وراء ذلك، وقد بحثناها في مقالات نشرتها القدس العربي، ولا داعي لتكرارها. لا أحد يطعن في أن فلسطين وطن تاريخي وقومي للشعب الفلسطيني، أو أنها دولة الشعب الفلسطيني ولكن موضع الإعتراض هو الفرضية الثانية التي وردت في النصين. عبارة “الشعب الفلسطيني” لا عنصرية فيهعلى أساس عرقي أو ديني أو غير ذلك، في حين أن “الشعب اليهودي” الذي يراد أن تكون اسرائيل دولته هو تعريف عنصري له نتائجه السيئة. فاذا أجاب الفلسطيني بنعم في الاستفتاء تحت اغراء الاعتراف بأن فلسطين هي الوطن التاريخي والقومي للشعب الفلسطيني، أو أن فلسطين هي دولة الشعب الفلسطيني فانه يكون قد اعترف بالشق الثاني من النص الذي هو يرفضه ولكن لا يستطيع التعبير عن رفضه هذا لأن النص سلة واحدة فيها ما يتعلق بالفلسطيني وما يتعلق باليهودي أو الاسرائيلي. واذا أجاب بلا فانه يكون قد أنكر أن فلسطين وطن تاريخي وقومي للفلسطينيين وانها دولة الشعب الفلسطيني. فكيف يتصرف؟ وهذه هي المناورة على مصداقية الاستفتاء. اللغة وصيغة النص لهما أخطر الادوار . والذي يصلح للاستفتاء هو تجزئة كل نص الى سؤالين: الاول “هل توافق على أن فلسطين هي الوطن التاريخي والقومي للشعب الفلسطيني؟” والثاني “هل توافق على أن فلسطين هي الوطن التاريخي والقومي للشعب اليهودي؟” ثم “هل توافق على أن فلسطين هي دولة الشعب الفلسطيني” و “هل توافق على أن اسرائيل هي دولة الشعب اليهودي”. في هذه الحالة يمكن الرد على كل سؤال على حدة بالموافقة أو الرفض.

13 – إن الامثلة السابقة تبين الأهمية القصوى أولا للغة التي تستعمل، وثانيا لوجوب دراسة جميع الاقتراحات والطروحات الاسرائيلية والفلسطينية على حد سواء دراسة تحليلية تفصيلية واعية متأنية، واعادة دراستها وتحليلها المرة تلو المرة،وعدم استبعاد أي تفسير أو احتمال، مهما بدا بعيدا،كما رأينا في تعريف “القدس”، ليس فقط من جانب المفاوض الفلسطيني، وانما أيضا من جهات غير تلك التي تفاوضت لتنظر فيها بمنظار غير متأثر بأجواء المفاوضات. وهذه الجهة هي المجلس الوطني الفلسطيني ولجانه المتخصصة ومستشارون مستقلون أكفاء كأولئك المحامين الذين مثلوا فلسطين أمام محكمة العدل الدولية في قضية الجدار. يضاف الى ذلك الحوار العام بعد نشر الاتفاق برمته.

تحديد موعد الاستفتاء

14– عندما يقرر المجلس الوطني طرح الاتفاق على الاستفتاء ويحدد بدقة وتفصيل المسائل التي يُطلَبُ الرد عليها بالموافقة أو الرفض، مستعينا في ذلك بذوي الخبرة في استطلاعات الرأي العام واجراء الاستفتاءات، يحدد موعد الاستفتاء بشرط أن تكون هناك فترة زمنية بين الطرح على الاستفتاء والموعد المحدد للاستفتاء تكون كافية للحوار العام الجدي في كل مسألة. ويجب أن يراعى في تحديد هذه المدة الانتشار الواسع لأبناء الشعب الفلسطيني بحيث تكفي اولا لتعميم المواد المستفتى فيها ووصولها اليهم، وثانيا للحوار العلني بشأنها، وثالثا لاتخاذ ترتيبات اعداد سجلات باسماء المستفتين في اماكن تواجدهم. ولا يجوز فرض أية قيود على حرية الرأي أو وسائل الاعلام أو المواد التي يجوز أو لا يجوز مناقشتها. ويحدد المجلس الوطني هذه المدة بمشاركة الاعضاء الذين يمثلون مختلف التجمعات الفلسطينية.

من الذي يُسْتَفتَى؟

15 – يجب أن يشمل الاستفتاء جميع ابناء الشعب الفلسطيني من مقيمين ولاجئين وفي الشتات. وهنا يجب التأكيد على أن غالبية أبناء الشعب الفلسطيني غير مقيمين في وطنهم، وانما هم لاجئون او في الشتات، وهؤلاء لا يهمهم فقط موضوع حق العودة، وانما يهمهم أيضا كل ما يهم الأهل في الداخل. ولذا يجب وضع الترتيبات الفعالة، بالتعاون الوثيق مع الجاليات الفلسطينية في المخيمات وخارجها حيث يوجد أي تجمع فلسطيني، لتأمين مشاركتهم. الاستفتاء يجب أن يشملهم جميعا، والمجلس الوطني وحده هو الذي يضع القواعد ويحدد اسلوب ووسيلة الاستفتاء بصفته جامعا لممثلي الشعب في الارض وفي الشتات. ويجب اتخاذ التدابير لتأمين نزاهة وشفافية وحرية الاستفتاء وحق كل مواطن فلسطيني مسجل في الادلاء بصوته.

مصير الاستفتاء

16– والسؤال الأخير هو متى تعتبر نتيجة الاستفتاء ملزمة؟ تختلف الأعراف في هذا الشأن. فهناك من يشترط نسبة معينة يجب توفرها في المشاركين فيه من بين مجموع من لهم الحق في المشاركة، ثم أن ينال الاستفتاء أغلبية معينة من بين هؤلاء، كالاغلبية البسيطة أو أغلبية الثلثين. وثمة اعراف تكتفي بالاغلبية البسيطة للمشاركين بغض النظر عن نسبتهم من بين من لهم الحق في المشاركة. وحيث أنه لم يرد نص خاص بالاستفتاء في النظام الاساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، فان المجلس الوطني هو الذي يحدد الشروط التي يجب توافرها لتكون نتيجة الاستفتاء ملزمة بالنسبة لكل مادة مطروحة. ونظرا لخطورة ما قد يكون مطروحا للاستفتاء، ولأوضاع الشعب الفلسطيني، فان الوضع السليم هوضمان أغلبية حقيقية لها ثقلها تؤمن استقرار ما تتم الموافقة عليه، وليس أغلبية بسيطة من المشاركين تترك نسبة كبيرة من ابناء الشعب وكأنه لا قيمة لموقفهم. والمسألة متروكة ليرى المجليس الوطني رأيه فيها كعنصر من عناصر ترتيبات الاستفتاء.

17 – وعندما يجري الاستفتاء على الوجه الذي ذكرناه، أي مسألةً مسألة، وليس على الاتفاق كرزمة واحدة، ووفقا للشروط التي أشرنا اليها في هذا المقال، وإن لم نبحثها كلها بالتفصيل، يعتبر الشعب موافقا على ما أجاب عليه بالموافقة بالنسبة المقررة، ورافضا لما أجاب عليه بالرفض، وتعود القضايا المرفوضة الى التفاوض من جديد.

كلمة أخيرة وليست آخرة

18– لقد وقعت القيادة الفلسطينية في شباك المفاوض الاسرائيلي، ووقع الجميع، ما عدا الاسرائيليون، في حبائل الرئيس الامريكي ورؤيته لدولتين، أي الوصول الى اعلانٍ خالٍ من المضمون يترك الأمور معلقة في انتظار مفاوضات جديدة. إن القضية في اساسها هي انهاء احتلال غير شرعي وازالة ما ترتب عليه من تصرفات وأفعال غير شرعية. وانهاء الاحتلال لا يتطلب سوى الاتفاق على ترتيبات جلاء اسرائيل بقواتها ومستوطناتها عن الاراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1967 (بما فيها القدس) الى حدود هدنة عام 1949. وكذلك الترتيبات اللازمة لعودة اللاجئين الى بيوتهم واراضيهم وفقا للقرار 194. الترتيبات فقط هي التي يجب أن تكون محل تفاوض. وهذه قد لا تحتاج لا الى اطار ولا الى استفتاء.

1-نشر القسم الأول منه في القدس العربي بتاريخ 13 مايو 2008 ونشر القسم الثاني في اليوم التالي

2-رئيس لجنة الميثاق والأنظمة في المؤتمر التاسيسي لمنظمة التحرير، ورئيس اللجنة القانونية سابقا في المجلس الوطني الفلسطيني.

3- وبهذه المناسبة أحيي الكاتب الموريتاني أحمد فال بن الدين على مقاله “الوعي اللغوي والقضية الفلسطينية” المنشور في القدس العربي يوم 1 مايو 2008 واتمنى على المفاوض الفلسطيني أن يقرأه.

الإعلان

تفعيل المجلس الوطني الفاسطيني

تفعيل المجلس الوطني الفاسطيني

بيد الأعضاء وليس فقط بيد الرئيس أو اللجنة التنفيذية

د. أنيس مصطفى القاسم

مقدمة

مشكلة انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني

1 – في مقدمة المشاكل التنظيمية التي يواجهها الشعب الفلسطيني هو هذا التغييب الكامل للمجلس الوطني، واذا استمر هذا الوضع فإن النتيجة هي فرض الموت البطيء على منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها، وفي مقدمتها المجلس الوطني ، بحيث تصبج المنظمة أو أوشكت أن تصبح كياناً معنوياً فقط، في أحسن الظروف، بعد هذا النضال الطويل المتواصل من أجل الاعتراف بها تعبيرا قانونيا وواقعيا على أرض الساحة الدولية عن وجود شعب هو الشعب الفلسطيني، وأن هذا الشعب له حقوقه غير القابلة للتصرف، ومن بينها حقه تقرير مصيره وفي مقاومة الاحتلال بكل الوسائل التي تقاوم بها الشعوب احتلال أراضيها. وترتب على هذا الوضع استمرار من بقي حياً من أعضاء اللجنة التنفيذية في موقعه لمدة تزيد على عشرين سنة يتصرف دون محاسبة أو مساءلة من المجلس، ودون انتخاب أعضاء جدد للجنة التنفيذية لمواكبة التطورات على الساحة الفلسطينية أو فيما يتعلق بالقضية ذاتها. وأدى تغييب الرقابة التي يمارسها المجلس الوطني الى شيوع الفساد بشكل انعكس سلباً على مكانة الشعب الفلسطيني من المنظورَيْن الاقليمي والدولي لدرجة أن الاتحاد الاوروبي، وهو أكبر داعم للسلطة الفلسطينية ماليا، أن وضع التصرفات المالية تحت وصايته ورقابته الفعلية. هذه اساءة كبيرة لشعب اشتهر أبناؤه بالاستقامة في المناصب المسئولة التي تولوها في شتاتهم. يضاف الى ذلك أن أعضاء من اللجنة التنفيذية قد تصرفوا بثوابت فلسطينية خلافا للمصلحة الوطنية ولقرارات المجلس الوطني، وبقوا مع ذلك أعضاء في اللجنة، الأمر الذي أضعف ثقة الشعب الفلسطيني لا في أولئك الأعضاء فقط وانما في اللجنة بكاملها.

2 – هذا الوضع لا يجوز أن يستمرلأن انفراط عقد المنظمة هو تفريط مرفوض بالمكاسب التي تحققت ودفع الشعب الفلسطيني من دماء ابنائه ومعاناتهم أكثر مما دفعه أي شعب آخر في مقاومة اغتصاب وطنه والدفاع عن حقوقه. ويجب الا يتوهم أحد أن السلطة الفلسطينية التي جاء بها اتفاق مرفوض أصلا مع سلطات الاحتلال تستطيع أن تحل محل منظمة التحرير. فهاهم ممثلوا الشعب الذين انتخبوا في انتخابات شهد العالم كله بنزاهتها وشفافيتها أصبحوا رهائن في معتقلات الاحتلال، تماما كما أصبح رئيسها ورئيس المنظمة المرحوم أبو عمار اسيرا محاصرا الى أن وقع تسميمه، كما أن الاحتلال يغتال من يشاء من قيادات الشعب الفلسطيني، ويصول ويجول في جميع الاراضي الفلسطينية غير عابئٍ لا بالسلطة ولا برئيسها ولا بالاتفاقيات التي سبق ابرامها وتحرص السلطة على التمسك بكل بنودها وقيودها.

3 – لقد تفاوضت المنظمات والفصائل بشأن المجلس الوطني، واتفقت، ولكن اتفاقها لم ينفذ حتى الآن، مهما كانت الاسباب، ولا يصح أن يترك مصير المجلس الوطني بيد المنظمات والفصائل، خاصة في حالة العجز هذه. فالفصائل والمنظمات ليست هي كل الشعب الفلسطيني، في حين أن المجلس الوطني هو للشعب الفلسطيني كله، وليس تحالفاً بين الفصائل والمنظمات، وهذه لها أعضاؤها الذين يمثلونها داخل المجلس، ولكن وجود المجلس وانعقاده وقيامه بواجباته ليس مرهونا باتفاقها ولا يتأثر بالخلافات التي تطرأ بينها. وقد أفتت اللجنة القانونية في المجلس الوطني أيام أن تشرفت برئاستها بأن أية اتفاقيات تتم بين الفصائل لا تكون ملزمة للمجلس. من حقها أن تعرض على المجلس هذه الاتقاقيات، وللمجلس أن يرى رأيه فيها بصفته ممثلا للشعب الفلسطيني كله وليس للفصائل فقط. فالمجلس يضم مستقلين أيضا، وكانوا هم في معظم الاوقات الاغلبية. والسؤال المطروح هل هناك امكانية دستورية وقانونية تتخطى العقبات وتؤدي الى إعادة الحياة لمؤسسات المنظمة، وفي طليعتها المجلس الوطني بوجه خاص؟

الحل في اطار الدستورية الفلسطينية

4 – تنص المادة 8 من اللائحة الداخلية للمجلس الوطني على ما يلي: “مدة المجلس الوطني ثلاث سنوات، وينعقد دوريا بدعوة من رئيسه مرة كل سنة أو في دورات غير عادية بدعوة من رئيسه بناء على طلب من اللجنة التنفيذية أو من ربع أعضاء المجلس. فاذا لم يدع رئيس المجلس الى مثل هذا الاجتماع يعتبر الاجتماع منعقدا حكما بالمكان والزمان المحددين في طلب أعضائه أو طلب اللجنة التنفيذية”. وهذا النص يميز بين دورات عادية، وهذه يدعو اليها رئيس المجلس بناء على مسئوليته المباشرة عن عقدها، ثم هناك دورات غير عادية تكون فيها المبادرة إما من اللجنة التنفيذية وإما من ربع أعضاء المجلس، ويكون رئيس المجلس مسئولا عن توجيه الدعوة في الحالتين. فاذا لم يقم الرئيس بتوجيه الدعوة، ينعقد المجلس بدون دعوة من رئيسه في المكان والزمان المحددين في الطلب، أي أن اللجنة التنفيذية أو الاعضاء الذين تقدموا بالطلب يتوجهون هم مباشرة الى أعضاء المجلس ويخطرونهم بمكان وزمان الانعقاد، فاذا استجاب النصاب القانوني،وهو الثلثان، يكون الاجتماع صحيحا من كافة الوجوه ويكون المجلس قادرا على تصريف الاعمال وفقا لجدول الاعمال المحدد في الدعوة.

5 – هذه الاجراءات سليمة وسهلة التنفيذ لو كان للمجلس الوطني مقر ثابت معروف يتجه اليه الاعضاء سواء كانت الدورة عادية أو غير عادية. غير أن الوضع الفلسطيني لم يسمح حتى الآن بأن يكون للمجلس الوطني مقر ثابت ومعروف. ولذلك كانت اللجنة التنفيذية، ورئيسها بوجه خاص، المرحوم أبو عمار، يجري اتصالاته مع الدول العربية لاستضافة المجلس، وبعد أن كان يحصل على الموافقة من دولة من الدول كان رئيس المجلس يوجه الدعوة. واذا استحال ترتيب الاجتماع في احدى الدول، كان يعقد في مقر الجامعة العربية. ولا يمكن تحميل رئيس المجلس بأكثر من توجيه دعوة شكلية، وفاء بالتزامه القانوني، اذا لم تكن قد تمت ترتيبات الاستضافة هذه. فرئيس المجلس ليست لديه ميزانية خاصة يستطيع الاعتماد عليها لمواجهة التكلفة المالية التي لا مفر منها في كل دورة من دورات المجلس. وكما قلنا فإن الرئيس الراحل أبو عمار هو الذي كان يتكفل باقناع هذه الدولة العربية أو تلك أو الجامعة العربية باستضافة المجلس. ومع هذا فان رئيس المجلس يبقى هو المسئول الأول عن الدعوة للاجتماعات المنتظمة على الأقل والضغط على القيادة الفلسطينية لتهيئة الظروف المواتية لعقد الاجتماع. فاذا لم تثمر هذه الضغوط كان عليه أن يخطر أعضاء المجلس بأنه جاول تنفيذ التزامه القانوني ولكن حيل بينه وبين الوفاء به. في هذه الحالة يبرئ نفسه من المسئولية وينقلها للجنة التنفيذية وللاعضاء.

6 – لكن إذ لم يقم رئيس المجلس بتوجيه الدعوة فإن امكانية الانعقاد تظل قائمة، اذ أن النظام الاساسي للمنظمة قد احتاط لمنع رئيس المجلس من التحكم في اجتماعاته، وذلك بأن خول اللجنة التنفيذية حق الطلب من الرئيس توجيه هذه الدعوة، واذا قصرت اللجنة التنفيذية لسبب ما، كان من حق ربع الاعضاء طلب ذلك. وزاد النظام الاساسي في الاحتياط حرصا على انعقاد المجلس بأن نص صراحة على أنه اذا لم يستجب رئيس المجلس ولم يوجه الدعوة فان الاجتماع ينعقد بقوة القانون في المكان والزمان اللذين حددتهما اللجنة التنفيذية أو ربع الأعضاء، حسب الأحوال.

7– لقد مرت سنوات دون أن يقوم رئيس المجلس أو اللجنة التنفيذية بدعوة المجلس للانعقاد، وترتب على ذلك ما ترتب من نتائج يلمسها الجميع. وليس في الأفق ما يدل على أن هناك جدية لعقد المجلس من جانب اللجنة التنفيذية التي تتولى هي اتخاذ الترتيبات العملية والمالية للانعقاد. ولا نريد أن نخوض في الاسباب، ولكننا نود التأكيد على أن انعقاد المجلس ليس مرهونا باتفاقيات تجريها الفصائل فيما بينها، أو بتسوية أي خلافات أو تطورات داخل ساحة الفصائل أو الساحة الفلسطينية بوجه عام، وليس له أية علاقة بالخلافات التي طرأت بين فتح وحماس. وكما قلنا، فان المجلس الوطني هو مجلس الشعب الفلسطيني وليس مجلس الفصائل. كما أن النظام الاساسي لمنظمة التحرير قد احتاط للتطورات التي قد تطرأ على الساحة الفلسطينية وتقتضي ضم أعضاء جدد، وسنعالج هذا الجانب فيما بعد.

8 – نخلص مما تقدم أنه ازاء عدم انعقاد المجلس بدعوة من رئيسه أو من اللجنة التنفيذية فإن امكانية انعقاده ما زالت قائمة وذلك بأن يمارس ربع الأعضاء حقهم الذي ضمنه لهم النظام الاساسي فيطلبوا من رئيس المجلس دعوته للانعقاد، فاذا لم يقم بذلك ينعقد المجلس بقوة القانون في المكان والزمان اللذين يحددهما هؤلاء الأعضاء. ولا يحق لا للجنة التنفيذية أو رئيسها أو رئيس المجلس أو أية جهة أخرى الطعن في صحة الاجتماع اذا اتبعت هذه الاجراءات وتوفر النصاب القانوني لصحة الانعقاد. إن امكانية تأمين مشاركة ربع الاعضاء في الطلب من رئيس المجلس عقد دورة غير عادية ليست بالمهمة المستحيلة. فالفصائل الحريصة على عقد الاجتماع تستطيع أن تنشط في هذا الاتجاه بدلا من القاء اللوم على اللجنة التنفيذية، فلديها أولا ممثلوها في المجلس، وهناك أعضاء المجلس التشريعي الذين هم اعضاء في المجلس الوطني، واذا كان عددهم لا يكفي فليس من المستحيل تأمين عدد من المستقلين لاستكمال الربع المطلوب. وفي هذه الحالة عليها أن تسعى لتأمين مكان للاجتماع يكون مناسبا لغالبية الاعضاء، مع العلم بأن عدد أعضاء المجلس لم يعد كما كان. فقد التحق منهم من التحق بالرفيق الاعلى، كما أنه لا داعي لدعوة ضيوف أو مراقبين، اقتصادا في النفقات، وعلى الفصائل أن تتحمل هي نفقات أعضائها، فضلا عن أن عددا لا بأس به من أعضاء المجلس يتحملون هم تكاليف سفرهم واقامتهم.

ضم أعضاء جدد للمجلس الوطني وقضية الانتخابات

9 – قد يقال إن المجلس الحالي لا يضم فصائل ظهرت على الساحة الفلسطينية ولا يجوز تجاوزها. هذا صحيح، حيث أن المجلس يجب أن يضم ممثلين عن جميع القوى الفاعلة في المجتمع الفلسطيني.وقد احتاط النظام الاساسي للمنظمة لذلك بنصوص نبحثها في الفقرة التالية. ولكن من الصحيح أيضا أنه لا يجوز فرض شروط مسبقة على من يجوز له أن يكون عضوا، تفرض عليه قبول جميع ما سبق للمجلس أن اتخذه من قرارات أو رسمه من سياسات، أو أبرمته اللجنة التنفيذية من اتفاقيات، حيث أن قرارات المجلس وسياساته تتخذ بالأغلبية لا بالاجماع، ويحق لأي عضو الاعتراض عليها وعلى ما يبرم من اتفاقيات. وكذلك فإن الحكومات تتغير وتتغير كذلك الأغلبيات البرلمانية، وقد تتغير السياسات تبعا لذلك. المجلس الوطني هو برلمان الشعب الفلسطيني، والبرلمانات تضم أعضاء من جميع الاتجاهات، والانتخابات لا تأتي بأعضاء كلهم أو جلهم من اتجاه واحد، الا في ديار العرب. وفي المجلس الحالي ذاته تم الاعتراف رسميا بوجود معارضة. وقد جرى ذلك في دورة الجزائر عام 1988، وهي آخر دورة فاعلة للمجلس. في تلك الدورة أقر المجلس وثيقتين، الاولى وثيقة اعلان الاستقلال، وجرى اعتمادها بالاجماع. أما الثانية فكانت البيان السياسي الذي حدد سياسة المنظمة للمرحلة القادمة والذي كان على اللجنة التنفيذية تنفيذه. وهذه الوثيقة تعبر عن سياسة مرحلية، شأنها شأن أي بيان سياسي، ولذا فهي قابلة للتعديل أو الاستمرار وفقا لما يراه المجلس. وقد تمت الموافقة عليها بالاغلبية فقط، حيث كان هناك معارضة تولى قيادتها في ذلك الوقت المرحوم فقيد فلسطين الدكتور جورج حبش. وأقر المجلس مبدأ المعارضة كمعارضة معترف بها. هذه هي طبيعة العمل البرلماني التعددي السليم. أما محاولات فرض منظور معين على الجميع فذلك يتعارض تماما مع الديموقراطية البرلمانية التعددية التي تبناها الشعب الفلسطيني. وفي مسيرة المجلس الوطني لم يكن هناك اجماع الا على وثيقة اعلان الاستقلال. ولذا لا يصح فرض شروط على عضوية المجلس تتعلق بالرأي أو الموقف السياسي، وها هي اسرائيل مثال بارز على ذلك حيث يضم الكنيسيت أعضاء من أقصى اليمين المتطرف غاية التطرف الى ما دون ذلك، ومجلس الوزراء كذلك، أم إن الحلال لهم حرام علينا، والديموقراطية مفخرة لهم ومَعَرَّةً لنا؟.

اجراءات ضم أعضاء جدد

10 – تعرضت لذلك المادة 32 من النظام الاساسي لمنظمة التحرير، فنصت على ما يلي: “يحق للمجلس الوطني، وتعود له وحده صلاحية ضم أعضاء جدد اليه من حين لآخر، حسبما يرى ذلك ملائما، وبحسب ما تمليه متطلبات معركة التحرير، ومقتضيات تعميق الوحدة الوطنية، في ضوء أحكام الميثاق الوطني، وذلك وفق نظام تقدمه اللجنة التنفيذية في الدورة المقبلة”. ولا أذكر أن اللجنة التنفيذية تقدمت بهذا النظام للمجلس، ولكن كان هناك عرف قد استقر وهو أن يتم الضم بالاتفاق بين مكتب رئاسة المجلس واللجنة التنفيذية. ومع ذلك يبقى الأصل، وهو حق المجلس الوطني في ضم أعضاء جدد مراعاة للاعتبارات الواردة في المادة المذكورة، وهو حق محصور في المجلس الوطني. وبناء عليه يمكن للمجلس أن ينعقد بأعضائه الباقين الحاليين، وفي مقدوره في الجلسة الاولى أن يضم أعضاء جددا. وقد ضم المجلس أعضاء جددا أثناء مسيرته، وهذا هو السبب في تضخم عدد الأعضاء. وهذا النص لا يترك ضم الاعضاء الجدد للمساومات بين الفصائل، وانما الذي يبت فيه نهائياً هو المجلس نفسه بقرار منه، بعد أن يستمع الى مبررات الضم. إن تطبيق هذه المادة يعين على عقد اجتماع للمجلس الوطني ليقوم بدوره في مراجعة السياسات السابقة التي اتخذها في ضوء تغير الظروف، ويكون مناسبة لانتخاب لجنة تنفيذية جديدة، ومساءلة اللجنة التنفيذية الحالية ومحاسبتها بطريقة دستورية سليمة، ويتيح في الوقت ذاته ضم أعضاء جدد لمشاركة القوى التي جدت على الساحة الفلسطينية، في انتظار انتخاب مجلس جديد.

موضوع الانتخابات

11– تتعالى اصوات مطالبة باجراء انتخابات للمجلس الوطني. وهذا مطلب سليم، يتمشى مع ما نصت عليه المادة 5 من النظام الاساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، حيث جاء فيها أن يكون انتخاب الاعضاء “عن طريق الاقتراع المباشر من قبل الشعب الفلسطيني بموجب نظام تضعه اللجنة التنفيذية لهذه الغاية”. غير أن هذا النص قد تعذر تنفيذه تنفيذا كاملا، ذلك أنه، بعد اعلان قيام منظمة التحرير في القدس عام 1964 واقرار الميثاق الوطني والنظام الاساسي لمنظمة التحرير، تَقَدَّم المرحوم الاستاذ أحمد الشقيري (أبو مازن) بتقريره للقمة العربية وطلب أن يسمح له باجراء انتخابات للمجلس الوطني، فأحاله الرؤساء للتفاوض مع كل دولة عربية على حدة. وطاف أبو مازن، رحمه الله، بين هذه الدول، فلم توافق دولة واحدة على اجراء هذه الانتخابات من قبل الفلسطينيين المقيمين في أراضيها. ومن هنا جاء الاختيار بدلا من الانتخاب، مع مراعاة تمثيل الفئات والفصائل والاتحادات والجاليات والفعاليات المستقلة قدر المستطاع. فهل تغيرت الأوضاع؟ وهل سيسمح للفلسطينيين في الافطار العربية أن يجروا انتخابات حرة نزيهة، تحت رقابة دولية كتلك التي أجروها عام 2006؟ وعلى أي حال، هل من مصلحة القضية أن يظل المجلس الوطني معطلا وأن تستمر الأوضاع على ما هي عليه الى أن تتاح فرص الانتخاب؟ المجلس الحالي لا يزال قائما بالرغم من مضي المدة، ذلك لأن المادة 6(أ) من النظام الاساسي لمنظمة التحرير تنص على أنه “اذا تعذر اجراء الانتخابات الخاصة بالمجلس الوطني استمر المجلس الوطني قائما الى أن تتهيا ظروف الانتخابات.” كما أن الفقرة (ب) من نفس المادة تنص على أنه ” اذا شغر مقعد أو أكثر في المجلس الوطني لأي سبب من الاسباب، يعين المجلس العضو أو الأعضاء لملء المقاعد الشاغرة”. يضاف الى ذلك أن أعضاء المجلس التشريعي المنتخب هم أعضاء في المجلس الوطني، وأن عددا من الجاليات الفلسطينية في الشتات قد نظمت نفسها وانتخبت مجالس ادارتها وبالامكان ضم أعضاء منها لملء المقاعد التي شغرت. انني أخشى أن يطول الانتظار اذا رُبِطَ انعقاد المجلس باجراء انتخابات، في حين أن المجلس اذا اجتمع يستطيع اتخاذ القرارات والترتيبات لانتخاباتٍ لمجلس جديد، ويمارس في الوقت ذاته اختصاصاته الأخرى الى أن يأتي المجلس المنتخب.

النتيجة

النظام الاساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية قد وضع القواعد لانعقاد المجلس وضم أعضاء جدد، واذا طبقت فان المجلس يمكن أن ينعقد دون تأخير. وما على اللجنة التنفيذية ورئيسها أو ربع أعضاء المجلس الا أن ينشطوا بجدية لتحقيق ذلك.

نشرت في القدس العربي في 3 مايو 2008 تحت عنوان “تغييب المجلس الوطني الفلسطيني يعني الموت البطيء لمنظمة التحرير”

رئيس لجنة الميثاق والأنظمة في المؤتمر التاسيسي لمنظمة التحرير، ورئيس اللجنة القانونية سابقا في المجلس الوطني الفلسطيني.