معايير الحل التفاوضي لانهاء الاحتلال الاسرائيلي
أولاً: تبادل الاسرى
1 – يصادف التاسع من هذا الشهر الذكرى السنوية الثانية لصدور فتوى محكمة العدل الدولية في قضية الجدار الذي أقامته وتقيمه اسرائيل في الاراضي الفلسطينية المحتلة، تلك الفتوى التي حددت المبادئ والقواعد التي تحكم النزاع الحالي وفقا للقانون الدولي والقانون الدولي الانساني. وقد قضت المحكمة بأن الحل التفاوضي يجب أن يلتزم بهذه القواعد والمبادئ التي أعلنتها. وسنحاول في هذه العجالة وما يليها من أبحاث أن نطبق المبادئ والقواعد التي حددتها المحكمة على عدد من جوانب النزاع مبتدئين بالنزاع الحالي حول مصير الجندي الاسرائيلي الأسير.
2 – بداية نترحم على أرواح الشهداء الذين يقعوا ضحية لعدوان غاشم متواصل، ونحيي صمود أهلنا الاسطوري في وجه الحصار الظالم الذي فُرِضَ عليه لا لشيئ الا لأنه طبق الديموقراطية التي تتبجح أمريكا بأنها تخوض الحروب لنشرها بين الشعوب، وتتباهى اسرائيل بأنها هي الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي تطبقها. والغريب في هذا الحصار هو أن سببه المعلن هو رفض حماس الاعتراف باسرائيل أو بحقها في الوجود في الوطن الفلسطيني، في حين أن دول العالم، بما فيها الدول العربية التي تعترف باسرائيل وتتعامل معها، ترضى بنتائج الانتخابات الاسرائيلية، ولا تشترط للاعتراف بالحكومة التي تشكل بعدها أن تعترف هذه الحكومة بحقوق الشعب الفلسطيني. وكل ما تشير اليه هذه الدول هو التفاوضن وكأن حقوق الشعب الفلسطيني الثابتة حقوق تخضع للتفاوض أو لارادة دولة الاحتلال. هذا وضع في غاية الغرابة تشارك فيه دول عربية وللاسف.
3 – الجندي الاسرائيلي الأسير هو أسير حرب، أُسِرَ في معركة، وليس مدنيا اختطف من منزله أو من الشارع، كما تختطف اسرائيل الفلسطينيين من نساء وأطفال وشباب. ومع ذلك فأن الدنيا قامت ولم تقعد من أجل اطلاق سراح هذا الأسير، الذي من حق المقاومة، وفقا للقانون الدولي، الاحتفاظ به في الأسر الى أن يقع تبادل للأسرى. لم تدع اسرائيل أو غيرها أن أسره ينتهك القانون الدولي أو أي قانون آخر، في حين أن آلالاف العشرة الذين اعتقلتهم وتحتجزهم اسرائيل قد جرى اعتقالهم واحتجازهم بالمخالفة للقانون الدولي والقانون الدولي الانساني، فهم لم يعتقلوا في ميدان المعركة، ويجري احتجازهم بالمخالفة لهذين النظامين القانونيين، ويجب الافراج عنهم دون شروط. إن الاعتداء على حريتهم الشخصية وانتهاك بقية حقوقهم هو اعتداء على هذين النظامين اللذين أعلنت محكمة العدل الدولية بصراحة ووضوح أن اسرائيل ملزمة باحترامهما. إن الالتزام الواجب على المقاومة الفلسطينية هو الحفاظ على حياته وتقديم الخدمات الطبية له اذا كان في حاجة اليها، ومعاملته معاملة انسانية، بغض النظر عن معاملة اسرائيل للمعتقلين الفلسطينيين والعرب. هذا هو الموقف القانوني السليم الذي يتمشى مع التزامات الجانبين وفقا للقانون الدولي والقانون الدولي الانساني. المعتقلون الفلسطينيون والعرب يجب اطلاق سراحهم دون قيد أو شرط، في حين أن الأسير الاسرائيلي يجري اطلاق سراحه عند انتهاء النزاع المسلح أو وفقا لمفاوضات تجري قبل ذلك وبمراعاة الشروط التي يشترطها الجانب الفلسطيني.
4 – نقلت وكالات الأنباء أن الوساطة المصرية ربما تكون قد توصلت الى اتفاق يقضي بأن تقوم المقاومة أولا باطلاق سراح الجندي الاسير، ثم تقرر اسرائيل من ترى الإفراج عنه من المعتقلين الفلسطينيين فضلا عن اطلاق سراح النساء والأطفال. ويبدو أن الرئيس الفلسطيني راض عن هذه “الصفقة”. فاذا صحت الانباء هذه، فان هذه الصفقة هي في غاية الغرابة. فمن العجيب أن يتم الافراج عن الأسير أولا، مع أن اسره لا يخالف القانون في شيئ، في حين يَُترَكُ اطلاق سراح المعتقلين الفلسطينيين خاضعا لارادة دولة الاحتلال، مع أن اعتقالهم واحتجازهم هو أصلا مخالف للقانون . فاذا كان هناك من أولويات، فالأولوية هي انهاء الوضع غير الشرعي لا تأخيره وتركه معلقا، وذلك بالافراج عن المعتقلين الفلسطينيين أولا، هذا فضلا عن أن التجربة مع اسرائيل هي أنها لا تلتزم بما توافق أو توقع عليه، وانما تتصرف حسب رأيها بغض النظر عن أي اتفاق سابق، ولو كان مضمونا من وسيط.
5 – وفتوى محكمة العدل الدولية التي قررت مبادئ وقواعد القانون الدولي والقانون الدولي الانساني وأعلنت أنها ملزمة للفلسطينيين والاسرائيليين على حد سواء، أعلنت أيضا أنها ملزمة للدول الأخرى. وحذرت هذه الدول من تقديم العون أو المساعدة لاسرائيل لمواصلة انتهاكاتها لتلك المبادئ والقواعد. هذا الالتزام الذي قررته المحكمة.
6 – وتناقلت وكالات الأنباء أن هناك شرطا آخر تشترطه اسرائيل، وهو أن تتوقف المقاومة الفلسطينية عن اطلاق صواريخ القسام على أهداف اسرائيلية. إن هذا الشرط أحادي الجانب، واذا أصرت عليه اسرائيل، ويبدو أنها ستصر عليه لأن الصواريخ هذه، على بدائيتها، يبدو أنها مقلقة لدرجة أنها بدأت ابحاثها العلمية للوصول الى صواريخ تعترضها قبل أن تتفجر، نقول اذا أصرت اسرائيل على هذا الشرط فيجب أن يكون له مقابل من نوعه، ويجب ألا يقدم مجانا. فاذا أصرت اسرائيل على حماية نفسها ومواطنيها ومنشآتها من هذه الصواريخ، فإن من حق الفلسطينيين أن يصروا على حماية أرضهم وحقوقهم ومواطنيهم من الانتهاكات الاسرائيلية، وعلى اسرائيل في المقابل أن تتوقف عن هذه الانتهاكات. فانتهاك هذه الحقوق هو السبب الذي يؤدي الى اطلاق الصواريخ. ومعنى هذا أن على اسرائيل أن تلتزم باحترام هذه الحقوق، وهذا الالتزام يتحقق بتنفيذ الالتزامات التي حددتها المحكمة. فلا يجوز لاسرائيل أن تواصل بناء الجدار مثلا في حين أن المحكمة قضت بوجوب ازالته وتعويض من تضرروا بسببه، ويجب عليها اعادة الأوضاع الى ما كانت عليه في القدس حيث أن المحكمة قضت بأن هذه الاوضاع غير شرعية. وهكذا، أي أنه لا يجوز فرض قيود على المقاومة في حين يستمر الاحتلال في ممارسة مخالفاته للقانون الدولي والقانون الدولي الانساني وتستمر الآثار غير الشرعية المترتبة على هذه المخالفات قائمة، ولا يصح اطلاقاً تجريد شعب محتل حتى من وسائله البدائية للدفاع عن نفسه، في حين تبقى دولة الاحتلال مدججة بأسلحة دمار شامل لا تتردد في استخدامها بكثافة حتى ضد أهداف مدنية حيوية كمحطات توليد الكهرباء ولقطع مياه الشرب، ولا يردعها عن ذلك أنظمة عربية أو مجتمع دولي أو مجلس الأمن ولا النداءات الخجولة لضبط النفس.
7 – وغني عن القول، وهذا ما تخشاه اسرائيل، أنه من حق المقاومة الفلسطينية أن تأسر الجنود الاسرائيليين اذا واصلت اسرائيل انتهاكاتها. هذا حق معترف به دوليا، في حالات النزاع المسلح، وبالتالي فإن من حقها أن تأسر جنودا آخرين، وأن تستعملهم أداة ضغط على اسرائيل للافراج عن من لا يفرج عنهم، ولحمل اسرائيل على التوقف عن الاعتقالات والانتهاكات التي ترتكبها يوميا، اذ أن هذا قد يكون رادعا لها عن ارتكاب هذه الانتهاكات للقانون الدولي والقانون الدولي الانساني في حالة العجز أو التعاجز التي نشهدها ممن بيدهم التاثير. المعلقون الاسرائيليون بدأوا يتحدثون في هذا الشأن ويحسبون له حسابا، بعد أن أثبتت المقاومة الفلسطينية قدرتها على اقتحام المواقع العسكرية الاسرائيلية وأسر الجنود من هذه المواقع.
8 – قد يستغرب البعض، وخاصة دعاة الواقعية، هذا التمسك من جانبنا بالشرعية الدولية كما حددتها أعلى جهة قضائية دولية وباجماع لم تعهده في تاريخها. وردنا على هذا هو أن المحكمة نفسها رفضت الاعتراف بالامر الواقع مُبَرِّرًا للإبقاء على المخالفة. لقد ادعت اسرائيل أن الجدار إجراء مؤقت فرضته مقتضيات الأمن، ورفضت المحكمة هذا الادعاء كله، واعتبرت أن الواقع المادي على الأرض يدل على أن الجدار ليس اجراء وقتيا، حتى لو صح أنه ضروري لمقتضيات الأمن، وهو ما قضت المحكمة بخلافه، ولهذا قضت المحكمة بوجوب ازالته. فلا يجوز اعطاء الشرعية لما هو غير شرعي بحجة الواقعية. وهذه الواقعية التي يدعيها البعض كانت من بين الاسباب التي أدت الى التفريط ببعض الحقوق الاساسية، والتهاون في البعض الآخر، والهرولة العربية الرسمية للتطبيع والتخلي الفعلي عن دعم الشعب الفلسطيني في مقاومته للاحتلال، ناهيك عن الحصار العربي الرسمي المفروض عليه، خاصة من دول الطوق. والغريب في الأمر أن هؤلاء لا يتمسكون بالأمر الواقع بالنسبة للوجود الفلسطيني والحقوق الفلسطينية، في حين يبادرون لقبول أمر واقع مستحدث لا سند له سوى الرغبة في اختلاس المزيد من الحقوق الفلسطينية وتغيير الواقع الفلسطيني ومحاولة احلال واقع اسرائيلي محله.
9 – إن فتوى محكمة العدل الدولية من أقوى الأسلحة في يد القضية الفلسطينية. ومع الأسف فإن السلطة الوطنية الفلسطينية، سواء كانت الرئاسة، أو الحكومة لم تعرها ما تستحقه من اهتمام، كما أن الدول العربية تجاهلتها تماما واستمرت في علاقاتها مع اسرائيل وكأن هذه الفتوى لم تصدر. ولعل السبب في ذلك هو الاستخفاف بالقانون من جانب الأنظمة العربية بوجه عام، أو التخوف من الغضب الامريكي والاسرائيلي من تفعيل هذه الفتوى وما تضمنته من مبادئ وقواعد. ولكننا نأمل في أن توجد حكومة فلسطينية تكون لديها الشجاعة لمواجهة الدول العربية والاسلامية أولا والمجتمع الدولي ثانيا والامم المتحدة ثالثا بمسئولياتها وفقا لما قررته المحكمة، وهي مسئوليات تجعلها شريكة فيما ترتكبه اسرائيل من جرائم اذا هي لم تَفِ بها..