مجلس الكنائس العالمي والمستوطنات الاسرائيلية
‘إن الاستيطان المتواصل في الاراضي خارج حدود اسرائيل المعترف بها دوليا (حدود الخط الأخضر لعام 1949) مرفوض من قبل جميع العالم تقريبا ويلاقي عدم تصديق واسع الانتشار لأنه غير شرعي وغير عادل ويتعارض مع السلام ويتنافى مع المصالح المشروعة لدولة اسرائيل’. ‘نطالب الحكومة الاسرائيلية بأن تجمد بحسن نية وعلى وجه الاستعجال كافة أعمال البناء الاستيطاني والتوسع فيه، كخطوة أولى في اتجاه ازالة جميع المستوطنات’.
الكلام هذا ليس لمسؤول عربي أو فلسطيني، وليس جزءا من بيان أو قرار رسمي عربي أو فلسطيني، وإن كنا نسمع قريبا منه أحيانا للاستهلاك المحلي. إنه جزء من بيان صدر عن اللجنة المركزية لمجلس الكنائس العالمي في دورتها المنعقدة في مقرالمجلس بجنيف في الفترة ما بين 26 آب (أغسطس) و2 ايلول (سبتمبر ) 2009، وأُعْلِنَ على الملأ يوم انتهاء الاجتماعات أي في الثاني من هذا الشهر. البيان يقع في ست صفحات باللغة الانكليزية كلها مكرسة لموضوع الاستيطان الاسرائيلي في الضفة الغربية، والغاءِ الاستثمارات الكنسية وفرض المقاطعة. ومن المتوقع بطبيعة الحال أن يكون للبيان نص رسمي باللغة العربية، ولكن يبدو أنه غير متوفر على الموقع يوم كتابة هذا المقال. ويستطيع القارئ الاطلاع على النص الانكليزي وطباعته بزيارة موقع المجلس وهو: http://www.oikoumene.org/’id=7156 .
يُعَرِفُ المجلس نفسه بأنه يدعو الى الوحدة المسيحية في العقيدة وفي الشهادة والخدمة لعالم عادل يعم فيه السلام . وقد تأسس عام 1948 ويضم في عضويته 349 طائفة بروتستانتية وأرثوذوكسية وانجليكانية وغيرها من الطوائف، مما يمثل في مجموعه 560 مليون مسيحي في أكثر من 110 بلدان. ويعمل المجلس بالتعاون مع الكنيسة الكاثوليكية. من المؤسف أن الاعلام العربي والعديد من الكتاب العرب قلما يتنبهون بجدية لموقف الكنائس المسيحية في الغرب، وخاصة مجلس الكنائس العالمي، من القضية الفلسطينية، وبالتالي فانهم قلما يتفاعلون بايجابية مع هذه المواقف. وتكون النتيجة أن المواطن العربي العادي وكذلك معظم الحركات الاسلامية تظل تجهل مدى التأييد الذي تحظى به القضايا العربية/الاسلامية، وفي مقدمتها العراق والقضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني، من الكنائس والمجلس الذي يمثلها. من واجب المسلمين، وخاصة الحركات الاسلامية المتنورة والهيئات العلمية الاسلامية، التي تتفهم روح الاسلام وما يتميز به من تسامح وعقلانية، متابعة هذه التطورات واقامة علاقات حضارية متواصلة بناءة معها انطلاقا من قاعدتين اساسيتين أعلنهما الاسلام وهما: (أولا) ‘لا اكراه في الدين’ و ‘لكم دينكم ولي دين’ وثانيا ‘وجادلهم بالتي هي أحسن’ و ‘انما أنت مبشر لست عليهم بمسيطر’ والمبشر هو الذي يدعو بالكلمة الطيبة، لا بالكلمة التي تُنَفِرُ وتُباعِد، والكلمة الطيبة هي الفريضة الاسلامية. هؤلاء، وكثيرون من الأفراد والمؤسسات من غير المسلمين يختلفون مع حكوماتهم وسياساتها، ويتحملون من أجل ذلك ما يتحملون، وواجبنا الشد على أيديهم لا اهمالهم أو التنكر لهم أو مخاطبتهم بعبارات تحقير أو عداء.
البيان
لنعد الآن الى البيان. في مقدمته المكونة من أربع عشرة نقطة استعرض جوانب من القضية الفلسطينية وما كان المجلس قد اتخذه من قرارات في اجتماعات سابقة. في الفقرة الاولى أشار الى أن قرار التقسيم الذي تبنته الجمعية العامة للامم المتحدة عام 1947 بقيام دولتين في فلسطين قد نفذ في جانب واحد منه، وهو قيام اسرائيل، في حين أن الجانب الآخر، وهو قيام دولة فلسطينية ما زال في انتظار التنفيذ. ويصرح بأن ‘سياسة اسرائيل الاستيطانية في الاراضي التي احتلت عام 1967 هو عائق دون تحقيق هذا الوعد وعائق أمام قرار المجتمع الدولي بشأن دولة فلسطينية قابلة للحياة. إن الاستيطان المتواصل في الاراضي خارج حدود اسرائيل المعترف بها دوليا (حدود الخط الأخضر لعام 1949) مرفوض من قبل جميع العالم تقريبا ويلاقي عدم تصديق واسع الانتشار لأنه غير شرعي وغير عادل ويتعارض مع السلام ويتنافى مع المصالح المشروعة لدولة اسرائيل. ومع أن حق اسرائيل في أن تعيش في أمان يثير تعاطفا ودعما عالميا، الا أن سياساتها في التوسع والضم تولد استهجانا أو عداء لأنها تدل دلالة مباشرة على طبيعة الاحتلال’. النقطة التي ينطلق منها المجلس هي اذن قرار التقسيم ، مع أنه يشير الى حدود عام 1949، وهي ليست حدودا دولية وانما هي حدود هدنة، ولا يعترف بها كحدود بين الدولتين الا بالاتفاق بينهما. والأصل قانونا لمن يعترف بشرعية قرار التقسيم هي الحدود التي رسمها ذلك القرار.
في الفقرة الثانية يصرح البيان ‘بأنه توجد في الاراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، حوالي مائتي مستوطنة تضم 450000 مستوطن. وهذه المستوطنات تجعل محاولات المجتمع الدولي للوصول الى حل سلمي محاولات أشد هزالا ومستحيلة عمليا. وحتى فإن ‘تجميد الاستيطان’ الذي طلبه أهم حليف لاسرائيل، فانه ووجه بدوامة أحرى من التأخيرات المتعمدة والتنازلات المؤقتة والشروط المسبقة التكتيكية – أمور تؤدي الى تآكل حسن النية وتدمير الأمل وتقضي على مفاوضات ذات معنى، وهي مسائل يمكن أن يشملها تجميد يتم عن حسن نية. وهذا الرفض لتجميد التوسع يدل أيضا على رفض للتعامل مع القضية المركزية في الاحتلال والمستوطنات بهذه الصفة’. هذا التحليل للمناورات الاسرائيلية حول الطلب الامريكي لتجميد الاستيطان قلما تجده في أي مكان آخر، وهو يكشف جانبا لا تسمعه من أي مصدر رسمي عربي أو فلسطيني. وغياب حسن النية من المؤكد أنه لا يجرؤ على النطق به أي مصدر من هذه المصادر خوفا من ردود الفعل الاسرائيلية.
في الفقرة الثالثة يكشف البيان طبيعة الاحتلال الاسرائيلي ويركد مرة أخرى ما تضعه اسرائيل من عراقيل في طريق السلام. تقول هذه الفقرة ‘إنه لمما يسر أن الادارة الامريكية وحكومات دول أخرى كثيرة قد عبرت عن تصميمها على ازالة العقبات التي تقف في طريق السلام وأن تسوي الصراع الاسرائيلي الفلسطيني بمفاوضات موضوعية ونهائية. وهذا سيكون بداية لعلاقات جديدة في شرق أوسط أوسع. ولكن مما لايشجع على ذلك أن الأحداث في الاراضي الفلسطينية المحتلة والقدس الشرقية تكشف مرة أخرى طبيعة الاحتلال الاسرائيلي التي لا تهاون فيها والاسلوب المستمر لخلق عوائق جديدة في وجه السلام’. بهذا يؤكد مجلس الكنائس العالمي أن اسرائيل لا تريد السلام وأنها تصطنع العقبات المتوالية لمحاولة اجهاض المفاوضات الجادة التي تريدها الولايات المتحدة والعديد من دول العالم. وتؤكد هذه السنوات العديدة التي مرت على أوسلو وشهدت تضاعف عمليات الاستيطان والعراقيل التي وضعت في طريق مفاوضات جادة في انتظار استكمال المشروع الصهيوني وهو السيطرة الكاملة على فلسطين بموافقة تفرض على الشعب الفلسطيني في مفاوضات لا مجال فيها الا لقبول الامر الواقع الذي تكون اسرائيل قد فرضته سواء في الضفة أو في القدس. وهذا ما تسعى اسرائيل الآن الى تحقيقه بمناوراتها وتصرفاتها وادعائها في الوقت ذاته بأنها تريد السلام اما الفلسطينيون فهم الذين يماطلون أو لا يوجد بينهم من تتفاوض معه.
في الفقرة الرابعة يستعرض البيان التوسع في الاستيطان بدلا من وقفه وأثر ذلك على الشعب الفلسطيني، ويشير الى الوحدات السكنية التي ستبنى في القدس وبقية الضفة الغربية، والى تدمير المنازل الفلسطينية وطرد سكانها منها والى الخطر الذي تتعرض له الاملاك وذلك تمهيدا للفقرة الخامسة من البيان. في هذه الفقرة يقول البيان ‘إن وجود هذه المستوطنات غير الشرعية والبنى التحتية المرافقة لها بما في ذلك جدار الفصل، وما يسمى ‘بمناطق الأمن’ وشبكة الانفاق الواسعة الانتشار، وطرق التحوي ونقاط التفتيش، كل هذا يحول بين الفلسطينيين وبين أجزاء كبيرة من أراضيهم ومصادر مياههم. إنها تقيد حرية حركتهم وتنتقص من كرامتهم الانسانية الاساسية ويمس بحقهم في الحياة في الكثير من الحالات. كما لها تأثير خطير على حق الفلسطينيين في التعليم والوصول الى مراكز الرعاية الطبية. انها تدمر الاقتصاد الفلسطيني باعاقة حركة انتقال المنتجات، الأمر الذي يجعل وجود دولة فلسطينية قابلة للحياة شبه مستحيل التحقيق. وهذا يضاعف الشعور بالحرمان من الأرض واليأس في أوساط الشعب الفلسطيني ويساهم في اشعال التوترات في المنطقة ويشكل تهديدا لأمن اسرائيل’.
في الفقرة السادسة يتعرض البيان للقدس فيقول ‘إن المستوطنات غير الشرعية في القدس وحولها يهدد مستقبل المدينة المقدسة، هذا المستقبل الذي يجب التفاوض بشأنه كجزء من اتفاقية سلام شامل. إن المستوطنات تعزل القدس عن باقي الضفة الغربية الفلسطينية، فتفرق بين الاسر وتقطع العلاقات الاقتصادية والدينية والثقافية الجوهرية. ان السياسات الاسرائيلية التي تقيد حقوق الاقامة للمقدسيين بمصادرة بطاقات الاقامة وتضييق أذونات البناء ورفض لم شمل العائلات الخ. تهدف الى تغيير طبيعة المدينة المقدسة التي يجب أن تكون مفتوحة للجميع ومشتركة بين الشعبين والديانات الثلاث. ‘
عدم شرعية الاستيطان
بعد هذه المقدمات ، يسترجع المجلس قراراته في دورات سابقة حول الموضوع. فيشير الى قراره المتخذ في دورة 2002 والذي طالب الدول الاطراف في اتفاقية جنيف الرابعة بتنفيذ بيان هذه الاطراف الذي أكد على عدم شرعية المستوطنات وعدم شرعية تنميتها ويطالب دولة الاحتلال بأن تحترم تلك الاتفاقية احتراما كاملا وفعالا . كما أشار الى الموقف الثابت للمجلس منذ زمن طويل من أن الافعال الاحادية الجانب قد أحدثت تغييرا جوهريا في جغرافية القدس وطبيعتها السكانية وأن قرارات الامم المتحدة رقم 181و 194و303 والقرارات اللاحقة قد نصت على وضع خاص للقدس تحت نظام دولي وأن اتفاقيات جنيف تحظر اجراء تغييرات بالنسبة لسكان وطبيعة الاراضي المحتلة، بما فيها القدس. وموقف المجلس في دورته عام 2001 وقناعة المجلس بالحاجة الى مقاطعة البضائع التي تنتج في المستوطنات الاسرائيلية غير الشرعية والى ضرورة انضمام الطوائف الاعضاء، كنائس ومؤمنين، في أعمال المقاومة غير العنيفة لتدمير الممتلكات الفلسطينية وطرد الفلسطينيين بالقوة من بيوتهم واراضيهم. وقرار المجلس عام 2005 بأن الكنائس يجب ألا تكون متواطئة في النشاطات غير الشرعية في الاراضي المحتلة بما في ذلك تدمير بيوت واراضي الفلسطينيين واقامة المستوطنات والبنى التحتية المتعلقة بذلك والجدار الفاصل- وتكون لديها فرص اتخاذ اجراءات اقتصادية عادلة وشفافة وسلمية في مواجهة هذه النشاطات غير المشروعة وتأييدا لحلول سلمية للصراع. وقرار المجلس في دورة 2004 عن استهجانه لفرض حدود توسعية من جانب وتضييق متواصل على الجانب الآخرمما يوسع الحضور الاسرائيلي المدني والعسكري داخل الاراضي الفلسطينية، الامر الذي يقوض جميع جهود صنع السلام وكامل مفهوم دولة فلسطينية متواصلة وقابلة للحياة. ثم أشار البيان الى موقفه عام 1975 من أن الاماكن المقدسة المسيحية يجب أن تتوحد وتستجيب للمجتمعات المسيحية التي تتهدد حياتها وجذورها بشكل متزايد في القدس بسبب سياسات الاستيطان في المدينة. ثم أشار البيان الى النداء الذي وجهه المجلس للطوائف الاعضاء بخصوص مرافقة وتشجيع الانخراط الفاعل والسلمي في مفاوضات سلمية تؤدي الى سلام شامل وعادل يستطيع بموجبه أن تعيش أمتان في تجاور وأمن وداخل حدود معترف بها دوليا. وفي ختام البيان يعود المجلس للتأكيد على مواقفه السابقة بالتفصيل والدعوة الى احترامها.
هذا التذكير بالمواقف السابقة للمجلس والتاكيد على أنها ما زالت مواقفه، وهي مواقف مفصلة تشمل التزاما بعدم شرعية المستوطنات كلها وما طرأ عليها من توسعات، وكذلك ما أحدثته اسرائيل من تغييرات في القدس، ومناشدة الكنائس بدعم المقاومة السلمية للاستيطان ومطالبة الكنائس بمقاطعة البضائع التي يكون منشؤها المستوطنات وسحب جميع استثماراتها منها، وهذا التأكيد على أن ما تجريه اسرائيل في الاراضي الفلسطينية المحتلة من توسيع احادي الجانب لحدودها والتضييق على الفلسطينيين من جانب آخر، كل هذا يصعب أن نجده بهذه الدقة والتفصيل في أي بيان رسمي عربي، بل وفي أي بيان لمعظم الفصائل الفلسطينية. إنه يشرح اساس الصراع لاتباع هذه الكنائس ويدعوهم للانضمام لمقاومة ما يجري من غير عنف.
دور الحركات الاسلامية
والسؤال الذي لا بد من إثارته هو لماذا لا يكون هناك استجابة فعالة من جانب المؤسسات والحركات الاسلامية لهذه المواقف؟ لماذا لا يقوم تعاون مشترك منظم ومدروس بين هذه المؤسسات والحركات والمجلس لدعم هذه المواقف وتحريكها في المجتمع الدولي والأوساط الشعبية، اسلامية ومسيحية، في جميع ارجاء العالم حيث توجد هذه الطوائف على الأقل، أي في حوالي 110 بلدا؟ إن عكس ذلك هو ما يحدث في أحيان كثيرة. اننا في حاجة ماسة للتعلم مما يفعله العدو. وكمثال على ذلك نشير الى التعاون الكامل القائم بين العدو والمسيحيين الجدد في الولايات المتحدة. من المعروف أن هؤلاء يدعمون اسرائيل لأنهم يرون في ذلك طريقا لتحقيق إحدى النبوءات التي تقول بأن السيد المسيح سيعود وأن هذه العودة مرتبطة بقيام اسرائيل، وأنه عندما يعود سيصبح اليهود جميعا مسيحيين. أي أن هؤلاء يعملون من أجل انهاء الوجود اليهودي عند عودة المسيح. وفي حفل اقامته هذه الجماعة في امريكا لجمع التبرعات كان السفير الاسرائيلي من بين الموجودين. وعندما سأله أحد الحاضرين كيف يحضر احتفالا كهذا من منظمة هذه أهدافها، كان جوابه: ‘لا ضير في ذلك. عندما يعود المسيح سنرى.’ هذا هم. أما نحن؟