مقدمة: نشرت جريدة الجارديان البريطانية في عددها الصادر في 27 مايو 2009 تحليلا لمراسليها في رام الله تحت عنوان “قرية الأمل الفلسطينية – قرية بلعين في الضفة الغربية تقود مقاومة خلاقة ضد العدوان الاسرائيلي” جاء فيه، ما مختصره، انه في الوقت الذي يبدو فيه أن السلطة قد تعبت وأن الشعور السائد هو عدم جدوى المقاومة، فإن قرية بلعين التي قضم الجدار نسبة كبيرة من أراضيها، تبتكر في كل يوم جمعة أسلوبا جديدا للمقاومة السلمية لتبقي اهتمام الاعلام ماثلا لما يجري. ففي ابريل، وفي ذروة هستيريا انفلونزا الخنازير خرج أهل القرية وعلى أنوفهم كمامات الانفلونزا تعبيرا عن رفضهم للاحتلال، وفي يوم الجمعة جاؤوا بابتكار جديد، اذ ملأوا بالونات بروث الدجاج وقذفوها في وجه الجنود الين يحرسون بناء الجدار. فشعب بلعين يقدم باستمرار فسحة من الأمل والالهام، في الوقت الذي ينتشر شعور بالعجز ويدير العالم ظهره لما يجري في فلسطين.
تحية وألف تحية وشآبيب الرحمة على شهدائها الابرار، وجميع شهداء المقاومة مهما كان نوعها، تحية للجنة مقاومة الجدار، واكبارا لابناء بلعين وأبناء جميع القرى المحاذية للجدار، اطفالا ونساء وشيوخا وشبابا. تحية لهم في كل يوم جمعة يخرجون فيه تحديا لمحاولات اغتصاب المزيد من الارض والوطن وبناء جدار سيحول الضفة الغربية كلها الى سجن كبير تسيطر عليه بوابات تسمى خطأ نقاط تفتيش، وهي في حقيقتها بوابات زنزانات تسبح في داخلها القرى والمدن والأهل في داخل السجن الكبير.
إن هذا النشاط الاسبوعي السلمي الذي يقوم به الأهل في بلعين وفي قرى الحدود لمقاومة بناء هذا السجن الكبير هو جزء من الرد على محاولة تيئيس الشعب الفلسطيني من امكانية اجهاض المشروع الصهيوني من أساسه، وهو استمرار لنضال ضد هذا المشروع دام قرنا من الزمان ولم يتوقف، ولن يتوقف باذن الله، وبصمود شعبنا. إن المشروع الصهيوني كله وما تفعله اسرائيل يوميا يقوم على أمل واحد فقط وهو زرع اليأس في نفوس الشعب الفلسطيني والشعب العربي من امكانية مقاومة ذلك المشروع. زرع اليأس في النفوس هو الجدار الأم الذي يستندون اليه، وهذا ما قاله زعماء الحركة الصهيونية منذ زمن بعيد. لقد تصوروا أن مقاومة مشروعهم ستنتهي بموت الجيل الذي عاصر النكبة. وها هي اجيال جديدة تظهر على الساحة، وهي اشد مضاء وأقوى من الاجيال التي سبقتها. وفي كل يوم تبتكر هذه الاجيال اسلوبا جديدا في المقاومة، وفي كل يوم يترسخ الايمان أكثر فأكثر بأن المشروع الصهيوني سينهار كما انهارت من قبله مشاريع الاستعمار والعنصرية في أرجاء أخرى من العالم، وليس أمام الأجيال الفلسطينية والعربية المتعاقبة سوى تحريك تيئيس مضاد يتآكل المشروع الصهيوني في مواجهته، وتتزعزع الثقة في امكانية استمراره وبقائه. وهاهم الأهل في غزة والقطاع صامدون، لم يستسلموا ولم ييأسوا بالرغم من كل ما حل بهم في العدوان الأخير عليهم. إن العدو بدأ يستغرب من قدرة هذا الشعب على الاحتمال بالقياس لقدرتهم هم عليه، دون أن يدرك أن شعبنا هذا يدافع عن وطن وعن حق، وهو يدافع عن استعمار وباطل. وشتان بين من يدافع عن حق ومن يدافع عن اغتصاب له.
الفلسفة التي قامت عليها الحركة الصهيونية فلسفة استعمارية استيطانية مستقاة من تجارب الاستعمار الاستيطاني الاوروبي للقارة الامريكية في القرن السادس عشر، بل وقبله من غزو القبائل العبرية لفلسطين قبل أكثر من الفي سنة. هذا ما يقوله أحد أكبر زعماء هذه الحركة وأكثرهم اجراما، وهو فلاديمير جابوتنسكي، الذي أنشأ عصابة الارغون وقاد الهاجانه في القدس وأسس الشبيبة الصهيونية وحزب حيروت الذي ورثه حزب اللكيود المعاصر. ففي مقال نشره في نوفمبر عام 1923 باللغة الروسية، ثم عاد فنشره باللغة الانكليزية عام 1937، حدد جابوتنسكي طبيعة وهدف الحركة الصهيونية، وهو استيطان فلسطين، كل فلسطين، والحيلولة المطلقة دون أن يكون لسكانها الاصليين أي دور مؤثر، هذا اذا بقي أحد منهم فيما أصبحوا يسمونه بأرض اسرائيل، وهي تسمية من صنع الحركة الصهيونية. فالعهد القديم الذي كتبه قدامى الاحبار اليهود يسمي فلسطين بأرض كنعان، ويسميها التاريح بفلسطين نسبة لسكان اصليين هم الفلسطينيون الذين استقروا في الساحل الجنوبي الغربي من البلاد قبل آلاف السنين.
ويدرك جابوتنسكي في مقاله أنه لم يحدث في التاريخ وفي أي زمان أو مكان أن كان هناك غزو استيطاني أجنبي ولم يقاومه سكان البلاد الاصليون “سواء كانوا متحضرين أو همجا” على حد قوله. وهذا ما توقعه في فلسطين إذ يقول ” إنه أبعد ما يكون عن آمالنا وأحلامنا في الوقت الحاضر والمستقبل المنظور أن يتفق العرب معنا بمحض اختيارهم. وباستثناء أولئك (أي الصهيونيون) الذين أصابهم العمى منذ الطفولة، فان جميع الصهيونيين المعتدلين الآخرين قد أدركوا منذ زمن بعيد أنه لا يوجد حتى أضعف الآمال في الحصول في أي وقت على موافقة عرب (أرض اسرائيل) على أن تصبح البلاد ذات أغلبية يهودية”. ولماذا، يتساءل جابوتنسكي. وجوابه هو التاريخ من جهة وطبيعة الاشياء من جهة أخرى، مستشهدا بالاستعمار الاستيطاني الذي مارسته أوروبا قي الامريكتين، بل وحتى الاستعمار الاستيطاني الذي جاء مع القبائل العبرية التي غزت فلسطين بعد خروجها من مصر. في جميع هذه الحالات قاوم السكان الاصليون الاستعمار مهما كان مصدره. يقول جابوتنسكي في هذا الشأن: “إن السكان الاصليين حاربوا المستوطنين البيض ليس لأنهم يخشون مصادرتهم لهم، ولكن لأنه بكل بساطة لم يحدث أبدا في أي مكان أو أي زمان أن رضي السكان الاصليون بأن تستعمر بلادهم. فكل مواطن أصلي، سواء كان متحضرا أو متوحشا، يعتبر بلاده على أنها هي وطنه القومي الذي يظل هو دائما السيد فيه كامل السيادة، ولن يسمح أبدا ليس فقط بوجود سيد آخر فيه، ولكن حتى بأن يكون له شريك جديد في ذلك الوطن. وهذا هو الحال بالنسبة للعرب. كل الشعوب الاصلية قاومت الاستيطان الاجنبي ما دام هناك أي أمل في التخلص من خطر ذلك الاستيطان. وهذا ما يفعله الفلسطينيون، وما سيستمرون في فعله، ما دام هناك بريق من الأمل في أنهم يستطيعون أن يحولوا دون أن تتحول فلسطين الى أرض اسرائيل. الاستعمار في حد ذاته له تفسيره، أساسي ولا مفر منه، ويفهمه كل عربي وكل يهودي له عقل يفكر. الاستعمار له هدف واحد، وبالنسبة لعرب فلسطين فان هذا الهدف لا يمكن القبول به. هذه هي طبيعة الاشياء، ولا يمكن تغيير ذلك”.
وفي هذا النص يعترف جابوينسكي بأمور متعددة. إنه يعترف بأن طبيعة المشروع الصهيوني لا تختلف عن طبيعة المشاريع الاستعمارية الاستيطانية الأخرى، وأنه مشروع استعماري. ويعترف كذلك بأن العرب هم السكان الاصليون لفلسطين، وليس اليهود، وأن هؤلاء السكان الاصليين سيقاومون الاستيطان الصهيوني، شأنهم في ذلك شأن جميع السكان الاصليين في بقاع المعمورة. ويعترف بأن أساس المقاومة هذه ليس الخوف على مصادر الأرزاق من المصادرة، وانما هو أعمق وأدق من ذلك. إنه الانتماء لذلك الوطن والتعلق بالسيادة عليه، وما تنطوي عليه هذه السيادة من الانفراد به ورفض المشاركة فيه. الفلسطينيون يعرفون هذا ويعرفه حتى المعتدلون من اليهود، ولذا فإن العرب يرفضونه ولا يقبلون به.
ويعترف جابوتنسكي بأنه لا يمكن وعد الفلسطينيين أو العرب بأي شيء يغريهم بالموافقة على المشروع الصهيوني، ولذا يجب ارغامهم على قبوله. والسبب في ذلك، كما يقول وبحق، هو “فلسطين بالنسبة للفلسطينيين هي وطنهم القومي ومركز وجودهم القومي. ولذا يصبح من الضروري أن يحدث الاستيطان بالرغم من ارادة عرب فلسطين، وهذا هو ما يحدث الآن. الاستيطان الصهيوني ، مهما كان محدودا، عليه إما أن يتوقف، وإما أن يتم بالتحدي لارادة السكان الاصليين”. لقد نشر جابوتنسكي مقاله أيام الانتداب البريطاني على فلسطين ومحاولة بريطانيا تنفيذ وعد بلفور الذي أدرج في صك الانتداب، وكانت المقاومة للمشروع الصهيوني منتشرة في أرجاء فلسطين بشتى الوسائل، ولذا يصبح من الضروري أن يتم الاستيطان رغما عن ارادة الشعب الفلسطيني الذي كان يقاومه. وازاء هذه المقاومة فإن الخيار أمام المشروع أحد أمرين: إما أن يتوقف بسبب هذه المقاومة، وإما أن ينفذ رغما عن ارادة السكان الاصليين، أي الفلسطينيون. وفي هذا اقرار بأن المقاومة قادرة على اجهاض المشروع، واذا أريد الاستمرار فيه فيجب البحث عن طريقة لارغام الفلسطينيين بالقبول به.
وما هي هذه الطريقة؟ يقول جابوتنسكي “لهذا فان الاستيطان لا يمكن أن يستمر وينمو الا تحت حماية قوة مستقلة عن السكان المحليين – جدار حديدي لا يستطيع السكان الاصليون اختراقه. هذه هي مجمل سياستنا نحو العرب، وانه النفاق وحده أن نقول غير هذا.”
الحل الذي وجده جابوتنسكي لارغام الفلسطينيين على القبول بالمشروع الصهيوني هو مواجهتهم بقوة دولة لا يستطيعون الوقوف أمامها. دولة تتبنى المشروع الصهيوني وتستعمل ما لديها من قوة لارغام الشعب الفلسطيني على الرضوخ. هذا هو الجدار الحديدي الذي ارتأى جابوتنسكي انه يجب على المشروع الصهيوني الاحتماء به. وكان هذا الجدار بريطانيا أيام الانتداب البريطاني على فلسطين، ومع ذلك كانت المقاومة له قوية متخذة أشكالا متعددة: اضرابات ومظاهرات ومقاطعة للمنتجات الصهيونية وعصيان مدني وعمل سياسي وثورات مسلحة. ولم يستسلم الفلسطينيون ولم ينل المشروع موافقتهم. وفشلت بريطانيا في محاولاتها. وازاء هذا الفشل من جهة وعدم قدرة المشروع الصهيوني على الاعتماد على نفسه لتحقيق أهدافه منفردا فقد استعاض بالولايات المتحدة عن بريطانيا وأصبحت هذه الدولة الكبرى هي الجدار الحديدي البديل. وفي ظل هذا الجدار حقق المشروع الصهيوني جانبا مهما من أهدافه بقيام اسرائيل وحظي بدعم أمريكي كبير لبناء قوته الذاتية من جهة وبحماية سياسية ودولية كان من ابرزها الفيتو الامريكي واجهاض قرارت مجلس الأمن والجمعية العامة للامم المتحدة وتمرير قرار التقسيم عام 1947 ورفض عرض مشروعيته على محكمة العدل الدولية، كما طالب العرب حينئذ. وكانت الجمعية العامة التي اتخذت قرار التقسيم خاضعة في ذلك الوقت لسيطرة الدول الغربية ولم تكن البلاد المستعمرة في آسيا وافريقيا قد نالت استقلالها بعد ليكون لها صوت مؤثر. ومع ذلك فقد مر قرار التقسيم بأغلبية صوت واحد فقط بالرغم من الضغوط الهائلة والرشوات التي تعرضت لها الدول المعارضة للتقسيم. ولكن الشعب الفلسطيني لم يستسلم، وما كان له أن يستسلم ويتخلى عن وطنه، فهذا مخالف لطبيعة الاشياء، وانما نهض من كبوة النكبة وعاد الى النضال من أجل حماية حقوقه، وهو نضال لم يتوقف حتى يومنا هذا. ومؤدى هذا، وفقا لمنطق جابوتنسكي، أنه ما زال الامل بعيدا في تحقيق المشروع الصهيوني بموافقة الشعب الفلسطيني عليه.
جابوتنسكي يعترف بذلك، اذ يمضي في مقاله الى القول: “إن هذا لا يعني أنه لا يمكن التوصل الى اتفاق، وانما يعني فقط استحالة وجود اتفاق يبرمه الفلسطينيون بحرية. فما دام هناك أي بريق من الأمل بأنهم يستطيعون التخلص منا ، فانهم لن يبيعوا آمالهم في مقابل كلمات معسولة منا أو عشاء لذيذ لأنهم ليسوا رعاعا وانما هم أمة مهما كانت رثة الثياب. انهم لا يزالون أحياء. وأي شعب حي لا يقدم على تقديم هذه التنازلات الضخمة في أمور مصيرية كهذه الا اذا لم يبق لديه أمل. ”
وكيف سيفقد الفلسطينيون كل أمل؟ يجيب جابوتنسكي على هذا السؤال بالقول “فقط عندما لا يبدو أي شرخ في الجدار الحديدي. عندئذ فقط تفقد الجماعات المتطرفة سلطتها واعتراضها بأن ذلك لن يكون أبدا، وينتقل النفوذ للجماعات المعتدلة. عندئذ فقط تأتي الينا الجماعات المعتدلة وتعرض اقتراحات بحلول وسط في قضايا عملية مثل عدم طردهم من البلاد أو المساواة أو الادارة الوطنية المحلية. غير أن الطريق الوحيد لمثل هذا الاتفاق هو الجدار الحديدي، أي تقوية حكومة في فلسطين لا يكون فيها أي نوع من أنواع النفوذ للعرب، أي حكومة لا يستطيع العرب محاربتها. وبكلمة أخرى فإن الطريق الوحيد أمامنا للوصول الى اتفاق في المستقبل هو الرفض المطلق للاتفاق في الوقت الحاضر. ”
والوقت الحاضر الذي يتكلم عنه جاوتنسكي عام 1923 وعام 1937 حين عاد ونشر مقاله باللغة الانكليزية كان بطبيعة الحال ايام الانتداب البريطاني عندما كانت المقاومة الفلسطينية للمشروع الصهيوني والوجود البريطاني متواصلة، ولذا لم يكن هناك الاستسلام الذي يوفر فرص فرض المشروع وفق شروطه الرافضة للوجود الفلسطيني المؤثر. وما دام الأمر كذلك فالحركة الصهيونية لم تكن مستعدة للاتفاق، ولذا رأى جابوتنسكي أن الاتفاق حينئذ يجب أن يكون مرفوضا، لأن ظروف السيطرة الصهيونية المطلقة لم تكن متوفرة والمقاومة الفلسطينية تحدث شروخا في الجدار الحديدي البريطاني، وستكون قادرة على احداث هذه الشروخ في المشروع الصهيوني اذ انفردت به.
جابوتنسكي يعترف بأن الفلسطينيين لن يبرموا مع الحركة الصهيونية اتفاقا يقبل بأهدافها وهم مختارون. ولذا يجب على الحركة الصهيونية أن تحقق أهدافها بالرغم منهم. وهذا لا يمكن تحقيقه الا اذا بلغ اليأس الفلسطيني من امكانية مقاومة المشروع الصهيوني أقصاه، أي أنه لا جدوى من المقاومة، ويجب الاستسلام للمطالب الصهيونية.
المنطق الصهيوني كما شرحه جابوتنسكي يركز على تيئيس الشعب الفلسطيني نفسه، وفي هذا الاطار جاء الحديث عن من سماهم “المعتدلين” و”المتطرفين”. المتطرفون هم الذين يقولون لا للمشروع الصهيوني، يقولون “لا” لأن تصبح فلسطين دولة يهودية لا مكان فيها لشعبها الفلسطيني وتكون فيها الاغلبية المسيطرة على كل شيء هي المستعمرون المستوطنون. والمعتدلون وفق هذا المنطق هم من يقبلون تهويد فلسطين ويرضون بأن لا تكون لهم كلمة في وطنهم، قيأتون زاحفين يقترحون حلولا عملية لا تؤثر في المشروع الصهيوني وهدفها مجرد امكانية العيش في ظل هذا المشروع، مثل الوعد بعدم الطرد من البلاد أو الاكتفاء بادارة محلية لا شأن لها بادارة البلاد وحكمها، ويكونون جاهزين لتقديم “التنازلات الضخمة” التي لا يقبلها السكان الاصليون الا اذا فقدوا كل أمل في مقاومة المشروع الاستعماري الاستيطاني. و”المعتدلون”، في هذا المنطق ووفقا لجابوتنسكي، يجب أن يكونوا من السكان الاصليين، أي من الفلسطينيين أنفسهم لأنهم هم أصحاب الوطن. ولا يغني عن استسلام هؤلاء استسلام الأنظمة العربية فقط. ولربما يتوهم الاسرائيليون أنهم يجدون ضالتهم من “المعتدلين” فيمن يسيطرون في وقت من الاوقات على القرار الفلسطيني من افراد أو منظمات، وهذا وهم. فمقاومة الاستعمار الاستيطاني عبر التاريخ هي مقاومة تنهض بها الشعوب، في اجيالها المتعاقبة، لأن الموضوع لا يرتبط بلحظة تاريخية معينة أو بحق عابر يمكن التنازل عنه أو التعويض عليه، وانما هو قرار مصيري يمس الشعب كله، حاضره ومستقبله، ويتعلق بحقوق لا يملك التصرف فيها أفراد أو منظمات في لحظة زمنية عابرة. ولا يجدي فيها حتى الاستفتاء في لحظة يبدو فيها أن الشعب قد انهكته المقاومة، في حين أن تلك اللحظة هي، في عرف التاريخ، لحظة استراحة يستجمع فيها الشعب قواه ليستأنف النضال. ومصير الاحتلال الصليبي والاحتلال الفرنسي للجزائر ومصير الاستعمار كله شاهد على هذه القراءة للتاريخ، وهو ما يدركه جابوتنسكي عندما يتحدث عن الشعوب الحية.
لقد طبقت الحركة الصهيونية منذ بداياتها هذا المنهج الذي عرضه جابوتنسكي، واتبعت كل وسائل التيئيس من مجازر وتطهير عرقي ومحو للتاريخ والأثر الفلسطينيين في كل بقعة سيطرت عليها في فلسطين، وهدمت البيوت وشردت الأهل وقامت بالحملات العسكرية المدمرة وفرضت الحصار الكامل، ولكن الفلسطينيين ظلوا أحياء، يرفضون أن تحول بلادهم الى دولة يهودية تنفي وجودهم وتاريخهم في وطنهم. ومحاولات اسرائيل لن تنتهي، في انتظار ظهور أولئك “المعتدلين” الذين أوصلهم اليأس من مقاومة المشروع الصهيوني الى درجة القبول به. والذي يمنع ظهور هذه الفئة هي حتمية المقاومة، فالاستيطان الاستعماري يجلب معه المقاومة له بحكم الطبيعة، كما يعترف بذلك جابوتنسكي، وهذه هي طبيعة الاشياء التي لا يمكن تغييرها، كما يقرر جابوتنسكي أيضا.
المقاومة حق طبيعي مارسته وتمارسه جميع الشعوب التي تعرضت للاستعمار. ونظرا لخصوصية المشروع الصهيوني الذي يحتاج الى جدار حديدي من دولة كبرى، فان المقاومة يجب أن تمتد لتشمل الدولة الحامية للمشروع لاقناعها بضرورة التخلي عنه أو فرض هذا التخلي عليها. ومن هنا تأتي أهمية التعامل مع الولايات المتحدة، بوجه خاص، بصفتها الدولة التي أصبحت الحامي للمشروع الصهيوني. وهذا التعامل متشعب الاتجاهات، وأهم اتجاه هو اقناع الولايات المتحدة بأن هذا المشروع ضار بمصالحها في العالمين العربي والاسلامي، ومسيء لمصداقيتها في العالم كله، حيث أن المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني يتعارض مع جميع القيم التي تدعي أنها تحرص عليها. ومصلحة أمريكا ومصداقيتها لا تتحققان عن طريق التنكر لهذه القيم أو المراوغة أو الرياء. فهذه أمور تنكشف بسرعة ومصيرها الاضرار بالمصالح والمصداقية. ولا بد أن يأتي اليوم الذي تعطي فيه هذه الوسائل ثمارها. الموقف الامريكي لن يتغير الا اذا توفرت القناعة بأن المشروع مرفوض من الجانبين الفلسطيني والعربي الاسلامي وأنه ضار بمصالحها وبمصداقيتها. عندئذ فقط يمكن أن يكون الحوار مجديا. أما تسليم القرار لأمريكا والاحتكام اليها على أنها وسيط نزيه دون ممارسة الضغوط عليها، انطلاقا من مصالحها ومصداقيتها، فأمر لن يجدي. أما الاستجداء فهو دليل على التهاون والضعف والاستخفاف بالحقوق، ولن يوصل الى استردادها.
وفي هذا السياق يأتي الدور البناء للمعارضة الشعبية سواء كانت هذه المعارضة تعبر عنها المنظمات أو مؤسسات المجتمع المدني أو النشاطات الشعبية، مثل رفض التطبيع والمقاطعة والمقاومة السلمية. والحركات الواعية تستفيد من وجود المعارضة لتحسين شروطها ورفع سقف مواقفها. ومما يذكر بهذه المناسبة أن مناحيم بيجن، رئيس وزراء اسرائيل الاسبق، عندما كان يفاوض السادات في كامب دافيد كان دائما يحصن نفسه بالمعارضة الاسرائيلية له في الكنيسيت، أي أنه كان يستغل المعارضة للتمسك بمواقفه المتشددة، بادعاء أنه اذا تنازل فانه لن يستطيع امرار ما يوافق عليه، وكان يميز بينه وبين السادات بأن السادات “ريِّس” ويستطيع تمرير كل ما يريده. مناحيم بيجن استغل وجود المعارضة في اسرائيل من جهته والانفراد بالسلطة والقرار في مصر في ذلك الوقت من جهة أخرى لتحقيق أهدافه. ووجود المعارضة الفلسطينية والشعبية في الوطن العربي يمكن الاستفادة منها، بل يجب الاستفادة منها، بنفس الاسلوب، وهذا اسلوب من اساليب المقاومة.
لقد اعترف المجلس الوطني الفلسطيني بالحق في المعارضة في نفس الجلسة عام 1988 التي أعلن فيها الاستقلال بالاجماع، في حين أن البيان السياسي تم اقراره بالأغلبية فقط، حيث أنه قابل للتغيير في ضوء المتطورات، وكان يقود المعارضة له في ذلك الوقت شهيد فلسطين المرحوم الدكتور جورج حبش والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وفي نهاية الجلسة وبعد التصويت تعانق المرحومان أبو عمار والحكيم وأعلنت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أنها معارضة معترف بها من المجلس الوطني. المعارضة ظاهرة صحية في المجتمعات الحية، وتؤدي دورها في مراقبة السلطة وأصحاب القرار للكشف عن الأخطاء أو الخروج عن الخط الوطني. أما أن ينخرط الجميع في سلة واحدة وتنعدم المراقبة والمساءلة، وهو الدور الذي تقوم به المعارضة، فهذا هو مكمن الخطر والطريق الى الفساد والتهاون في الثوابت.
إن حملة التيئيس المضاد التي يمارسها شعبنا في فلسطين وبقية الشعوب العربية مستمرة، ويجب أن تتصاعد وتزداد تنوعا، لتعميق الشعور لدى العدو بأن مصير مشروعه سيكون كمصير المشاريع الاستعمارية الاستيطانية الاخرى، مهما طال الزمن، وهو الانهيار في وجه صمود أهل الارض. وكما انهزم الاستعمار الاستيطاني العنصري في جنوبي افريقيا وفي الجزائر وليبيا، وتحررت المستعمرات من الاستعمار فإن الاستعمار الاستيطاني الصهيوني سيلقى نفس المصير في نهاية المطاف، بشرط أن لا ييأس الشعب الفلسطيني فيسمح “للمعتدلين” بالسيطرة على مقدراته، وفقا لهذا التعريف الذي جاء به جابوتنسكي لما يسمى بالمعتدلين.
من مؤسسي منظمة التحرير الفلسطينية
عنوان المقال باللغة الانكليزية The Iron Wall (We and the Arabs) وهو منشور في كتاب 51 Documents: Zionist Collaboration with the Nazis, editor Lenni Brenner, 2002, p.32 كما يمكن مطالعته على الانترنت بالبحث تحت عنوان المقال.