معايير الحل التفاوضي لانهاء الاحتلال الاسرائيلي
ثالثا: التزامات الدول الاخرى والامم المتحدة
1 – بعد أن نظرت محكمة العدل الدولية في مشروعية الجدار الذي أقامته وتقيمه اسرائيل في الاراضي الفلسطينية المحتلة وقررت أنه غير شرعي ويجب ازالته والتعويض عن الاضرار التي تسبب فيها، انتقلت المحكمة لبحث التزامات الدول الاخرى والتزامات الامم المتحدة في هذا الخصوص ومسئوليتها عن حل القضية الفلسطينية. ووجهت المحكمة اللوم للامم المتحدة لفشلها بسبب ممارسة أحد الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن لحق النقض. وفي هذا البحث نتحدث بايجاز عن هذا الجانب من جوانب الفتوى، ونُذَكِّر بما قلناه سابقا من أن هذه الفتوى لها صفة الالزام نظرا لأن المبادئ التي قررتها هي مبادئ عامة من مبادئ القانون الدولي والقانون الدولي الانساني الملزمة للجميع وأن الجمعية العامة للامم المتحدة قد اعتبرتها كذلك.
التزامات الدول الأخرى
2 – نعني بالدول الأخرى باقي دول العالم، بما فيها بطبيعة الحال الدول العربية والولايات المتحدة الامريكية ودول الاتحاد الاوروبي. وقد خاطبتها المحكمة اولا بصفتها دولا،ثم خاطبتها بصفتها أعضاء في الامم المتحدة، ونتعرض لذلك في القسم الثاني من هذا المقال. أما التزاماتها بصفتها دولا فقد حددتها المحكمة فيما يلي:
أولا: التزامات يفرضها القانون الدولي والقانون الدولي الانساني على جميع الدول.
ثانيا: الالتزام بعدم الاعتراف بمشروعية الجدار.
ثالثا: الالتزام بعدم تقديم المساعدة أو العون للمحافظة عليه.
رابعا: الالتزام بضمان احترام اتفاقية جنيف الرابعة المتعلقة بمعاملة المدنيين اثناء النزاعات المسلحة.
أولا: الالتزامات التي يفرضها القانون الدولي والقانون الدولي الانساني
3 – حددت المحكمة الالتزامات التي يفرضها القانون الدولي والقانون الدولي الانساني بخصوص الاحتلال الاسرائيلي، وقررت أنها ملزمة لجميع الدول، وليس لاسرائيل فقط لما لها من العمومية. ومعنى هذا أن الدول ملزمة باحترامها في تعاملها مع النزاع الفلسطيني الاسرائيلي فيما يتعلق بالاحتلال وآثاره والحل الذي يجب التوصل اليه، بحيث لا تقع مخالفة لاحكام أي من القانونين. فموافقة دولة من الدول مثلا على بقاء المستوطنات أو على ضم أراض فلسطينية محتلة، كالقدس، يضعها في موقف المخالف. وكذلك بطبيعة الحال تقديم الدعم العسكري أو المالي أو السياسي للابقاء على الاحتلال أو لبناء المستوطنات أو لانتهاك حقوق الانسان الفلسطيني. ويترتب على اخلال اسرائيل بمبادئ القانون الدولي والقانون الدولي الانساني الملزمة للجمييع حقٌّ لكل دولة في اتخاذ اجراءات من جانبها لمحاولة انهاء هذه المخالفة. ومؤدى ذلك أن مقاطعة أية دولة لاسرائيل بهذا الهدف أو لحملها على احترام حقوق الانسان الفلسطيني هي مقاطعة مشروعة، وكذلك قطع العلاقات الدبلوماسية معها، لأن من واجب كل دولة حماية الشرعية الدولية. بل وربما يحق لها أن تقاضي اسرائيل أمام محمكة العدل الدولية أو أية جهة قضائية أخرى مناسبة لأن لها مصلحة في احترام القانون الدولي، وهذا ينطبق بشكل خاص على الدول العربية والاسلامية التي لها، فضلا عن المصلحة العامة في احترام القانون الدولي، مصلحةٌ خاصةٌ بحكم تأثرها المباشر نتيجة للانتهاكات الاسرائيلية.
ثانيا: الالتزام بعدم الاعتراف بالجدار
4– حيث أن المحكمة قد قررت أن الجدار غير شرعي، فقد كان من الطبيعي أن تقرر التزام الجميع بعدم الاعتراف به. وهذا الالتزام موجه للدول كافة، وتلتزم به الدول العربية والسلطة الفلسطينية بوجه خاص. فالدول العربية والسلطة الفلسطينية اعتادت على تقبل معظم ما تدعيه اسرائيل بأنه ضروري لأمنها. فمصرمثلا تقلصت سيادتها على سيناء لهذا السبب. والسلطة الفلسطينية طاردت وسجنت النشطاء الفلسطينيين لهذا السبب أيضا. وفي أية مفاوضات قد تجري، فإن اسرائيل ستتمسك حتما بأن الجدار ضروري لأمنها، ونخشى أن تتكرر المواقف، فتوافق الانظمة العربية على ذلك وتبدأ الضغوط على الفلسطينيين للموافقة على بقاء الجدار، خاصة وأن اسرائيل ماهرة في تقديم المُسَكِّنات، مثل ايجاد معابر تتعهد بإبقائها مفتوحة، أو أنها ستصدر التصاريح لأصحاب الاراضي الواقعة خلف الجدار للوصول اليها. ووجه الخطورة هو قبول هذه المسكنات. الجدار غير شرعي ويجب التمسك بازالته كما قررت المحكمة، مهما كلف الأمر، لأنه سيكون هو الحل النهائي للقضية الفلسطينية الذي يحقق لاسرائيل هدفها بأن تمتد حدودها هي من النهر الى البحر.
ثالثا: الالتزام بعدم تقديم عون أومساعدة للحفاظ على الجدار
5– وهذا التزام طبيعي ينتج عن القرار بأن الجدار غير شرعي ويجب ازالته. وفي رأينا أن هذا الالتزام لا يقف عند حدود الدعم المادي وانما يتعداه الى الدعم السياسي أو الدبلوماسي. فهو لا يشمل فقط ما تقدمه أمريكا من مساعدات عسكرية لاسرائيل أو من قروض أو تسهيلات قروض، وإنما يشمل أيضا دعمها لها في مجلس الأمن، باستعمال حق النقض مثلا للحيلولة دون اتخاذ اجراءات جماعية من المجتمع الدولي لارغام اسرائيل على ازالة المخالفة، وهي بناء الجدار. ومن رأينا أنه يجوز مقاضاة أمريكا ليس فقط بسبب دعمها للاحتلال ولكن بسبب ممارستها غير المشروعة لحق النقض للابقاء على أوضاع غير شرعية.ويفرض هذا الالتزام على الدول منع شركاتها من المساهمة في بناء الجدار، ومن هنا تأتي سلامة القرارات التي اتختها كنائس امريكية وبريطانية بانهاء مساهمتها في شركة كاتربلر الامريكية التي تستعمل معداتها في بناء الجدار وتجريف الاراضي الفلسطينية.
رابعا: الالتزام بما تفرضه اتفاقية جنيف الرابعة
6- خلافا لما ادعته اسرائيل، فقد قررت محكمة العدل الدولية أن اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين مُلزِمةٌ لها. وبالتالي فقد رتبت المحكمة التزاما على الدول الاخرى بالعمل على تأمين احترام اسرائيل لهذه الاتفاقية، وذلك وفاء بالالتزام بذلك وفقا للاتفاقية ذاتها. فاتفاقيات جنيف الاربعة نصت ليس فقط على احترام الاطراف لها وانما أيضا على التزامهم بتأمين احترام الاطراف الآخرين لها. هذا التزام على كل دولة طرف في الاتفاقية، وهو التزام تعاقدي فردي وجماعي، بمعنى أنه يحق لكل دولة أن تتخذ ما تراه من اجراءات ضد اسرائيل لحملها على احترام أحكام الاتفاقية، كما أنه من حق الدول الاطراف مجتمعة أن تقرر هذه الاجراءات. الدول العربية والاسلامية جميعا أطراف في هذه الاتفاقية، ومن حقها أن تتخذ قرارات واجراءات ضد اسرائيل لكي توقف انتهاكاتها لها، كوقف التطبيع والمقاطعة وتعليق العلاقات الدبلوماسية. واذا أقدمت هذه الدول على هذه الاجراءات فإنها تُذَكِّرُ الاطراف الأخرى بالتزامها وتتمكن من الدعوة من موقف فاعل لاتخاذ اجراءات. أما العمل الجماعي فيأتي عن طريق دعوة المؤتمر العام للدول الاطراف. وقد سبق لهذا المؤتمر أن عُقِد وطالب اسرائيل بالالتزام بالاتفاقية، الا أن الوقت قد حان لتحريك هذه الاداة الدولية التي ليس فيها لأحد حق النقض لتتخذ اجراءات ضد اسرائيل غير مناشدتها باحترام الاتفاقية. والظروف الحالية مواتية لذلك نظرا لتنوع الانتهاكات الاسرائيلية وتعددها، واستنادا الى فتوى محكمة العدل الدولية. غير أننا نعود ونكرر أن حقوقنا تضيع وتهدر لأن انظمتنا لا تتمسك بها أو تتهاون في ذلك.
التزامات الامم المتحدة
7- في نظر محكمة العدل الدولية أن الامم المتحدة، وخاصة مجلس الأمن والجمعية العامة، قد قصرت تقصيرا كبيرا في حلها للقضية الفلسطينية، وانحت باللوم في ذلك على استعمال حق النقض من دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن. وطلبت المحكمة من الامم المتحدة أن تنشط في الموضوع باتخاذ اجراءات لضمان احترام القانون الدولي والقانون الدولي الانساني كما حددتهما المحكمة. وقد بدأت الجمعية العامة في تنفيذ دلك بمطالبة اسرائيل الالتزام بفتوى المحكمة. غير أن الأمر توقف حتى الآن عند هذا الحد وذلك لأن الجمعية العامة لا تنعقد من تلقاء ذاتها، وانما تنعقد بناء على طلب الاعضاء. ولم تتقدم الدول العربية والاسلامية حتى الآن بطلب لعقد اجتماع للجمعية العامة لاتخاذ اجراءات محددة ضد اسرائيل لإرغامها على الامتثال لفتوى المحكمة. ولا نشك بأن ذلك راجع للضغوط الامريكية وللوعود بالبدئ في مفاوضات. وفي رأينا أن هذا موقف غير سليم من جانب الانظمة العربية والاسلامية لأنه علق الموضوع كله على أمل مشكوك جدا في تحققه، ومن المؤكد أنه لن يحقق ما يريده الفلسطينيون والعرب ولن يلتزم بالمبادئ والقواعد التي حددتها المحكمة. فاسرائيل استمرت في تنفيذ بناء الجدار ولم توقفه، حتى ولو لاظهار حسن النية. واذن المطلوب من الدول العربية والاسلامية أن تباشر لدعوة الجمعية العامة لاتخاذ اجراءات ضد اسرائيل.
8 – ونظرا لأن الامم المتحدة مشاركة في اللجنة الرباعية التي تعهد تنفيذ خارطة الطريق، فقد نبهت المحكمةُ الامم المتحدةَ بأن عضويتها في هذه اللجنة توجب عليها أن لا تسلم القياد للولايات المتحدة الامريكية، وانما عليها أن تتخذ مواقف تهدف الى تنفيذ مبادئ وقواعد القانون الدولي والقانون الدولي الانساني الملزمة للمجتمع الدولي كما قررتهما المحكمة.
9 – وخطت محكمة العدل الدولية خطوة في غاية الأهمية لتعزيز دور الجمعية العامة. فقد كان الاعتقاد السائد بأن مجلس الأمن وحده هو المختص ببحث النزاعات التي تهدد الأمن والسلام الدوليين، أو أنه لا يجوز للجمعية العامة أن تتعرض لنزاع من هذا النوع يكون على جدول أعمال مجلس الأمن. وجاءت فتوى المحكمة لتفسر أحكام ميثاق الامم المتحدة في هذا الشأن، فأفتت بأن هذا الحق ليس مقصورا على مجلس الأمن وانما للجمعية العامة أن تبحث وتقرر فيما يتعلق بهذا النوع من النزاعات الدولية حتى ولو كان الموضوع مطروحا على مجلس الأمن. وفيما يتعلق بالقضية الفلسطينية بالذات، لاحظت المحكمة أن الجمعية العامة للامم المتحدة هي الأكثر اختصاصا في النظر فيها.
10- وبناء على هذه الفتوى من محكمة العدل الدولية وتأنيبها لمجلس الأمن وخاصة الدولة التي مارست حق النقض لحماية الانتهاكات الاسرائيلية فقد أصبحت الأبواب مشرعة أمام الجمعية العامة للامم المتحدة لتجاوز مجلس الأمن فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية واتخاذ ما تراه من اجراءات، كما أصبحت الفرص كلها متاحة للدول العربية والاسلامية للعمل من خلال الجمعية العامة وتجنب الاصطدام بالفيتو الامريكي. والجمعية العامة تستطيع أن تفعل الكثير اذا تحركت الدول العربية والاسلامية بجدية، وما فعلته الجمعية العامة بخصوص جنوبي افريقيا العنصرية مؤشر على ذلك، حتى قبل هذه الفتوى من محكمة العدل الدولية التي عززت من مكانة الجمعية العامة في اتخاذ الاجراءات للمحافظة على الأمن والسلام الدوليين.
11– بعد صدور هذه الفتوى من محكمة العدل الدولية واعتماد الجمعية العامة لها بأغلبية ساحقة لم يعارض فيها دولة ذات شأن سوى أمريكا، لم يعد هناك أي مبرر للعرب للتخوف من الفيتو الامريكي في مجلس الأمن. فالدول التي وافقت على فتوى محكمة العدل الدولية، ومن بينها دول الاتحاد الاوروبي، يصعب عليها أن تقف أمام المطالبة بتنفيذ هذه الفتوى بالمبادئ والقواعد التي وردت فيها، وستقف امريكا عندئذ وحدها في مواجهة محكمة العدل الدولية والمجتمع الدولي في دعمها لانتهاك مبادئ وقواعد عامة وملزمة للمجتمع الدولي كله. إن مراعاة الدول العربية لامريكا في مواقف جادة بالنسبة لقضايانا تزيد من المصائب ولا تخففها ولا تساعد في حلها. والفرصة الآن متاحة، ونرجو أن تغتنمها دولنا بدلا من أن تظل أسيرة للخوف من أمريكا أو اسرائيل أو تمني نفسها بآمال لن تتحقق فتضيع حقوقنا.