حق العودة

حق العودة

مقدمة

1 – إن حق الانسان في العودة الى بلده اذا غادره لأي سبب من الأسباب هو من الحقوق الطبيعية البديهية التي لم تكن في حاجة الى تقنين أو نصوص دستورية أو اتفاقيات دولية. هو حق مستمد من انتماء الانسان الى ذلك البلد دون غيره من أقطار الكرة الأرضية، هذا الانتماء الذي يعبر عنه بالاقامة المستقرة المعتادة فيه نتيجة للانتماء له، ومشاركته في ارثه التاريخي وفي وتراثه عبر أجيال متعاقبة، وهو حق تتوارثه الاجيال جيلا بعد جيل بطريقة تلقائية لا تتطلب اجراءات أو معاملات. الانتماء هذا هو العلاقة العميقة في كيان الانسان ووجدانه التي تستقر ولا تنفصم بين الانسان ووطنه. وهذا الانتماء والارتباط بالوطن أعمق من أن تنتفصه أو تؤثر في وجوده واستمراره ظروف طارئة قد لا يكون للانسان يد في حدوثها أو في القدرة على منعها، كالاحتلال الاجنبي، كما لا يفصمها غياب اختياري كالانتقال لبلد أجنبي للعمل أو الدراسة. قالأصل يبقى: وهو هذا الأصل هو الحق في العودة بناء على ذلك الانتماء. وتفريعا على هذا فاننا نجد أن عددا من الدول لا تعترف باكتساب ابنائها لجنسيات أخرى. هي لا تعاقبه على ذلك وقد لا تحظره عليه، وانما تعتبر أن ارتباطه بها لا ينقطع وأنه في اللحظة الاولى التي يعود فيها يعتبر مواطنا كامل المواطنة. كما أن دولا أخرى تجيز العودة للوطن لكل من يثبت أن أصوله كانت فيه ويرغب هو في العودة الى أصوله. أي أن الانتماء لا ينقطع بمضي المدة. وهكذا نرى عودة المهاجرين الى وطن الآباء والأجداد، مهما تقادم العهد، اذا حنوا للعودة اليه، وزالت العقبات التي كانت تحول دون تحقيق هذه الرغبة، كالاحتلال الاجنبي. إن حق الانسان في العودة الى وطنه، حق ثابت له فيه، دون غيره من الاوطان، ولذلك فإن هذا الحق لاتقيده قيود، ويمارسه الانسان بصورة تلقائية، في حين أنه في حاجة الى موافقات وتأشيرات اذا اراد الدخول أو العودة الى أي قطر آخر أو الاقامة فيه. ان الانسان يستطيع العودة الى وطنه حتى لوكان جواز سفره قد انتهت مدته، دون أن يكون هناك نص قانوني يتعلق بالموضوع.

2 – وقد نشأت الحاجة لبحث هذا الحق والتأكيد عليه كحق من الحقوق الثابتة للانسان نتيجة للحروب، وخاصة الحربين العالميتين الاولى والثانية، والنزاعات التي ترتب عليها مغادرة المواطنين لأوطانهم باعداد كبيرة، الأمر الذي استوجب تثبيت حقهم في العودة لاوطانهم. كما ظهرت حركات التحرر من الاستعمار الاجنبي الذي يتنافى مع أبسط مشاعر الانسان في الحرية قي وطنه والسيادة عليه. أي أن الظروف قد تكاتفت للتأكيد على خقوق الانسان من جهة أنه انسان، والتأكيد على حقوقه من جهة أنه كائن في مجتمع ينتمي اليه في جزء من هذا العالم قد استقر فيه وأقام وجوده وتراثه وتاريخه. فكانت القفزة الهائلة في ظهور منظمة الامم المتحدة تعبيرا عن موقف الشعوب من جميع هذه الحقوق. ولهذا فقد صدر ميثاق المنظمة الجديدة باسم الشعوب، لا الحكومات، وكان ذلك في 26 يونيو 1945 ودخل الميثاق حيز التنفيذ في 24 أكتوبر 1945. ونصت ديباجته ، فيما نصت عليه، على أن شعوب الامم المتحدة قد عقدت العزم على اعادة التأكيد على ايمانها بالحقوق الاساسية للانسان، وجعلت من بين أهدافها اشاعة حقوق الانسان والتشجيع على احترامها بالنسبة للجميع دون تمييز بسبب العرق أو الجنس أو اللغة أو الدين. وبدأت تتهاوى قلاع الاستعمار أمام حركات التحرير الوطني التي بدأت تسترد للشعوب حريتها واستقلالها وحقوقها، فتغير وجه الامم المتحدة تغيرا جذريا، وأصبحت السيطرة في جمعيتها العمومية لدول تحرص على الحفاظ على حقوق الانسان والشعوب في مواجهة نزعة التسلط التي لم تتخلص منها دول كبرى ما زالت تحلم باقامة الامبراطوريات والسيطرة على الشعوب الأحرى، مما يتناقض كل التناقض مع الدوافع التي حركت قيام الامم المتحدة وأهدافها المدونة في ميثاقها.

3 – وبالرغم من هذه النزعة التسلطية لدى البعض، فقد استطاعت الجمعية العمومية للامم المتحدة أن تخرج الى الوجود العديد من الاعلانات والمواثيق الدولية والقرارت التي تُثَبِّتُ للانسان وللشعوب حقوقهما، بحيث أصبحت هذه الاعلانات والمواثيق والقرارات مرجعية يحتكم اليها. ويهمنا فيما نحن بصدده أن نشير الى عدد من القرارات والاعلانات والمواثيق التي تعرضت لحق العودة وحماية حقوق اللاجئين بشكل عام قبل أن ننتقل لحق عودة اللاجئين الفلسطينيين، وذلك للتأكيد على عمومية هذا الحق، وأن تمسك الفلسطينيين بحق العودة هو الأصل، حتى في النظام القانوني الدولي المعاصر، فضلا عن كونه حقا طبيعيا لا مجال للمماحكة فيه.

4 – ومن بين هذه الفرارات والاعلانات والمواثيق الاعلان العالمي لحقوق الانسان الصادرفي 10 ديسمبر 1948 ، واتفاقيات جنيف الاربعة التي تمت الموافقة عليها قي 12 أغسطس 1949 ، واتفاقية اللاجئين لعام 1951 ، والقرار بانشاء المفوضية العامة للاجئين لعام 1951 ، والاتفاقية الخاصة بعديمي الجنسية لعام 1954، والاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري لعام 1965، والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 ، والاتفاقية الدولية لمعاقبة مرتكبي جريمة الابارثيد لعام 1973 ، ثم جاءت الاتفاقية الدولية بعدم تطبيق التقادم على جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية لعام 1968. هذه أمثلة فقط لم نتعمد فيها التقصي لما يدخل في هذا الباب، وهي وحدها تكفي للتدليل على ما ذهبنا اليه من أن حق العودة حق ثابت ومستقر ومعترف به ولا مجال لانكاره أو التهرب منه. وسنشير في هذا البحث الى بعض ما ورد في هذه في القرارات والمواثيق والاعلانات حسب الحاجة. ويهمنا في هذه المقدمة أن نؤكد على المادة الثانية من الاعلان العالمي لحقوق الانسان، وهي تنص على حكم عام ينسحب على جميع الحقوق التي أكد عليها ذلك الاعلان، ومن بينها حق الانسان في مغادرة بلده والعودة اليه. تنص تلك المادة على ما يلي:

“لكل انسان الحق في كافة الخقوق والحريات الواردة في هذا الاعلان دون تمييز من أي نوع كالعرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الديانة أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر أو القومية أو الاصل الاجتماعي أو الملكية أو الولادة أو أي وضع آخر.

وفضلا عن ذلك، لا يجوز التمييز على أساس الوضع السياسي أو الولائي أو الدولي للبلد أو الأرض التي ينتمي اليها الانسان، سواء كانت مستقلة أو تحت الوصاية أو لا تتمتع بالحكم الذاتي أو تخضع لأي انتقاص آخر لسيادتها”.

وبموجب هذه المادة فان حق العودة حق مطلق لا يجوز أن يعيقه أو يعطله أي اعتبار يقوم على التمييز، مهما كان سببه ونوعه، كما أنه لا يتأثر بالوضع القانوني لبلد العائد أو الأرض التي ينتمي اليها. هو يعود اليه سواء كان محتلا أو مستقلا أو ناقص السيادة. حقه في العودة الى بلده، لا لغيره من البلدان، خق ثابت، ولا علاقة بينه وبين الوضع القانوني أو الدولي لبلده أو أرض انتمائه . العنصر الثابت الذي لا يتغير هو الانتماء للارض، للوطن، أما العناصر الاخرى التي قد تطرأ على هذه الارض فهي متغيرة ومتقلبة. ولأن هذه هي طبيعة حق العودة فقد اتصف بأنه من الحقوق غير القابلة للتصرف.

5 – ويترتب على هذه العلاقة بين الانسان وبلده أنه لا يجوز أن يطرد منه، لا في ظروف الحرب ولا ظروف الاحتلال، وهذا ما حظرته المادة 49(1) من اتفاقية جنيف الرابعة التي نصت على ما يلي:

” يحظر نقل الافراد أو الجماعات بالقوة وكذلك ابعاد الاشخاص المشمولين بالحماية (وفقا لهذه الاتفاقية) من الارض المحتلة الى أرض دولة الاحتلال أو الى أية أرض أخرى، محتلة أو غير محتلة، مهما كان الدافع وراء ذلك. “

ففي هذه الاحوال فان حق العودة يعتبر نصحيحا للوضع غير القانوني، الذي هو الطرد، بحيث لا تستمر المخالفة وما يرافقها من ضرر. هذا فضلا عن أن عملية النقل أو الابعاد تعتبر في خد ذاتها جريمة ضد الانسانية يعاقب عليها القانون الدولي الانساني.

وقد ذهبت اتفاقيات جنيف الاربعة الى أبعد من ذلك. ففي الوقت الذي أجازت فيه للدول الاطراف الانسحاب من الاتفاقية الا انها اعتبرت أن هذا الانسحاب لا يحدث أثره الا بعد أن يبرم السلام و”الا الى أن تنتهي العمليات المتعلقة بالافراج عن الاشخاص المحميين بالاتفاقية وعودتهم (الى بلدهم)”. (المادة 63(3) من الاتفاقية الاولى، والمادة 62(3) الاتفاقية الثانية، والمادة 142(3) من الاتفاقية الثالثة والمادة 158(3) من الاتفاقية الرابعة).

6 – نخلص من هذا العرض السريع الى أن جميع المواثيق الدولية والقرارات ذات العلاقة تؤكد على حق العودة ، عودة الانسان الى بلده. وهذا البلد قد يكون بلد جنسيته أيضا، ولكن لا يشترط أن يكون كذلك. وهذا التكرار المتعمد في جميع الاعلانات والمواثيق لعبارة “بلده” الذي يكون فيه مقر اقامته العادية قبل الخروج منه يؤكد الرابطة العضوية التلقائية بين الانسان ووطنه التي سبق أن أشرنا اليها. كما يؤكد أن هذا الحق لا يتأثر بالتغيرات التي قد تكون قد طرأت في الفترة التي يكون فيها المرء خارج وطنه. فقد يقع احتلال، وقد يقع تغير في النظام، وقد ينشأ كيان قانوني جديد، ولكن الحق في العودة يبقى ثابتا لأنه عودة الى البلد، الى الوطن، وهذا كيان يظل قائما. ومن باب أولى، فان هذا الحق لا يتأثر بأي تغير قد يطرأ على بيته أو قريته. هو يعود ليسترد ما يستطيع استرداده من حياته في وطنه، أو ليبدأ فيه من جديد، مع جبر الضرر الذي يكون قد أصابه.

النظام القانوني للاجئين الفلسطينيين

7 – وفي موضوع اللاجئين الفلسطينيين، فقد نشأت القضية مباشرة بعيد صدور قرار التقسيم، وهذا ما كشفت عنه دراسات حديثة لباحثين اسرائيليين أمثال (ايلان باب) في كتابه “التطهير العرقي لفلسطين”. هذه الدراسات التي جاءت مؤكدة لشهادات اللاجئين من أن الغالبية العظمى منهم لم يغادروا بيوتهم أو قراهم أو مدنهم مختارين، وانما طردوا بالقوة وفق خطط موضوعة نفذتها عصابات الارهاب الصهيونية بتوجيه مباشر من دافيد بن غوريون وزمرة من أعوانه. وكانت التعليمات صريحة في هذا الأمر: دمروا القرى وأماكن السكن، اقتلوا من هم في السن العسكرية وهي ما بين العاشرة والخمسين وفق التعليمات، واطردوا الباقين. هذه الحقائق التي كشفت عنها دراسة الوثائق الاسرائيلية تنفي عن الفلسطينيين تهمة ظالمة وجهت اليهم، وهي أنهم غادروا وطنهم مختارين في انتظار أن تعيدهم الجيوش العربية الى مدنهم وقراهم. لقد ارتكبت اسرائيل جريمة التطهير العرقي والقتل المتعمد وتدمير القرى والبيوت لهدف أساسي من أهداف الحركة الصهيونية وهو افراغ فلسطين من أبنائها ومحو كل أثر لوجودهم فيها بحيث يبدو وكأن فلسطين لم يقم فيها طوال تاريخها الطويل الا اسرائيليون.

8 – وقد اهتمت الجمعية العامة للامم المتحدة بقضية اللاجئين كموضوع مستقل منذ بداية بروز هذه الظاهرة. وانصب اهتمامها بادئ ذي بدء على محاولة الوساطة لمعالجة القضية الفلسطينية من أساسها بعد الاضطرابات التي تلت اقرار مشروع التقسيم، ولما يكن قد حان موعد تنفيذه بعد، وكان الانتداب البريطاني ما زال ساريا. فعقدت الجمعية العامة دورة خاصة، بناء على طلبمن مجلس الأمن، في الفترة ما بين 16 ابريل و14 مايو 1948، للنظر في الأمر، وقررت في 14 مايو انشاء منصب وسيط لها واختارت له في العشرين من مايو 1948 الكاونت برنادوت الذي كان رئيسا للصليب الأحمر السويدي. واهتم الوسيط الدولي بشكل خاص بموضوع اللاجئين فأنشأ مشروع الامم المتحدة للاغاثة من الكارثة UN Disaster Relief Project في يوليو 1948 للتنسيق بين الحكومات والمنظمات غير الحكومية التي كانت تقدم المساعدات الانسانية للاجئين. وهو المشروع الذي تولته فيما بعد لجنة التوفيق الخاصة بفلسطين، ثم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين. وانه لمن المهم أن نتذكر هذه التواريخ التي يتضح منها أن مشكلة اللاجئين قد نشأت قبل قيام اسرائيل، وقبل دخول الجيوش العربية لفلسطين، وأن الامم المتحدة اهتمت بالموضوع وسعت لمعالجته منذ البداية. وأهمية هذه التواريخ تظهر عند معالجة تعريف من هو اللاجئ.

9 – ولحل مشكلة اللاجئين حلا جذريا يتفق مع مبادئ القانون، فقد سعى الوسيط الدولي لدى النظام الاسرائيلي لاعادتهم الى بيوتهم التي أخرجوا منها. ورفضت السلطات الاسرائيلية طلبه. فقدم في أغسطس 1948 تقريره الاول عن مساعيه، ثم قدم تقريره الثاني في 16 سبتمبر 1948 . وفي هذا التقرير الثاني تعرض لمحاولاته الفاشلة لاقناع السلطات الاسرائيلية بالسماح للاجئين الفلسطينيين بالعودة الى ديارهم، وازاء هذا الفشل، حدد الوسيط ما يتوجب على الامم المتحدة من التأكيد عليه. فكانت التوصية التالية:

” إن حق اللاجئين العرب في العودة الى بيوتهم في الاراضي الخاضعة للسيطرة اليهودية في أقرب وقت ممكن، يجب التأكيد عليه من قبل الامم المتحدة، كما أن عودتهم واعادة توطينهم وتأهيلهم اقتصاديا واجتماعيا، ودفع التعويض الملائم عن أموال أولئك الذين لا يرغبون في العودة، يجب أن الاشراف عليه والمساعدة فيه من قبل لجنة التوفيق التابعة للامم المتحدة ” .

في اليوم التالي لتقديم هذا التقرير وفيه هذه التوصية، أي في 17 سبتمبر 1948، قامت عصابة شتيرن الصهيونية باغتيال الوسيط الدولي ، الكاونت برنادوت، هذا الرجل ألذي انقذ حياة عشرات الالوف من اليهود من المحرقة النازية اثناء الحرب العالمية الثانية عندما كان رئيسا للصليب الاحمر الدولي.

10 – من المهم أن نلاحظ في هذه التوصية أن الوسيط الدولي قد طلب من الامم المتحدة أن تؤكد حق العودة، باعتبار أن هذا الحق حق ثابت ومستقر، لا يحتاج الى انشاء. ونلاحظ أن هذه التوصية جاءت سابقة للاعلان العالمي لحقوق الانسان الذي صدر في 10 ديسمبر 1948 والذي أكد على حق الانسان قي العودة الى بلده. ونلاحظ ثانية أن الوسيط الدولي يرى أن عودة اللاجئ هذه تكون الى بيته في الاراضي الخاضعة للسيطرة اليهودية، وليس الى غيرها. وهذا تأكيد منه بأن اللاجئين ينتمون الى هذه المناطق التي أصبحت تحت السيطرة اليهودية، وأن هذه السيطرة لا تمس بهذا الحق وهذا ينسجم تماما مع ما سبق أن اشرنا اليه من أن حق العودة لا يتأثر بالوضع السياسي أو القانوني الذي يطرأ على البلد الذي يتعلق به هذا الحق.

القرار رقم 194 (3)

11 – وانسجاما مع هذه التوصية واستجابة لها اتخذت الجمعية العامة للامم المتحدة قرارها رقم 194 (3) بتاريخ 11 ديسمبر 1948. وجاء فيه فيما يتعلق باللاجئين :

“اللاجئون الذين يرغبون في العودة الى بيوتهم والعيش قي سلام مع جيرانهم يجب أن يسمح لهم بذلك في أقرب وقت عملي ، كما يجب أن يدفع تعويض عن أموال أولئك الذين لا يرغبون في العودة وعن الخسارة أو الضرر للاموال التي يجب اجراؤها وفقا للقانون الدولي والعدالة من قبل الحكومات أو السلطات المسئولة. ”

12 – ويلاحظ بالنسبة لهذا القرار:

(أولا) أنه لم ينشئ حق العودة، وانما اعتبره حقا قائما وثابتا ولا يحتاج الا الى التنفيذ. ولذا قال “يجب أن يسمح لهم بالعودة في أقرب وقت عملي”. فالمسألة مسألة توقيت التنفيذ فقط، بدون أية مفاوضات بشأن أصل الحق.

(ثانيا) لم يُعَرِّفْ القرار من هو اللاجئ بشكل مباشر، ولكن النص على أن عودة اللاجئ تكون الى بيته، فان اللاجئ يكون من هو خارج بيته، قيكون له الحق في العودة اليه. وعلى هذا فقد يكون الفلسطيني خارج فلسطين أو داخلها، ويعتبر لاجئا، ما دام ليس في بيته.

(ثالثا) ميز القرار بين فئتين من اللاجئين : فئة “نرغب في العودة” وفئة “تختار الا تعود”. وممارسة حق العودة من عدمها خيار فردي.

(رابعا) تكون عودة اللاجئين الذين يرغبون في العودة “الى بيوتهم”، وهذه البيوت لها مواقعها الجغرافية المحددة في مدن أو قرى أو بوادٍ. وهذه المواقع قد تكون خاضعة للاحتلال أو لا تكون، في المناطق التي تخضع للسيطرة اليهودية، كما قال برنادوت في توصيته، وقد لا تكون، من الناحية النظرية. المهم هو العودة الى المكان نفسه.

(خامسا) اللاجئ العائد يجب أن يكون على استعداد لأن “يعيش في سلام مع جيرانه”. ويستشم من هذا النص أن العودة المقصودة بالقرار هي عودة الى الاراضي التي تخضع للسيطرة اليهودية، حسب توصية بيرنادوت. اذ لا معنى لهذا الشرط لوكانت العودة من لاجئ فلسطيني الى محيطه الفلسطيني. ولم يتعرض القرار بطبيعة الحال الى كيفية التأكد من تحقق هذا الشرط، اذ أن حقيقته لا تتضح الا بعد التنفيذ. ولهذا يكفي في بداية الأمر تعهد بذلك من فبل العائد. واذا أخل بذلك التعهد فيما بعد بأن أخل بالنظام العام فانه يكون من حق السلطات ذات العلاقة التعامل معه على هذا الاساس، فتحاسبه على اخلاله. انما لا يجوز طرده، لأن هذا الشرط ليس من شروط اقامة أي انسان في وطنه. هو يعاقب اذا أخل بالنظام العام، ولكنه لا يطرد ليصبح لاجئا من جديد.

(سادسا) إن القرار لم يحدد مدة زمنية لممارسة هذا الحق، واكتفى بالقول بأن يكون ذلك في أقرب وقت من الناحية العملية. وهذا ينسجم مع طبيعة هذا الحق، اذ لا يجوز تحديد مدة يجبر المرء على الالتزام بها والا فقد حقه الطبيعي والتلقائي في العودة الى دياره. ولهذا فانه لا يسقط بمضي المدة، وللاجئ ممارسته في أي وقت تسنح فيه فرصة العودة .

الحق في التعويض

13 – نص القرار على التعويض، وقامت لجنة التوفيق التي شكلتها الجمعية العمومية للامم المتحدة من كل من الولايات المتحدة وفرنسا وتركيا، باعطاء التفسير التالي للحق في التعويض. قالت اللجنة:

” وضعت الجمعية العامة مبدا حق اللاجئين في ممارسة خيارهم بجرية بين العودة الى بيوتهم والتعويض عن الخسارة أو الضرر الذي لحق بممتلكاتهم من جهة وبين عدم العودة الى بيوتهم مع تعيضهم تعويضا ملائما عن قيمة الممتلكات التي تركوها”.

هذا هو تفسير اللجنة، وهو تفسير سليم من ناحية استحقاق اللاجئين للتعويض، سواء منهم من اختار العودة أو لم يخترها. كل منهم له الحق في التعويض. أما عناصر هذا التعويض فيقررها القانون، لا لجنة التوفيق هذه. والتعويض في القانون لا يقتصر على خسارة أو ضرر مادي فقط، وانما هناك اضرر الذي ترتب على حالة اللجوء في حد ذاتها والحرمان الطويل من ممارسة حق العودة والمعاناة التي ترتبت على ذلك. وهذه مسألة لم يحن الوقت بعد لعرضها بالتفصيل، ونكتفي بالاشارة اليها فقط هذه الاشارة المقتضبة.

خصائص حق العودة

14 – سبق أن ذكرنا أن حق العودة حق طبيعي تلقائي يتمتع به الانسان بحكم انتمائه لوطن معين. والحقوق الطبيعية التلقائية من هذا النوع هي ما أصبخ يعرف بالحقوق غير القابلة للتصرف. وقد اهتمت الجمعية العامة للامم المتحدة بتحديد هذه الحقوق بالنسبة للشعب الفلسطيني وذلك في القرار الصادر منها في 22 نوفمبر 1974 برقم 3236. والحقوق التي أشار اليها ذلك القرار هي “حق تقرير المصير وحق الاستقلال والسيادة وحق الفلسطينيين في العودة الى بيوتهم التي أخرجوا واقتلعوا منها” . فحق العودة اذن من بين الحقوق غير القابلة للتصرف ويقف على نفس مستوى حق تقرير المصير. ويحاول البعض دمج حق العودة في حق تقرير المصير، غير أن الجمعية العامة تعاملت معهما كحقين، الواحد منهما مستقل عن الآخر. وهذا موقف سليم حيث أن حق العودة يدخل فيه عنصر شخصي مباشر يقرره الفرد، ولكنه في تصرفه هذا لا يمس الارض والوطن، ولذا جاء حقه في التعويض عن الضرر الشخصي الذي لحق به. غير أنه بقراره في العودة من عدمها لا يقرر التخلي عن سيادة الشعب على الجزء من الوطن الذي هو محل اقامته المعتادة، اذ لا يملك أي فرد حق التخلي عن أي جزء من أرض الوطن. ولهذا فان حق العودة هو من بين الحقوق التي يتلازم فيها الحق الشخصي مع الحق العام دون أن يلغي أحدهما الآخر أو يندمج فيه بالضرورة. ثم إن الرابطة القائمة بين الانسان ووطنه هي علاقة متوارثة بين الاجيال ولا يملك جيل أن يفصم هذه العلاقة ويحرم الاجيال القادمة منها بتصرفه الشخصي. ولهذا فان التصرف الشخصي ينصرف الى شخصه فقط، فيعود أو لا يعود، ويتقاضى التعويض في الحالتين. واذا انقضى جيل دون ممارسة هذا الحق فان الحق يبقى قائما للاجيال التالية، حتى ولو مارس جيل حقه في تقرير المصير إن حق العودة يبقى قائما الى أن يتحقق بشقيه الشخصي والعام.

15 – والحقوق غير القابلة للتصرف لا تخضع بطبيعتها للاستفتاء. فهذه الحقوق لا يفصل فيها جيل بالاضرار بحق الاجيال القادمة. وقد عالجنا موضوع الاستفتاء، خاصة ما يستفتى عليه، في مقالين نشرناهما في القدس العربي .

من هو اللاجئ

16 – لممارسة حق العودة لا بد من تعريف من هو صاحب هذا الحق. وقد أصبح هذا التعريف مهما بشكل خاص نظرا لتطوره على مدى السنوات الماضية من وجود وكالة غوث اللاجئين وتشغيلهم، ونظرا كذلك لأن حالات اللجوء لم تتوقف. فهناك أولا حالتان من اللجوء الجماعي ، الاولى عاما 1947-1948، والثانية عام 1967. ثم هناك ظاهرة ابعاد الفلسطينيين من القدس بهدم بيوتهم أو بطردهم لسبب أو لآخر. ثم هنالك من يتلقى العون من وكالة الغوث ومن لا يتلقاها، وهناك من هم في سجلاتها ومن هم غير ذلك أصلا أو شطبوا من السجلات. وهناك من كانوا خارج فلسطين في الاعوام المذكورة وبالتالي فانهم لم يطردوا ولكنهم لا يستطيعون العودة. ثم لقد ظهرت أجيال خارج فلسطين في أماكن اللجوء ولم تطأ أقدامهم أرض فلسطين، ناهيك أن تكون لهم بيوت فيها باسمائهم يعودون اليها. وفضلا عن هذا فقد حرصت اسرائيل منذ البداية على تدمير القرى والبيوت الفلسطينية، وغيرت الاسماء، وأقامت المستوطنات والمنتزهات والحدائق العامة فيها، أي أن اسرائيل تعمدت محو التاريخ الفلسطيني كله والوجود الفلسطيني كله في المواقع التي استولت عليها.

17 – يضاف الى هذا كله أن القرار رقم 242 الصادر من مجلس الأمن لم يتبن الصيغة التي اعتمدتها الجمعية العامة للامم المتحدة عندما أشار الى موضوع اللاجئين، حيث تحدث القرار المذكور عن “ضرورة ايجاد تسوية عادلة لمشكلة اللاجئين”. وجاء اتفاق اعلان المبادئ بين منظمة التحرير واسرائيل ليشير فقط الى القرارين رقم 242 و 338 كأساس للحل، ولم يشر الى قرار الجمعية العامة رقم 194 ، يضاف الى ذلك الشعار الذي تبنته الدول العربية للحل العادل والدائم وهو “الأرض مقابل السلام”. والارض تتمثل في العودة الى حدود عام 1967. وبان التآكل الذي بدأ يشق طريقه في تفسيرات لحق العودة ومن يملكونه تتعارض تماما مع هذا الحق. فهناك اتفاقيات أبرمها مسئولون فلسطينيون مع غير مسئولين اسرائيليين جرى فيها التنازل الكامل عن هذا الحق، وهناك اتفاقيات أخرى حصرت هذا الحق في العودة الى الضفة والقطاع، واستبعدت بالتالي حق العودة الى الى ما وراء الخط الأخضر. ثم جاءت تصريحات بأن تنفيذ هذا الحق يتم بالاتفاق ، بمعنى أن يكون لاشرائيل حق الفيتو على من يعود ومن لا يعود. وجاءت مبادرة الدول العربية فكانت في صيغتها الاولى خالية من الاشارة الى حق العودة، ثم عدلت في قمة بيروت باضافة هذا الحق. ومؤدى هذا كله أن المحاولات لم تتوقف للانتقاص من هذا الحق أو للتخلي عنه كلية. وهذا كله تستنتج منه اسرائيل ما تستنتجه.

18 – لم يعرف القرار رقم 194 من هو اللاجئ، ولكن نص القرار ينبئ عن هذا التعريف ومن هم المقصودون بالقرار حينما طالب بالسماح لهم بالعودة الى بيوتهم وأشار الى أن يكون العائدون على استعداد للعيش بسلام مع جيرانهم. وبالتالي فان هذا الحق يشمل كل من ليس في بيته ويرغب في العودة اليه، أينما كان. وعندما قررت الجمعية العامة للامم المتحدة انشاء وكالة الغوث في 8 ديسمبر 1949 بالقرار رقم 302 (4)، حصرت اختصاص هذه الوكالة اقليميا في منطقة “الشرق الادنى”. أما الاختصاص الميداني للوكالة فقد تحدد في أمرين اثنين: (الاول) القيام ببرامج اغاثة وتشغيل بشكل مباشر وفقا لما توصي به بعثة المسح الاقتصادي، وذلك بالتعاون مع الحكومات المحلية. و (الثاني) التشاور مع حكومات الشرق الادنى المعنية حول الاجراءات التي يجري اتخاذها من جانب هذه الحكومات استعادا للوقت الذي تصبح فيه المساعدة الدولية لمشروعات الاغاثة والتشغيل غير متوفرة. وبناء على هذا القرار فإنه يخرج عن اختصاص الوكالة اللاجئون الفلسطينيون الذين لجأوا الى اقطار خارج الشرق الادنى. وكذلك فان دور الوكالة انحصر في الاغاثة والتشغيل، وبالتالي فان أولئك الذين كانوا أو أصبحوا فيما بعد في غنى عن الاغاثة أو التشغيل لا يدرجون في سجلات الوكالة. واذن فانه لا يصح الاعتماد على سجلات الوكالة لتحديد من هم اللاجئون الذين يحق لهم ممارسة حق العودة، خاصة وأن الوكالة تراجع سجلاتها بشكل متواصل تحت ضغط الول المانحة لانقاص عدد المستحقين للاغاثة أو التشغيل. ولكن المدرجين في سجلاتها يعتبرون من أصحاب هذا الحق.

19 – في ضوء ما تقدم فان تعريف اللاجئ الفلسطيني الذي له حق العودة هو الذي تنطبق عليه المواصفات الواردة في القرار رقم 194 حيث أنه لا يقيد المكان الموجود فيه بعد خروجه من بيته، ولكنه يحدد المكان الذي له خق العودة اليه. الشرط الوحيد هو أن يكون خارج محل اقامته المعتاد وأن البلد الذي يرغب أو لا يرغب في العودة اليه هو البلد الذي كان فيه محل اقامته المعتاد.

20 – ومما يجب التذكير به خوفا من احتمال الخطأ في المرجعية القانونية لتعريف اللاجئ الفلسطيني أو لمن له حق العودة، أن اتفاقية اللاجئين لعام 1951، كما عدلت ببروتوكول 1967 الخاص بوضع اللاجئين، وهي اتفاقية عامة، وكذلك قرار الجمعية العامة الخاص بالمفوض العام للاجئين التابع للامم المتحدة لعام 1951.، وكذلك الاتفاقية الدولية الخاصة بالاشخاص عديمي الجنسية لعام 1954 – جميع هذه الاتفاقيات والقرارات لا تطبق بالنسبة لفئات معينة من اللاجئين الفلسطينيين، وهذه هي الفئات هي تلك الداخلة في النطاق الاقليمي لوكالة الغوث. فمثلا تنص المادة 7 من نظام مفوض الامم المتحدة العام للاجئين على ما يلي :

“لا يشمل اختصاص المفوض العام أي شخص …..(ج) يستمر في تلقي الحماية أو المساعدة من أجهزة أو وكالات أخرى تابعة للامم التحدة”

وتنص المادة 1 (د) من اتفاقية اللاجئين لعام 1951 على ما يلي:


” لا تطبق هذه الاتفاقية على من يتلقى في الوقت الحاضر حماية أو مساعدة من أجهزة أو وكالات الامم التمحدة، باستثناء المفوض العام للاجئين التابع للامم التحدة. واذا توقفت تلك الحماية أو المساعدة لأي سبب كان دون أن يكون وضع هؤلاء الاشخاص قد سوي تسوية نهائية وفقا لقرارات الجمعية العامة للامم المتحدة فان هؤلاء الاشخاص يستحقون حكما ما في هذه الاتفاقية من منافع”

لقد ورد الاستثناء في هذه الاتفاقيات والقرارات بشكل عام دون الاشارة للاجئين الفلسطينيين. غير أنهم هم المقصودون به، حيث أن الدول العربية هي التي طالبت به وتمسكت بالنص عليه. ولكن يجب أن نلاحظ أنه استثناء قاصر فقط على من يتلقون اغاثة من وكالة غوث وتشغيل اللاجئين. أما الذين لم يتلقوا أصلا اغاثة أو تشغيلا أو توفقوا عن تلقيهما فان الاستثناء قد لا يطبق عليهم.

حماية حق العودة

21 – سبق أن أشرنا الى مناورات أو محاولات للمساس بهذا الحق. وكذلك فان اسرائيل ترفض الاعتراف به، وفي أحسن مواقفها فانها ابدت استعدادا لقبول عدد بسيط بناء على الرغبة في لَمِّ الشمل، وليس تطبيقا لخق العودة. وتأكيدا لهذا الموقف الرافض فان اسرائيل لا تسمح حتى للاجئين داخل الخط الأخضر بالعودة الى بيوتهم وقراهم ، مع أن بعض هذه القرى والبيوت ما زالت قائمة. وسبب الرفض هو الخوف من أن يكون ذلك سابقة يحتج بها عليها.

22- وكذلك لا يمكن الاعتماد على وكالة الغوث لحماية هذا الحق أو لتنفيذه. فالوكالة هي وكالة غوث وتشغيل، أي المساعدة في تسيير أمور الحياة اليومية، ولا يدخل في اختصاصها حماية حقوق اللاجئين. هي وكالة مساعدة لا وكالة حماية. الحماية، ويدخل فيها حماية حق العودة وتنفيذه، يختص بها المفوض العام للاجئين التابع للامم المتحدة، والاتفاقية الخاصة باللاجئين. وقد سبق أن ذكرنا أن اللاجئين الفلسطينيين الذين يتلقون الاغاثة أو المساعدة من وكالة الغوث، وهم معظم اللاجئين الفلسطينيين، قد جرى اساثناؤهم من اختصاص هاتين الجهتين. أي أنه لا توجد جهة دولية مختصة أو اتفاقية دولية خاصة باللاجئين يدخل في ضمن اختصاصها حماية حقوق اللاجئين الفلسطينيين، وبالتالي حماية حق العودة.

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s