لا للعودة لأساليب أوسلو ومصائبها

لا للعودة لأساليب أوسلو ومصائبها

مقدمة

1 – جاء اتفاق مكة المكرمة ثمنا للدم الفلسطيني الذي كان يجب ألا يسفك، وسيتحمل مسئوليته ليس فقط الذين أمروا بسفكه وانما أيضا أولئك الذين سمحوا له بأن يسفك وأولئك الذين ضغطت أصابعهم على الزناد ليقتلوا. فما كان من المتصور أن يقبل هؤلاء، مهما كان مصدر الأوامر، بأن يضغطوا على الزناد. كان عليهم أن يرفضوا اطاعة الأوامر ويتمردوا عليها. فالسلاح الذي في أيديهم كانت له مهمة أخرى، ولم يكن من بين مهامه أبدا أن يسلط على الأهل والاخوة، وعلى من يفترض فيهم أنهم شركاء في النضال. بماذا سيرد هؤلاء، قادة وأفرادا، على اسئلة ابنائهم ونظراتهم، وهل سيكونون أمناء على الدم الفلسطيني؟ كانت كارثة لا مأساة فقط، ولكن ما وقع وقع، والمهم الآن ألا تضيع هذه الدماء سدى بالعودة الى الخلافات أو الطموحات الحزبية أو الشخصية التي تسببت في سفكها، أو بافراغ اتفاق مكة الذي كانت ثمنا له من مضمونه.

2 – هناك بوادر تشير الى محاولات لدفن هذا الاتفاق واعتباره كأن لم يكن، بدلا من البناء عليه باتخاذ مواقف تدعمه وتحقق غاياته. لقد كان اجراء موفقا أن كلاً من الرئيس أبو مازن والأخ خالد مشعل قد قام بجولة لشرح الاتفاق وكسب التأييد له. فأول من يجب أن يلتزم به هو من وقع عليه، والتزامه ليس التزاما شخصيا فحسب وانما هو أيضا التزام بحكم المنصب والموقع. فعلى كل منهما أن يضبط تصرفات ومواقف المنتمين لحركته. وأول مؤشرات الانضباط هو حظر التصريحات والمقابلات على الفضائيات الا على ناطق رسمي واحد، يكون هو وحده المكلف بالتحدث باسم الجهة التي يمثلها. ويجب اختيار هذين الناطقين بعناية بحيث لا يرى أن من حقه أو واجبه أن يتفلسف فيعبر عن اجتهاداته الشخصية حول مفهوم الاتفاق أو تطبيقاته. هو ناطق فقط، وبهذا تقضي الحركتان على ذلك الفلتان في التعليقات والمقابلات والفلسفات التي كانت تنطلق على الفضائيات العربية والأجنبية.

3 – هذان التزامان أوليان، ولكن الى جانبهما، بل وقبلهما، هناك التزام مباشر على قيادتي فتح وحماس، وهذا الالتزام هو التواصل الدائم فيما بينهما في جميع الأمورن بحيث يعلم كل منهما بما يفكر به الآخر أو يعتزم القيام به. لا يجوز اطلاقا العودة الى شبه القطيعة التي كانت قائمة بين الرئيس ورئيس وزرائه أو وزرائه. فهذه القطيعة أغرت الاعداء وشجعتهم على التوهم بأنهم يستطيعون تعميق الخلافات واشعال نيران المنافسة غير الحميدة طمعا في التنازلات لكسب الرضا. وقد كنا نسمع ذلك الاصرار الغريب على التعامل مع الرئيس فقط وليس مع حكومته، وكأن الرئيس الفلسطيني دكتاتور من أمثال أولئك الذين اعتادوا على التعامل معهم أو أن الرئيس الفلسطيني سيتخلى عن خيار شعبه للمجلس التشريعي الذي جاء به وبالحكومة التي ترتبت على انتخابات كانت مفخرة للشعب الفلسطيني والرئيس الفلسطيني بالرغم من ظروف الاحتلال. يجب أن يكون التواصل مستمرا بحيث لا تتاح الفرصة لسوء الفهم أو لدس الدسائس أو الانفراد بالقرار. وعلى الرئيس الفلسطيني، بعد تشكيل الحكومة، أن يصر على وجوب التعامل معها بصفتها الحكومة الشرعية للشعب الفلسطيني. وأول من يجب الاصرار عليهم في هذا الشأن هم الحكام العرب والحكومات العربية.

4 – وكذلك يجب التواصل الدائم مع جميع القوى الاخرى في المجتمع الفلسطيني، سواء كانت داخلة في الحكومة أم لم تكن، وذلك بهدف توفير أكبر اجماع فلسطيني ممكن في جميع الأمور التي تهم الشعب الفلسطيني.

5 – لقد أعلن الرئيس أبو مازن في وقت من الأوقات بأنه يعتزم الاتصال برئيس وزراء اسرائيل بهدف اجراء مفاوضات بالطريقة التي انتجت اتفاقية اوسلو سيئة الذكر. ولا ندري ما اذا كان أبو مازن قد اتخذ هذه الخطوة أم لم يتخذها. فاذا كان قد اتخذها فيجب التراجع عنها، لأسباب متعددة، أولها أن من حق الشعب الفلسطيني أن يعرف من يتفاوض باسمه، خاصة بعد تجربة أوسلو المريرة. وفي هذا الشأن لا مفلا من المصارحة. إن الذين تولوا التفاوض حتى الآن باسم الشعب الفلسطيني لم يفشلوا فقط في الحصول له على أي حق من حقوقه، بل انهم أساؤوا الى تلك الحقوق. اننا لا نتهم أحدا في وطنيته، فليس هذا هو الموضوع، ولكننا غير مطمئنين الى كفاءتهم التفاوضية في مواجهة أدق واشيطن مفاوضين.

الإعلان

مأزق المبادرة العربية

مأزق المبادرة العربية .

مقدمة

أُُعلِنت المبادرة العربية في قمة بيروت عام 2002، ومضى على اعلانها خمس سنوات لتعود قمة الرياض عام 2007 وتؤكد عليها مجددا رافضة أي تعديل عليها. خلال هذه السنوات الخمس بان مدى اكتراث المجتمع الدولي بهذه المبادرة ومدى استعداد اسرائيل وأمريكا، على وجه الخصوص، للتجاوب معها ايجابيا، وبان كذلك مدى التزام الحكام العرب بما يقررونه، ويصرحون به.

فمن ناحية اسرائيل كان الرد على المبادرة بُعَيْدَ اعلانها مجزرة مخيم جنين، ومواصلة فرض الوقائع على الأرض بقوة أكثر مما مضى، مثل اقامة الجدار الذي أعلنت محكمة العدل الدولية عدم شرعيته ووجوب ازالته، واستمرار عمليات الاكتساح لقطاع غزة والضفة، والاغتيالات والاعتقالات وهدم البيوت وتجريف الاراضي، واقامة مستوطنات جديدة وتوسيع ما كان قائما. أي أن اسرائيل لم تكترث بهذه المبادرة، واستمرت هذه النشاطات بعد التأكيد على المبادرة في قمة الرياض، وازدادت الانتهاكات للمسجد الاقصى وتضاعفت الخطوات للاستيلاء عليه وربما هدمه، بل وأقيم كنيس في أحد الانفاق التي حفرت تحته، ليجري، في أفضل الاحوال، تقسيم المسجد، تماما كما حصل في الحرم الابراهيمي، وتثبيت واقع يفرض سيطرة اسرائيلية، بحجة الوصول الى مكان مقدس للعبادة، حتى لوعادت القدس الشرقية للسيادة الفلسطينية، مع أن الجدار يفصلها عن محيطها الفلسطيني ويفرغها من غالبية سكانها الفلسطينيين. وأضيف الى هذه كله حصار مالي واقتصادي خانق كشف حتى لمن لم يرد أن يرى مدى تحكم اسرائيل حتى في لقمة العيش الفلسطينية.

أما الرد الاوروبي على المبادرة عند اعلانها لأول مرة فقد كان التجاهل الكامل. والرد الامريكي لم يكن تجاهلها فقط، بل كان اغراق الانظمة العربية في المشرق العربي في المشروع الامريكي الاسرائيلي ضد ايران وحزب الله وحماس بوجه خاص، بحيث تولت أمريكا واسرائيل قيادة حلف سني ضد ما سمي بالخطر الشيعي على الدول السنية. واصبحت وزيرة الخارجية الامريكية تجتمع علنا مع رؤساء المخابرات في الدول العربية “المعتدلة” وتحدد لهم سياسات دولهم في مواجهة هذا الخطر، وأعلنت صراحة أن الوقت لم يحن بعد لبدء المفاوضات مع اسرائيل، دون أن تعترض على ما تقوم به هذه من انتهاكات للحقوق العربية. ونتيجة لهذا التحالف أعلن يهود أولمرت أن الدول العربية أصبحت تخشى من الارهاب أكثر مما تخشى الخطر

الاسرائيلي. ولذا جاء هذا التحالف. وفرضت أمريكا واسرائيل الحصار الاقتصادي والمالي على الشعب الفلسطيني في حملة يقصد من ورائها تركيعه وكسر ارادته في اختيار ممثليه، وإن جرى هذا الاختيار وفقا لمشروع الديموقراطية الذي تبشر به أمريكا للشرق الاوسط. ووقفت الانظمة العربية والاسلامية موقف العاجز ازاء هذا الحصار الجائر، وكأنها لا تعد ستة وخمسين دولة يبلغ تعداد سكانها أكثر من بليون نسمة، أي حوالي ثلث سكان الكرة الأرضية.

أما الموقف العربي نفسه من هذه المبادرة فقد كان الإهمال أو التهرب، كالعادة، عندما صدر أول رد فعل اسرائيلي، وكأنما المتوقع أن تلهث اسرائيل وراءها، كما نلهث نحن العرب، وتتخلى عن طموحاتها وبرامجها. لجنة المتابعة التي شكلتها القمة لمتابعة المبادرة والدعوة اليها والتعريف بها، لم تتحرك من مكاتبها، ولم يسمع أحد عن وجودها. والقمة انعقدت عدة مرات بعد قمة بيروت فلم تتخذ أي قرار جدي لا للتذكير بالمبادرة ولا لمواجهة ما كانت تقوم به اسرائيل من تنفيذ لمخططاتها، ولم تبذل جهدا جدياً لتفعيل الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية في قضية الجدار الذي أيد جميع المواقف الفلسطينية والعربية في جميع القضايا ورسم الحدود الواجب الالتزام بها لحل هذه القضايا. الشيء الوحيد الذي استمر بعد المبادرة هو الحرص الرسمي العربي على المحافظة على ما كان قد تم من تطبيع مع اسرائيل، وتوسيع نطاقه، وتبني املاءات اسرائيل على الحكومة الفلسطينية المنتخبة.

ومحصلة هذا كله أن العالم ، واسرائيل وامريكا والاتحاد الاوروبي بطبيعة الحال، والانظمة العربية كلها، واصل عدم الاكتراث بما تقرره القمم العربية. فلماذا كل هذا الاستخفاف بقمم اثنتين وعشرين دولة تضم أكثر من ثلاثمائة مليون نسمة؟

قرارت بلا أنياب أو مخالب

ان هذا الاستخفاف يعود الى عناصر متعددة واحدُها يكفي. ومن بين هذه العناصر:

(أولا) الدول العربية، أو معظمها على الأقل، تتعارض أفعالها مع أقوالها، وتتضارب مواقفها المعلنة مع مواقفها عند الحديث مع الغير، ولا يلتزم القادة العرب بما يقررونه، وهم دائما على استعداد للتنازل، وللعطاء النافذ في مقابل وعود لا ينفذ منها شيء. وهذا كله يؤثر على مصداقيتهم ويؤدي الى عدم الجدية في النظر الى ما يقولونه أو يقررونه.

(ثانيا) لو كانت الدول العربية جادة في مبادرتها لوفرت لها حدأ أدنى من فرص النجاح أو الاهتمام على الأقل. إن العنصر الرئيسي الذي تفتقر اليه مبادرة قمة بيروت والتأكيد عليها في قمة الرياض هو أنها مبادرة بلا مخالب، فلا هي محددة بزمن بحيث يصبح العرب في حل منها بعد مرور هذه الفترة الزمنية، ولا هي مرتبطة بمواقف تُتَّخذ في حالة عدم الاستجابة لها خلال هذه الفترة. وياليت الدول الاسلامية قد التزمت بهذه المبادرة أيضا بحيث يتأكد أن القضية قضية العالمين العربي والاسلامي وبأن نتائج رفضها سيستدعي مواقف من الدول الاسلامية فضلا عن الدول العربية. (ويا ليت وزراء الخارجية العرب ضموا الى صفهم مهاتير محمد ممثلا للدول الاسلامية).

(ثالثا) ويرتبط بالسبب الثاني مفهوم خاطئ لخيار السلام. لقد اختارت الانظمة العربية كلها السلام وأعلنت مرارا وتكرارا بأن خيارها هذا خيار استراتيجي لا رجعة فيه. وحيث أن السلام مستتب مع الانظمة العربية، بالرغم من عدم التزام اسرائيل به، وحيث أن التطبيع مع هذه الانظمة في تقدم مستمر أيضاً رغما عن كل شيء، فان من المنطقي أن تتساءل اسرائيل عن قيمة ما ستجنيه من قبول هذا لعرض فوق ما تحصل عليه بدون التعامل معه، في ظل هذه الاستراتيجية العربية، ومن الطبيعي أن تُطالب بالثمن مقدماً. وهذا ما حصل بالفعل.

(رابعا) إن تفسير الانظمة العربية لخيار السلام هو في حقيقته خيار الاستسلام لما تقرره وتفعله اسرائيل. أي أن هذا الخيار لا يستبعد فقط الحرب المسلحة استبعادا كاملا، وانما يُلغي كذلك جميع وسائل الضغط التي لا تصل الى درجة هذه الحرب المسلحة، خلافا لما تفعله جميع الدول من ابقاء جميع الخيارات مفتوحة لكي تتصرف وفقاً لما تتطور اليه الأمور. وبهذا يدخل في مضمون هذا الخيار الاستراتيجي، وفقا للمواقف والممارسات العربية، استبعادُ التعرض للتصرفات الاسرائيلية، كائنة ما كانت، والتخلي الكامل عن جميع أوجه الضغوط التي تستعملها الدول لحماية مصالحها ويقرها القانون الدولي، كسحب السفراء أو قطع العلاقات الدبلوماسية، طالما أنها لم تحقق شيئا، أو ايقاف التعاملات وفرض المقاطعة، والتوقف عن التطبيع

والمشروعات المشتركة، والوقوف الى جانب حركات المقاومة، أو على الأقل عدم التضييق عليها. هذه وأمثالها اجراءات تتخذها الدول لحماية مصالحها وحقوقها، ولا تعتبر تهديدا للسلام أو الأمن الدولي.

(خامسا) الدول العربية تستجدي المجتمع الدولي بأن يقوم هو بما يجب عليها هي أن تحاول، على الأقل، القيام به، مبتدئة بنفسها. الدول العربية تُطالِبُ الدول الاخرى بأن تكون هي المُبادِرةُ لاتخاذ اجراءات ضد اسرائيل في الوقت الذي تحرص هي فيه على المحافظة على علاقات شبه حميمية وتزيدها تعميقاً، ولا تُقدم على اتخاذ أي اجراء مهما صغر. هذا موقف لا يجلب سوى السخرية والاستخفاف من بقية دول المجتمع الدولي. فلماذا تضحي الدول الأخرى بمصالحها وصاحب المصلحة لا يفعل شيئا للدفاع عن مصلحته؟ المجتمع الدولي يتحرك بقدر ما تُوَجّه عليه من ضغوط. والدول العربية والاسلامية لا تستعمل أي نوع من لضغوط، بل انها تتخلى عن اسلحة مشروعة جاءتها رحمة من الغير، مثل فتوى محكمة العدل الدولية بشأن الجدار الفاصل الذي تقيمه اسرائيل في الاراضي الفلسطينية المحتلة. أعلى محكمة دولية في العالم قررت باجماع لا سابقة له وبناء على طلب من المجتمع الدولي ذاته أن الجدار هذا غير شرعي ويجب ازالته وتعويض الاضرار التي نتجت عنه. كما قررت المحكمة المبادئ التي يجب الالتزام بها لتسوية القضايا العالقة، والتزامات الدول والامم المتحدة في هذا الشأن. ومع ذلك فان الانظمة العربية والاسلامية والسلطة الفلسطينية ما زالت غافلة عن أهمية هذه الفتوى ولم تبذل جهدا حقيقيا متواصلا داخل المجتمع الدولي، ولو عن طريق الجمعبة

العامة للامم المتحدة لتفعيل هذه الفتوى، كما أنها تتجاهل قرارات مجلس الأمن نفسه بشأن القدس المستوطنات وغيرها ولا تفعل شيئا لابقاء هذه القرارات حية وفاعلة داجل المجتمع الدولي. هذا عمل دبلوماسي لا يهدد لسلام، بل إنه يعمل على تثبيت أركانه وأركان الشرعية الدولية. الانظمة العربية تتجاهل هذا كله، بدلا من أن تكون في حركة دؤوبة للاستفادة منه.خوفا من احراج أمريكا ، في حين أن أمريكا، وخاصة الكونغرس، لا تتردد لحظة واحدة في احراج أي نظام عربي وخلق المشاكل له. الانظمة العربية تتلقى الضربات من أمريكا، قائدة المجتمع الدولي، ولا ترد على هذه الضربات ولو بتخفيض مستوى العلاقات الاقتصادية، بالاحجام مثلا عن عقد الصفقات الخيالية، مثل شراء اسلحة يعلم الجميع أنها لن تُستعمل ولكنها تُبقي صناعة الاسلحة في أمريكا وأوروبا ناشطة وتنقذها من الاغلاق وتوفر فرص العمالة للالاف. أمريكا، كغيرها من الدول، تحرص على مصالحها، وخاصة التجارية منها، فاذا شعرت شركاتها بأن هناك تحولا في التوجهات التجارية الى جهات أخرى، فان الشركات المهددة في ارباحها ستتحرك، كما تتحرك الحكومات أيضا عندما تشعر بضغوط جدية وتحولات في مسيرة التجارة.. أما اذا بقيت المصالح سائرة كما يريدون فلماذا يغيرون المسيرة. وخير دليل على ذلك قصة صفقة اليمامة بين بريطانيا والسعودية.

(سادسا) الانظمة العربية والرئاسة الفلسطينية ومستشاروها النافذون تركوا مصير القضية في يد أمريكا. يتوسلون اليها ويحرصون على رضاها، بالرغم من الطعنات التي لا تتردد أمريكا والكونغرس بوجه خاص في توجيهها لكل نظام عربي وللقضية الفلسطينية، ولا يمارسون في الوقت ذاته ضغوطا فاعلة هي في ايديهم لتغيير الموقف الامريكي أو لاحراج الادارة الامريكية. الموقف الامريكي تحكمه في نهاية المطاف المصالح الامريكية. فما دامت المصالح الامريكية مضمونة في العالمين العربي والاسلامي، وما دام أن طلبات أمريكا دائماً مستجابة، فما هو الداعي لامريكا لتغيير سياستها؟ المصالح الامريكية كثيرة ومتنوعة في العالمين العربي والاسلامي، ولا تتحقق هذا المصالح الا بتعاون من الانظمة العربية والاسلامية. فاذا التزمت هذه الأنظمة بمواقف ثابتة تتمسك بأن العلاقات لها طرفان وعلى كل طرف مراعاة مصالح الطرف الآخر، فان المعادلة تتغير. ومع الأسف فان هذا الالتزام غائب لانغلاق كل نظام على نفسه ولغياب النظرة الاستراتيجية لدى هذه الانظمة، مع أنه من الواضح أن أمريكا تسعى للانفراد بالتعامل مع كل نظام على حدة ضد المصالح الحقيقية لهذا النظام، وأن هذا الانفراد يتيح لها فرصة استغلال ضعف هذه الانظمة عندما تتحرك على انفراد. وحيث أن الموقف الامريكي، من منظور الانظمة العربية في وضعه الحالي، حاسم بالنسبة الى المبادرة العربية، فإن الاجواء ما زالت غير مهيأة عربيا واسلاميا لاستجابة ايجابية من الطرف الامريكي. . اجراء واحد فقط يكفي لتذكير امريكا وشركاتها بأن مصالحها في خطر اذا استمرت في سياستها المتحيزة المخالفة للشرعية الدولية. وهذا الاجراء هو التوقف مثلا عن شراء الطائرات الحربية الامريكية، وحتى الغربية، (والتي ليست الانظمة في حاجة اليها على أي حال ولن تكون ذات جدوى لو أنها استعملت لأن البائع يتحكم في قطع الغيار والصيانة

وستصبح الطائرات خردة لا قيمة لها).

(سابعا) إن الضغوط التي تحدثنا عنها فيما تقدم والتي ندعو الحكومات الى ممارستها، قد لا يتحقق منها نظرا لأن الماضي يدل على انعدام الارادة الفاعلة عند معظم الحكام العرب وعلى استهانتهم بما لديهم من امكانيات لو حشدوها واستفادوا منها مجتمعة. ونرجو أن قمة الرياض منعطفا يصحح هذه الاوضاع. وسواء كان قد حصل ذلك أو لم يحصل، فلا مفر من القول بأنه على الشعوب العربية والاسلامية أن تستعيد دورها الفاعل في الأحداث وفي المواجهة، سواء تحركت الأنظمة أو لم تتحرك. وفي تاريخنا المعاصر، كانت حركة الشعوب مؤثرة. فالشعوب هي التي اسقطت حلف بغداد الذي سعى الى اعادة الوطن العربي لأحضان بريطانيا وجره لأحلاف لا مصلحة فيها للامة العربية. وعمال الموانئ العرب هم الذين فرضوا على أمريكا فتح موانئها أمام الباخرة المصرية كليوباترا، وذلك بمقاطعة البواخر والطائرات الامريكية ورفض التعامل معها في الموانئ والمطارات العربية. ونصرة الشعوب العربية لثورة الجزائر ساهمت مساهمة كبيرة في تحقيق النصر لها. واحتضان الشعوب العربية للفدائيين الفلسطينيين أسهم كثيرا في تثبيت أقدام المقاومة

الفلسطينية وفي الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية وحركات المقاومة. صحيح أنه كانت هناك قيادة عربية مؤثرة، وهي قيادة جمال عبد الناصر، ولكن الشعوب الحية لا تربط مصيرها بوجود شخص قد تأتي به الاقدار وقد لا تأتي. الواعون في هذه الأمة بالمخاطر التي تحيق بها، عليهم أن يضاعفوا من حركتهم لتوعية الجماهير بما تستطيع هي القيام به، دون انتظار لقائد قد لا يتكرر وجوده لعدة عقود. ومن أول وأبسط ما يمكن للشعوب أن تقوم به هو رفض التطبيع رفضا قاطعا ومحاصرة المطبعين والداعين له بحيث ينعدم تأثيرهم مهما كانت الحجج التي يتقدمون بها. والى جانب رفض التطبيع، يجب أن تزداد حركة المقاطعة قوةً وشمولاً، ويزداد الغضب الشعبي لما يلاقيه الشعب الفلسطيني. المقاطعة يجب الا تقتصر على مقاطعة البضائع والمنتجات

الاسرائيلية، وانما يجب أن تتسع لتشمل منتجات الدول التي تدعم اسرائيل، وأن تظهر الى الوجود حركة شعبية عالمية تتبنى هذه المقاطعة كما كان حاصلا أيام مقاطعة جنوبي افريقيا العنصرية. لقد بدأت بشائر هذه الدعوة العالمية في الظهور، وانتشارها في العالمين العربي والاسلامي يساعد على تعميمها خارجهما. لقد بدأت حقيقة اسرائيل تتكشف أكثر فأكثر، وكذلك النتائج الخطيرة للهيمنة الامريكية. هذه الأجواء مواتية، ولكن التحرك لشعبي لم يستغلها بعد بالقدر الممكن. لقد ثار العالم الاسلامي كله من أدناه الى أقصاه في قضية الصور الكاريكاتورية للرسول الكريم، وثار في قضية الحجاب، بينما يبقى هذا العالم الاسلامي ومعظم علمائه ودعاته وناشطيه ساكتين لا يتحركون لحماية المسجد الاقصى أو لرفع الحصار الجائر على الشعب الفلسطيني أو لوقف

عمليات القتل اليومية أو لنصرة الاسرى الفلسطينيين والعرب في السجون والمعتقلات الاسرائيلية. بربكم هل يجوز أن إشغال المرأة المسلمة في هذه الايام بفتاوى أمثال أنها تعتبر زانية اذا جلست على كرسي، بدلا من تنبيهها الى دورها الحاسم في نصرة قضايا أمتها، كمقاطعة منتجات التجميل الامريكية مثلا التي تنفق عليها سيدات قطر عربي واحد لا نريد أن نسميه حوالي بليوني دولار سنويا؟ المرأة هي العمود الفقري لتنفيذ مقاطعة فاعلة في شتى المجالات. والحركات النسوية في العالمين العربي والاسلامي مدعوةٌ لتطبيقها، ذلك أن من أهم نتائج هذه المقاطعة أن الشركات التي تتناقص أرباحها ستتحرك للضغط على حكومتها لازالة اسباب المقاطعة، بشرط أن تستمر المقاطعة الى أن يتحقق الهدف منها، وأن لا تكون طفرة مؤقتة تتآكل بمرور الايام. أي أن هذه الشركات ستصبح هي “اللوبي” الذي تفتقده القضايا العربية في أمريكا أو غيرها، للضغط على الحكومات لاتباع سياسة أكثر انصافا للقضايا العربية. السلطات العربية قد تمنع الاجتماعات التي تعقد للدعوة للمقاطعة، ولكنها لا تستطيع أن تفرض على المواطن أو المواطنة أن يشتري أو تشتري منتجات بلد محدد أو شركة معينة. واذن فان المقاطعة سلاح لا يستطيع أحد أن يتحكم فيه سوى من يستعمله. والمرأة العربية والمسلمة مدعوةٌ لنصرة المرأة الفلسطينية في المحن اليومية التي تواجهها هي وأطفالها . لماذا لا تحدد الحركات النسائية يوماً من كل شهر، وليكن أول يوم، للمسيرات والنشاطات تحديدا لنصرة المرأة الفلسطينية في نضالها واعتصاماتها مثلاً للافراج عن الاسرى والمعتقلين من نساء وأطفال وشباب وشيوخ؟ لقد فشل الرجال في فك الحصار وفي الافراج عن الاسرى والمعتقلين، والمرأة قادرة على نقل النضال من أجل هذه الحقوق الانسانية الى الشارع في كل مكان. أليس هذا والحث على المقاطعة خير للأمة وللاسلام أن ينشغل به الوعاظ والواعظات والشيوخ والشيخات من اصحاب المواقع على الانترنت أو ممن يُستضافون على الفضائيات، من فتاوى أمثال أن لعبة كرة القدم حرام لأنها مستوردة من الكفار، أو أن الدولة الفاطمية، نعم الدولة الفاطمية التي انقضى على زوالها مئات السنين، دولة كافرة، أو أن طول اللحية أو الثوب يجب ألا يقل أو يزيد، حسب الأحوال، عن كذا سنتيمترا، أو ذر الفتنة

بين المسلمين بتكفير أولئك أو هؤلاء واغتصاب حق الله في أنه هو صاحب القرار في هذه الأمور؟.

(ثامنا) وأخيرا وليس آخرا، فإن موقف السلطة الفلسطينية، وبصورة أدق، موقف الرئيس الفلسطيني ومستشاريه، حاسم ولا شك في الوصول الى الغايات المرجوة من المبادرة، خاصة وأن هؤلاء يعتبرون ممثلين لمنظمة التحرير الفلسطينية المغيبة تماما عن مسرح الأحداث، وتتوقع اسرائيل أن تجري المفاوضات مع هؤلاء، وفقا للمعلقين الاسرائيليين. ولا شك في أن اسرائيل ستسعى لذلك، ولا نستبعد أن تجد آذانا صاغية لدى الأنظمة العربية التي تريد أن يتحمل الشعب الفلسطيني مسئولية القرار النهائي. وبطبيعة الحال فان اسرائيل تتوقع أن تستغل الضعف، بل العجز، التفاوضي الذي تجلى حتى اليوم من جانب من تولوا المفاوضات عن الشعب الفلسطيني. فاذا استطاعت اسرائيل أن تمرر ما تريد في مفاوضات سرية مع هذا المفاوض الفلسطيني، والسوابق تدل على أن هذا أمر شبه مؤكد، فان الأنظمة العربية تصل الى ما تتمناه وهو اتفاق فلسطيني اسرائيلي، مهما كانت طبيعة هذا الاتفاق. ونظراً لخطورة الموضوع فانه لا مجال للمجاملة، ولا بد من قول الحقيقة المرة. المفاوضون الفلسطينيون أثبتوا أنهم ليسوا أنداداً للمفاوضين الاسرائيليين، وأنه من السهل على المفاوض الاسرائيلي أن يجرهم الى مزالق خطيرة دون أن يدركوها. اعلان مبادئ اوسلو وما تلاه من اتفاقيات، اتفاق بيلين مع أبو مازن حول القدس، وثيقة جنيف، كلها تدلل على عدم كفاءة المفاوض الفلسطيني وسهولة انجراره خلف المنطق الاسرائيلي، جهلا أحيانا وأحيانا أخرى بسبب التضييقات التي يفرضها الاحتلال للتأثير على الارادة الفلسطينية. ومن المؤسف أن المفاوض الفلسطيني لم يتعلم من تجاربه، الأمر الذي يستدعي تغييرا كاملا للطاقم الذي يتولى المفاوضات، خاصة وأن اسلوب المفاوضات السرية الذي تبناه الجانبان الفلسطيني والاسرائيلي يؤدي الى اقتناص تنازلات فلسطينية متواصلة بسبب عدم كفاءة المفاوض الفلسطيني. وليس أدل على ذلك من اتفاقية سرية قيل انها حصلت عام 2005 لحل نهائي للقضية بين الرئيس الفلسطيني ونائب وزير الأمن الاسرائيلي، وتأجل تنفيذها بعد عدم نجاح فتح في انتخابات المجلس التشريعي. فقد نقلت جريدة القدس العربي في عددها الصادر في 24 نيسان (ابريل) 2007 صفحة 5 ، عن جريدة معاريف لاسرائيلية، خبراً تحت عنوان “عباس ونائب وزير الأمن الاسرائيلي أعدا سرا اتفاقا لحل النزاع الفلسطيني-الاسرائيلي يضمن يهودية اسرائيل”. وقد ذكرت الصحيفة الاسرائيلية أن لديها نسخة من هذا الاتفاق. فاذا صح الخبر، وتولى الرئيس الفلسطيني وطاقمه المفاوضات مع اسرائيل، فلا نستبعد أبداً أن نرى أنفسنا، الشعب الفلسطيني والأنظمة العربية، في مواجهة اتفاق تم اجازه والموافقة عليه أخطر بكثير من اتفاقية اوسلو وما تلاها من اتفاقيات ووثائق. ومجرد الاحجام عن الاعلان عنه بسبب ما تمخضت عنه انتخابات المجلس التشريعي

دليل واضح على طبيعته. اننا الآن نكتفي بالاشارة اليه، ونحجم عن التعليق الى أن يؤكد أبو مازن وجوده من عدمه، وخاصة ما اذا كان قد وافق عليه كما أدعت الصحيفة الاسرائيلية. ومهما يكن الأمر، فمن المؤكد أنه يجب تغيير طاقم المفاوضين الفلسطينيين تغييرا كاملا، والاستعانة بخبراء، حتى ولو كانوا من بين الأجانب، كالمحامين الذين تولوا قضية الجدار الفاصل أمام محكمة العدل الدولية، كما نؤكد خطورة الانفراد بالمفاوضات، وخطورة الاستمرار في تغييب منظمة التحرير بمؤسساتها. ومنعا لسوء الفهم، فإننا لا نطعن في وطنية المفاوضين هؤلاء، ولا في نواياهم من محاولة انقاذ الشعب الفلسطيني مما يعانيه، وانما نرى أنهم غير أكفاء لتولي هذه المهمة العويصة في مواجهة من يستعينون بجميع الكفاءات الاسرائيلية واليهودية والدولية لتحقيق أهدافهم بصياغة اتفاق يضمن هذه الأهداف. وكذلك، فانه ما دامت المبادرة مبادرة عربية فان من الواجب أن تتحمل الأمة العربية كلها المسئولية عن هذه المبادرة، بمشاركة الفلسطينيين بطبيعة الحال، دون أن ينفرد أحد بتفسيرها على هواه، وانما وفقا لتفسير متفق عليه يعتمد على المبادئ التي قررتها محكمة العدل الدولية في قضية الجدار كأساس لأي حل تفاوضي.

النتيجة

ان النتيجة التي نخلص اليها هي أن المبادرة العربية، اذا بقيت بدون مخالب رسمية وشعبية، ستكون قد ولدت ميتة، أو على الأقل سيصيبها تعديلات كثيرة مهمة اذا جرى الاستمرار فيها. وإغراءُ التطبيع ليس بالاغراء الكافي بالنسبة لاسرائيل ليوصل الى النتيجة المرجوة ما دامت الانظمة العربية والاسلامية سائرة فيه وملتزمة به على أي حال، وما دام مفاوضون رسميون فلسطينيون على استعداد دائما للقبول بأقل مما جاء في المبادرة بكثير. إن الظروف مواتية للبدء في استرداد بعض الحقوق العربية دون تنازلات، بشرط أن يكون هناك اتفاق عربي فلسطيني حول تطبيق هذه المبادرة بحيث لا يُعطى أي جانب منها تفسيرات متعارضة أو تنطوي على انتقاص من الحقوق أو انهاء الاحتلال وجميع ما ترتب عليه بالمخالفة للشرعية الدولية كما قررتها محكمة العدل الدوليةً، من اقامة للمستوطنات مثلا أو تغيير في البنية السكانية لمدينة القدس أو بقاء لأي مظهر من مظاهر الاحتلال في مدينة القدس الشرقية.

مشروع الدستور الفلسطيني : هل هذا وقته

مشروع الدستور الفلسطيني : هل هذا وقته؟

هناك حركة متسارعة مفاجئة من جهات متعددة تركز على ضرورة اصدار دستور فلسطيني في أسرع وقت. ومما يلفت النظر أن تـأتي هذه الحركة بعد أن أقر المجلس التشريعي قانونا اساسيا ديموقراطيا وأصدره الرئيس الفلسطيني في 29 مايو 2002، وأصبح سارياً وملزماً من الناحية القانونية، أي أنه لم يمض على صدوره سوى أشهر قليلة. فاذا كانت الديموقراطية هي الهدف فان القانون الأساسي ديمقراطي في منطلقاته ونصوصه ولا يحتاج الا الى الاحترام والتطبيق، واذا انعدم هذان بالنسبة للقانون الاساسي فانهما لن يتوفرا لدستور. واذا كان الهدف هو التغيير فان قانون الانتخابات الفلسطيني، الذي هو من أكثر قوانين الانتخاب شفافية، وأقدرها على احداث التغيير، كفيل بذلك اذا اتجهت نية الناخبين الى التغيير، ذلك أن انتخاب الرئيس الفلسطيني لا يتم بالاستفتاء على شخص واحد وانما هي انتخابات حقيقية يتنافس فيها متنافسون حقيقيون، كما حدث في الانتخابات السابقة والتي ترشحت فيها سيدة فلسطينية فاضلة هي المرحومة سميحه الخليل منافسة لرئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، الأخ ياسر عرفات، فأوجدت بذلك سابقة لم تشهدها المنطقة العربية من قبل، وكذلك فقد أعلن عدد من الأشخاص من مختلف الاتجاهات عن استعدادهم لخوض انتخابات الرئاسة المقبلة. واذن فان امكانيات تداول السلطة هي امكانيات حقيقية في النظام الفلسطيني في وضعه الراهن، ولا يحتاج الأمر الى دستور جديد.

واذا كان الدستور المقترح سينفذ بعد الاستقلال، كما جاء في تصريحات رئيس لجنة الدستور، الدكتور نبيل شعث، وكان من أحدثها تصريح على احدى الفضائيات العربية يوم 29 ديسمبر 2002، فلماذا هذا الاصرار على اعتماده الان وطرحه على الاستفتاء في هذه الظروف الشاذة وتحت الضغوط من مختلف الجهات؟ لماذا لا ننتظر حتى يتم الانسحاب الاسرائيلي الكامل من الضفة والقطاع ويباشر الشعب الفلسطيني السيادة الفعلية والقانونية الكاملة على الأرض ومن ثم يوضع دستور في أجواء من الحرية بعيدا عن الضغوط والقيود؟ ثم اذا كان المطلوب هو تعيين رئيس للوزراء فان النص عليه في دستور يطبق بعد الاستقلال سيكون عديم الأثر في هذه المرحلة السابقة للاستقلال ولا يحقق الهدف المرجو منه، اذا كان هذا هو الهدف الوحيد من وراء اصدار دستور.

اذن لا يبدو أن هناك مبررا منطقيا أو عمليا لهذا الاصرار على اصداردستور في الظروف الراهنة الا اذا كان وراء هذه الخطوة هدف لا نعرفه، وفي هذه الحالة يجب على القيادة الفلسطينية اعلانه بوضوح ليكون تحت النظر والنقاش ويقتنع المواطنون بضرورة هذه الخطوة.

لقد ظهرت فكرة وضع دستور بعد أن أقر المجلس التشريعي عام 1997 القانون الأساسي للسلطة الوطنية في المرحلة الانتقالية وقدمه للرئيس لاصداره. وتشكلت لجنة لوضع دستور، برئاسة الدكتور نبيل شعث، على أساس أن المرحلة الانتقالية قد انتهت ولم يعد القانون الأساسي مناسبا، مع أن الظروف لم تتغير، بل وأصبحت أكثر سوءا بعودة الاحتلال لمناطق السلطة الوطنية، ومع أن السلطة الوطنية الفلسطينية تمسكت باستمرار بأن اتفاقيات أوسلو ما زالت سارية. على كل حال فقد بدأت اللجنة عملها ووضعت مسودة للدستور وانتهت من ذلك في 29 فبراير عام 2001.

ثم نام الموضوع ولم يعد أحد يتحدث عن الدستور أو يطالب به ولم يعرض على أية جهة تشريعية فلسطينية للنظر فيه واقراره ليكون بديلا للقانون الأساسي كما كان مفترضا.

في هذه الأثناء، وبعد انتهاء اللجنة من عملها بحوالي سنة ونصف، أصدر الرئيس الفلسطيني القانون الأساسي في 9/5/2002، بعد حوالي خمس سنوات من تقديمه اليه، مع أن مسودة الدستور كانت جاهزة وكان بالامكان البدء في اتخاذ خطوات حسب الأصول لاعتمادها. معنى هذا أن مبررات اصدار دستور وعدم اصدار القانون الأساسي لم تكن قائمة حتى 29/5/2002 على الأقل.

وفجأة عاد الاهتمام بالدستور وبدأت المشاورات بشأنه. وفوجئنا باتصال من المفوضية العامة لفلسطين في لندن تخبرنا بأن رئيس لجنة الدستور طلب منها أن تسلمني أنا والقاضي يوجين قطران نسخة من مسودة الدستور استعدادا للقاء معه، حدد موعده ليكون في 22 ديسمبر الماضي. وكانت هذه هي المرة الأولى التي نطلع فيها على المسودة. والتقينا برئيس لجنة الدستور الدكتور نبيل شعث. وعرضنا عليه موقفتا المبدئي من أنه لم يطرأ على الوضع الفلسطيني بعد اصدار القانون الأساسي ما يستدعي وضع دستور، وأن الظروف الراهنة لا تسمح بمناقشة وثيقة بهذه الأهمية بحرية، وعلى أي حال فأن القانون الأساسي يكفي في هذه المرحلة، واذا كان هناك مبرر لاستحداث منصب رئيس للوزراء فان ذلك يمكن أن يتحقق بتعديل القانون الأساسي بحيث ينص على هذا المنصب وتحدد الاختصاصات، من غير الخوض في هذه المرحلة في موضوع دستور جديد، خاصة وأن القانون الأساسي تتوفر فيه جميع العناصر التي يمكن التعرض لها بثقة واطمئنان في هذه المرحلة. ولم نقتنع في الاجتماع بوجود مبررات فلسطينية في هذه المرحلة لاصدار ستور.

ثم ان الخطة المقررة، على مايبدو، هي أن يعرض الدستور للاستفتاء العام داخل فلسطين. ومع أن مبدأ الاستفتاء معمول به، الا أن المهم هو ما سيستفتى عليه. وقد رأينا في الاستفتاءات التي أجراها الرئيس السادات لاقرار معاهدة السلام مع اسرائيل قيودا حتى على حق الاعتراض على تلك المعاهدة وحظر تشكيل أحزاب سياسية تعارضها أويكون من بين مؤسسيها من يعارضها. فهل سيجري الاستفتاء الفلسطيني على نصوص دستورية محضة، قيل لنا أنها كانت قد خضعت لنقاش عام في ندوات وورشات عمل، أم سيضاف اليها أو يرفق بها أو يدخل عليها أمور أخرى تمس الحقوق الفلسطينية الأساسية، دون نقاش علني، ويستفتى عليها وكأنها المسودة التي سبق لها أن نوقشت؟ ثم أن الدستور، على خلاف قانون أساسي لمرحلة ما قبل ممارسة الاستقلال، يهم الفلسطينيين جميعا في الداخل وفي الشتات ويؤثر على أوضاعهم وحقوقهم وواجباتهم الدستورية، ويجب أن يشارك فلسطينيو الشتات مشاركة جدية في وضعه ومناقشته واقراره. وحسبما نعلم فان مسودة الدستور المقترح لم تطرح للنقاش الجدي في أي تجمع من التجمعات الفلسطينية في الشتات، كما أنه لم تطرح للنقاش العلني أية اضافات أو تعديلات ربما تكون قد اقترحتها جهات أخرى على المسودة أثناء عرضها عليها.

هناك أمور مهمة للشعب الفلسطيني كله ينص عليها قي الدساتير ولا يمكن ولا يجوز حسمها الآن في الظروف الراهنة لأنها تحتاج الى الكثير من التروي والتشاور وامعان النظر في أجواء من الحرية. ونضرب على ذلك بعض الأمثلة مما ورد في مسودة الدستور.

نصت المادة 25 على ما يلي: “الجنسية الفلسطينية ثابتة لكل عربي كان يقيم في فلسطين قبل مايو 1948 وتنتقل من الآباء الى الأبناء ولا تزول ولا تسقط بمرور الزمن وينظم القانون طرق اكتسابها والتنازل عنها وحقوق والتزامات المواطن في حال تعددها”. هذا النص يبدو بريئا وعاديا، غير أنه في ظروف الشعب الفلسطيني الراهنة عليه الكثير من المآخذ.

لم يكن موضوع الجنسية خافيا عن أعين الذين وضعوا القانون الأساسي. ولكن نظرا للظروف المتباينة للشعب الفلسطيني التي تفرض تدقيقا كبيرا في وضع النص ومشاورات واسعة جدا في الداخل وفي الشتات، فقد تقرر أن يترك هذا الموضوع الآن ولا يحدد في القانون الأساسي الى أن تتهيأ الظروف المناسبة لتحديده، واكتفي بالنص على أن “الجنسية الفلسطينية تنظم بقانون” (المادة 7 من القانون الأساسي). وقد أثير موضوع الجنسية من قبل وأعدت وزارة العدل مشروع قانون ورد فيه نص قريب من هذا النص، واعترضنا عليه في حينه لأسباب جوهرية قبلتها الجهات المختصة. فأوقف المشروع ولم يصدر قانون حتى الآن بالجنسية الفلسطينية لأسباب موضوعية. ثم تأتي مسودة الدستور بهذا النص دون مراعاة لأوضاع الفلسطينيين المتباينة والتي تتطلب معالجة خاصة لا يكفي فيها الاعتماد على سوابق في دساتير أخرى وضعت لشعوب تختلف أوضاعها اختلافا جذريا عن أوضاع الشعب الفلسطيني.

النص المقترح نص عنصري لأنه لا يعترف بالجنسية الفلسطينية الا “لكل “عربي”. فماذا عن الفلسطينيين الذين هم من أصل غير عربي، كالأرمن مثلا أو السمرة في نابلس الذين عاشوا بيننا قرونا أو اليونان أو اليهود الذين كانوا في فلسطين في ذلك التاريخ وبقوا في الأراضي الخاضعة للسلطة الوطنية في فلسطين؟ هذا النص لا يمنحهم الجنسية الفلسطينية ويحرمهم منها. وماذا سيكون وضع أهلنا داخل اسرائيل؟ ان هذا النص يفرض عليهم الجنسية الفلسطينية فرضا ويقرر أنها لا تسقط ولا تزول، مع أن قرار التقسيم منحهم الجنسية الاسرائيلية، وهم متمسكون بهذه الجنسية بحكم انتمائهم وولائهم أولا وآخرا لأرضهم ووطن الآباء والأجداد، ويطالبون بالمساواة في حقوق المواطنية. كيف ستتصرف اسرائيل معهم؟ وماذا لو جاءت اسرائيل، بعد هذه السابقة الفلسطينية، وعدلت قانون الجنسية بالنص على أن “الجنسية الاسرلئيلية ثابتة لكل يهودي كان يقيم في فلسطين قبل مايو 1948” وحاولت، استنادا الى ذلك وللسابقة الفلسطينية، سحب الجنسية الاسرائيلية من كل عربي فلسطيني يتمتع الآن بالجنسية الاسرائيلية واعتبرتهم، في أحسن الظروف، مقيمين أجانب، فاسرائيل تبحث عن أية طريقة للتضييق على أهلنا في الداخل وحرمانهم من الحقوق. ان نصا كهذا يمكنها من استغلال السابقة الفلسطينية لتحقيق هدفها، ولا يجوز لنا اتباع سياسة تستطيع استغلالها للوصول الى هذا الهدف. وكذلك ماذا سيكون وضع اللاجئين حاملي بطاقات اللجوء في البلدان التي أصدرت لهم وثائق لاجئين؟ ان هذا النص يتيح لمن يريد التخلص من اللاجئين فرصة معاملتهم كأجانب يخضعون لشروط الاقامة والابعاد ولكل القيود التي تفرض على الاجانب. والى أين سيبعدون في هذه الحالة اذا تقرر ابعاد أي واحد منهم؟ هل يستطيعون العودة الى الأراضي الفلسطينية في الوقت الحاضر على الأقل على أساس أنهم مواطنون بموجب هذا النص؟ ماذا سيكون وضع الفلسطينيين الذين اكتسبوا جنسية دولة عربية لا تجيز قوانينها الجمع بين جنسية عربية وأخرى عربية؟ ان هذا النص في الظروف الراهنة يخلق الكثير من المشاكل التي يبدو أنها لم تكن موضع نظر وتحليل أو أهملت أو قلل من شأنها. الموضوع دقيق وخطير. لقد كنا نفضل ألا نخوض في هذا الموضوع، غير أن مسودة الدستور المقترح قد نشرت بهذا النص وأصبحت في متناول الجميع، العدو والصديق.

وتكررت النظرة العنصرية في مواد أخرى عديدة من المسودة دون أن يخطر بالبال أنها نصوص تنطوي على عنصرية واضحة وأن التمييز على أساس الجنس أو العرق أو الدين أو اللون تحظره المواثيق الدولية وتراقب تطبيقها لجان متخصصة أنشئت بموجب هذه المواثيق. لقد هاجمنا العنصرية الصهيونية والاسرائيلية طوال هذه السنوات، واذا بالمسودة تكرس النظرة العنصرية وتأتي هذه النصوص لتخلق سوابق لن تتوانى اسرائيل في استغلالها ضد المواطنين الفلسطينيين وضد الشعب الفلسطيني ككل. لقد تكررت في المسودة عبارة “الشعب “العربي” الفلسطيني”. واذا كان هذا التعبير يستعمل في المواقف السياسية، فلا محل له في نصوص دستورية قانونية لأنه يستبعد المواطنين الفلسطينيين من غير العرب ويعتدي على ما يجب لهم من حقوق دستورية وقانونية. فمثلا المادة الأولى من المسودة تنص على “يقوم هذا الدستور على ارادة الشعب العربي الفلسطيني ويقر بالطريقة الديموقراطية”. ومعنى هذا أن الدستور لا يقوم على ارادة الفلسطينيين من غير العرب. لا محل لهم ولا اعتبار. ويستفاد من نص المادة الثانية من المسودة أن غير العرب من الفلسطينيين لا يؤمنون “بمبادئ العدل والحرية والمساواة والكرامة الانسانية و[حق الشعب الفلسطيني] في ممارسة السيادة على أرضه وتقرير المصير” حيث أن هذه المادة نصت على أن الشعب “العربي” الفلسطيني يؤمن بهذه المبادئ، وكأن الفلسطينيين من غير العرب لا يؤمنون بها. والمادة 10 تنص على أن “السيادة للشعب “العربي” الفلسطيني” ومعنى هذا أن الفلسطينيين غير العرب لا يشاركون في هذه السيادة وبالتالي ليس لهم الحق في ممارستها، فلا يكون لهم الحق في الاشتراك في الانتخابات او الاستفتاءات مثلا. وغير العربي من الفلسطينيين لا يدخل في الشخصية القانونية التي تجسدها الدولة (المادة 13) التي نصت على أن “الشخصية القانونية للشعب “العربي” الفلسطيني تجسدها الدولة وهي رمز الوحدة الوطنية”. غير العربي من المواطنين غريب على هذا كله فلا تجسده الدولة ولا يدخل في الوحدة الوطنية. الدولة المعاصرة هي لجميع مواطنيها لا تمييز بينهم على أساس العرق أو الجنس أو الدين أو اللغة أو غير ذلك من الاعتبارات. ترى ماذا يكون عليه الحال لو أن اسرائيل سارت على هذا المنهج ووضعت في دستورها أو قوانينها الدستورية نصوصا مماثلة تركز على “الشعب اليهودي الاسرائيلي”. ماذا ستكون النتيجة بالنسبة لأهلنا في اسرائيل؟

ولنأخذ مثلا من نوع آخر آخر للتدليل على عدم التروي عند وضع النصوص. تنص المادة 177 من مسودة الدستور على ما يلي :”تصدر الأحكام القضائية وفقا للقانون، وتعلن وتنفذ باسم الله وباسم الشعب”. لقد زج النص باسم المولى عز وجل في هذه المادة، فأصبح القضاة نوابه تعالى في الأرض يعلنون أحكامهم باسمه، وأصبح الشرطي والمحضر الذي ينفذ الحكم ينفذه باسم الله. وأصبح الحكم الخاطئ الذي يصدره بشرحكما يعلن وينفذ باسمه تعالى ولا يجوز الاعتراض عليه، مع أن الأحكام تستأنف وتلغى وتنقض، فهل يعلن القاضي كل ذلك باسم الله؟ هل كان يجرؤ قاض في تاريخ الاسلام كله أن يدعي أنه يحكم باسم الله وينفذ الحكم باسمه؟ القضاة في الشريعة يستمدون سلطتهم في القضاء من الخليفة ويحكمون باسمه وباسمه فقط، فمن أين جاءت نظرية نيابة القاضي والشرطي والمحضر عن الله جل جلاله؟.

هذه أمثلة فقط، وما أكثر غيرها مما لا مجال له في مقال في جريدة. ومن رأينا أنه اذا كان ولا بد، لأسباب فلسطينية محضة لا نعرفها، من اصدار دستور فان المسودة الحالية عليها الكثير من المآخذ، ولا يجوز لدستور أحدث دولة في العالم أن يكون بهذا الشكل، مهما حسنت نوايا واضعيه. . نحن نعلم أن هذه المسودة عرضت على غير فلسطينيين لابداء الرأي، ووقيل لنا أن بعضهم قد أثنى عليها. ولكن الى أي مدى دقق هؤلاء في النصوص ولم يجاملوا، أو أدركوا ما فيها من سوابق تفيد اسرائيل وتعقد الوضع الفلسطيني وسكتوا عنها؟ الى أي مدى أخذوا في الاعتبار الأوضاع الفلسطينية الخاصة وهم يراجعون هذه المسودة؟

اننا ما زلنا عند موقفنا المبدئي وهو أنه لا ضرورة الآن لاصدار دستور جديد، وأن القانون ألأساسي يكفي في هذه المرحلة. واذا كان هناك حاجة لتعديل بعض نصوصه فليكن، أما المسودة الحالية فليس الوقت مناسبا لوضع دستور كماأن فيها الكثير مما يحتاج الى اعادة نظر وتدقيق وتعديل، وهذا التسارع في اقرارها لا يتيح فرصا جدية للمراجعة، فضلا عن أن بعض القضايا المهمة التي تتعرض لها الدساتير عادة لا يجوز الآن البت فيها في هذه الظروف الشاذة التي يعيشها شعبنا، أوبهذه الطريقة التي عالجتها بها المسودة للدستور.

هل تم اتفاق على حل نهائي للقضية

هل تم اتفاق على حل نهائي للقضية الفلسطينية؟

مقدمة

1 – نرجو ألا يسيء أحد فهم توقيت نشر هذا المقال. فكما يتضح مما يلي في هذه المقدمة، فان الموضوع لا ارتباط بينه على الاطلاق وبين الاحداث المؤلمة التي وقعت في غزة، وأنه كان مطروحا للبحث والتدقيق قبل تلك الاحداث. فقد أشرت اليه بمنتهى الصراحة في مقال نشرته القدس العربي في العاشر من مايو 2007، أي قبل أحداث غزة بأكثر من شهر كامل، وأحجمت عن التعليق عليه في انتظار نفيه أو تأكيده من ذوي الشأن تجنباً للتسرع نظرا لأهميته التي أشرت اليها أيضا في ذلك المقال. وانتظرت أن يصدر نفي أو تأكيد طوال هذه المدة. ولكن شيئا من ذلك لم يحدث. والموضوع يتجاوز في أهميته أحداث غزة، ويتجاوز الخلافات التي تقع بين الحين والآخر بين الحركات والمنظمات، ويتجاوز الحركات والمنظمات جميعاً لأنه يمس صميم القضية الفلسطينية التي تهم كل فلسطيني، ولا يصح أبداً اغفاله أو اهماله بسبب ظروف طارئة، مهما كانت. فمصير الخلاف بين فتح وحماس هو الحل بالحوار. ولكن القضية تبقى، ويبقى واجب حمايتها، سواء كانتا هما أو غيرهما من التنظيمات في حالة خلاف أو وفاق. ، ويقيني أن هذا هو موقف الحركات الفلسطينية جميعا. والكل يعلم، خاصة من مواقفي في المجلس الوطني الفلسطيني، أنني لا أنتمي الى أي تنظيم أو حركة، وأنني لا أناصر فريقاً على فريق، وانتمائي الوحيد هو لقضية الوطن. وعلى هذا فانني أرجو ألا يُنظر الى هذا المقال نظرة ضيقة أو أن توقيت نشره يعبر عن موقف من الفريقين المختلفين. فالطروحات الاسرائيلية التي يتعرض لها هذا المقال، وما زعمته الصحافة الاسرائيلية من موافقة الجانب الفلسطيني عليها، قد يشجع اسرائيل على المضي في نهجه في أي وقت من الاوقات استغلالا للظروف الراهنة، وقد يقع المفاوض الفلسطيني في شباك ما تنطوي عليه هذه الطروحات من خدع ومناورات، بغض النظر ‘عن من يكون هذا المفاوض الفلسطيني. ولذا فاننا نرجو أن ينظر الى هذا المقال فقط من زاوية واحدة وهي التنبيه الموضوعي لمخاطر تحيط بالقضية من تطور المناورات الاسرائيلية سواء صح الخبر موضوع هذا المقال، أو لم يصح.

2 – نشرت القدس العربي في عددها الصادر في 24 ابريل 2007 صفحة 5 خبرا تحت عنوان “عباس ونائب وزير الأمن الاسرائيلي أعدا سرًا اتفاقا لحل النزاع الفلسطيني الاسرائيلي يضمن يهودية اسرائيل” وذلك نقلا عن صحيفة معاريف الاسرائيلية في عددها الصادر في 23 أبريل 2007. ووفقا لما جاء في ذلك الخبر فان الصحيفة الاسرائيلية كشفت النقاب عن “وجود اتفاق للحل النهائي للنزاع الفلسطيني الاسرائيلي وقعها (وقعه) كل من رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية محمود عباس (أبو مازن) ونائب وزير الأمن الاسرائيلي أفراييم سنيه”. وقال الصحافي الاسرائيلي، الذي ذكر انه “حصل على نسخة من الاتفاق بين الطرفين” ، “إن الرئيس عباس وافق على الطرح القائل إن دولة اسرائيل هي دولة الشعب اليهودي، ولا يجوز في أي حال من الأحوال التنازل عن هذا التعريف، الأمر الذي يعني بصورة مباشرة أن عباس تنازل عن حق عودة اللاجئين الفلسطينيين الذين شردوا في نكبة العام 1948”. وجاء في الخبر أن الصحافي الاسرائيلي “شدد على أن الاتفاق كان جاهزا وحاضرا للنقاش فيه، ولكن الانتخابات التشريعية الفلسطينية وفشل حركة فتح وصعود حركة حماس الى السلطة بعد الانتخابات أفشل المخطط بين سنيه وعباس ودفعهما الى تأجيل النظر فيه”. وبحسب الصحيفة الاسرائيلية فان المفاوضات بدأت عام 2005 بين سنيه وعدد من مستشاري عباس، وبعد الانتهاء من اعداد مسودة الاتفاق قام الطرفان بتسليمه الى أحد أبناء محمود عباس الذي قام بدوره بتسليمه لوالده. وبعد ذلك قام سنيه بالسفر شخصيا الى مقر عباس في المقاطعة حيث اتفق على أن يقوم رئيس السلطة بارسال مندوب رسمي عنه الى المحادثات. ويقول الخبر إن أحد كبار قادة فتح قد وصل الى اللقاءات بايعاز من أبو مازن وقضى مع سنيه ثلاثة أيام متواصلة وتمكن الاثنان من التوصل الى الصيغة النهائية التي عرضت على عباس وأعلن موافقته عليها. “ولكن الاتفاق لم يخرج الى حيز التنفيذ كما خطط عباس وسنيه بسبب خسارة فتح في الانتخابات”.

3– ومع الأسف فإن الصحفي الاسرائيلي لم ينشر النص الكامل للاتفاق الذي تحدث عنه، واكتفى بالاشارة الى بعض ما ورد فيه. ففضلا عن الاعتراف بأن اسرائيل هي دولة الشعب اليهودي، وأنه لا يجوز بأي حال من الأحوال التنازل عن هذا التعريف، فقد جاء فيه، حسبما ذكره الصحافي الاسرائيلي، “أن الوطن التاريخي للشعبين الاسرائيلي والفلسطيني يقع بين نهر الاردن وبين البحر الأبيض المتوسط، وأن حل النزاع القائم بينهما يحتم عليهما تقسيم الأرض بينهما، وأن الحدود بين الدولة العبرية وبين الدولة الفلسطينية العتيدة يجب أن يكون على أساس الوضع الذي كان قائما قبل عدوان حزيران (يونيو) من العام 1967. ولكن مع ذلك، “أكد الاتفاق” والكلام للصحافي الاسرائيلي،” أنه لا محال بأن تقوم اسرائيل والفلسطينيون بعملية تبادل أراضٍ، بحيث أن الاراضي التي ستضم الى الدولة العبرية في الضفة الغربية المحتلة، تحتم على اسرائيل دفع التعويضات عنها للفلسطينيين. أما بالنسبة للقدس فقد جاء في الاتفاق “مدينة القدس بشطريها الغربي والشرقي مدينة سلام، بحيث تكون عاصمة لاسرائيل وأيضا عاصمة للدولة الفلسطينية، وأن السيطرة السياسية على الاحياء المختلفة تكون وفق تركيبة السكان”.

4 – هذا ما نشرته القدس العربي نقلا عن صحيفة معاريف الاسرائيلية. وقد اطلعنا على هذا الخبر ونحن نعد مقالا عن أزمة المبادرة العربية، وهو مقال تكرمت القدس العربي بنشره في العاشر من مايو 2007 ، واشرنا فيه الى هذا الخبر. ونظرا لخطورته، فقد قلنا اننا نحجم عن التعليق عليه الى أن يصدر نفي أو تأكيد له من جانب الرئاسة الفلسطينية. وحيث أنه لم يصلنا نفي أو تأكيد كما لم يصدر بيان رسمي في هذا الخصوص، فاننا في هذا المقال نفي بما وعدنا به، حيث أنه يجب ألا يمر خبر كهذا وكأنه خبر عادي نقرؤه ثم ننساه، ذلك ان ما جاء فيه يجب أن يكون محل نظر كل فلسطيني لأنه يعبر عن موقف اسرائيلي طُرِحَ أو سيطرح على الجانب الفلسطيني في مفاوضات سرية شبيهة بتلك التي انتجت اعلان مبادئ اوسلو وما تلاه من اتفاقيات، واذا كان الاتفاق قد حصل فعلا فانه يعبر عن استسلام كامل للطروحات الاسرائيلية والصهيونية ومنحها الشرعية الفلسطينية التي طالما حرصت على الفوز بها. ليس هذا فحسب بل انه يضفي الشرعية الفلسطينية على وعد بلفور وقرار التقسيم وما أحدثته اسرائيل من تغييرات وانتهاكات للشرعية الدولية منذ قيامها وفي مستقبل الايام، ويجعل من النضال الفلسطيني طوال قرن كامل ويزيد نضالا عبثيا لم يكن له أي مبرر حقيقي. بالاضافة الى هذا ، فان الاتفاق، اذا كان فعلا قد حصل، يؤكد لاسرائيل مدى التنازلات التي تكون القيادة الفلسطينية الحالية على استعداد لتقديمها للوصول الى ما يسمى بالحل النهائي، وهو اتفاق تستطيع اسرائيل أن تشرعه في وجه المبادرة العربية لاسقاطها. اننا نرجو مخلصين ألا يكون اتفاق من هذا القبيل قد حصل، وأن ما نشرته الصحيفة الاسرائيلية لا يعدو أن يكون مناورة اسرائيلية لجس نبض القيادة الفلسطينية والشارع الفلسطيني. وسواء حصل الاتفاق أو لم يحصل فان الواجب يفرض على كل فلسطيني وعربي أن يدقق فيه، ولو للتعرف على ما يدور في أفكار الجانب الاسرائيلي..

الاطار الموضوعي لما اصطلح على تسميته بالحل النهائي

5 – قبل الدخول في تفاصيل النقاط التي زعمت الصحيفة الاسرائيلية أنها كانت محل اتفاق، لا بد من تحديد الاطار الموضوعي للمفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية في هذه المرحلة. هذا التحديد له أهميته، لأنه هو الذي يحكم جدول الاعمال الذي على الجميع الالتزام به. ولهذا السبب نجد أن المتفاوضين يصرفون وقتا طويلا في تحديد جدول الاعمال، أي تحديد الموضوعات التي سيتفاوضون بشأنها. وهو أمر مهم بوجه خاص في التفاوض مع اسرائيل التي تسعى دائما لازاحة المفاوضات عن هدفها و/أو الزج بموضوعات تحرص هي على اقتناص الفرصة لتحقيق مكاسب معينة. الموضوع الاساسي للمفاوضات هو، ويجب أن يبقى، تطبيق الشرعية الدولية على الوضع القائم، بحيث تتم ازالة ما هو غير شرعي وفقا لمرجعية قانونية محددة خارجة عن اطار التفاوض. وقد تكفلت محكمة العدل الدولية بتحديد هذه المرجعية في فتواها التي أصدرتها بشأن الجدار الفاصل. وهذه المرجعية، وفقا لفتوى المحكمة، هي مبادئ القانون الدولي التي أعلنتها في نفس الفتوى. الوضع القائم هو احتلالٌ غير شرعي وممارسات من قبل الدولة المحتلة واجراءات اتخذتها كلها غير شرعية ويجب أن تزال، وحقوقٌ للشعب الفلسطيني يجب أن تُحترم. .ومبادئ الشرعية الدولية الواجبة التطبيق لا محل للاجتهاد فيها من أحد بعد فتوى محكمة العدل الدولية واعتماد تلك الفتوى من الغالبية الساحقة للجمعية العامة للامم المتحدة، بما في ذلك جميع دول الاتحاد الاوروبي وروسيا والصين، باسثناء أمريكا واسرائيل وثلاث دول هامشية لا وزن لها في المجتمع الدولي. ومعنى هذا أن المجتمع الدولي والامم المتحدة أصبحا ملزمين بمفهوم محدد لمبادئ القانون الدولي الذي يجب أن تتم التسوية للنزاع الحالي على أساسه. وعلى المفاوض الفلسطيني أو العربي أن يكون متفهما لها تفهما كاملا وملتزما بها، وأن لا يوافق على ما قد يسبغ الشرعية على ما هو غير شرعي، أو أن ينقاد موضوع المفاوضات الى نقاط لا شأن لها بتطبيق هذه المبادئ.

6 – وهذه المبادئ التي أشارت اليها المحكمة واعتمدتها الجمعية العامة هي التي سبق وأن اعتمدها وطبقها مجلس الأمن والجمعية العامة بشأن ما جد نتيجة لحرب عام 1967، فضلا عن قرار الجمعية العامة الخاص بعودة اللاجئين، حيث أن هذه القضية بقيت عالقة حتى الآن. ووفقا لهذه القرارات والمبادئ التي أعلنتها محكمة العدل الدولية فان عناصر الحل تتمثل في انهاء الاحتلال، حيث أن احتلال أراضي الغير بالقوة، عمل يخالف القانون الدولي، وازالة ما ترتب عليه من آثار لكونه عملا غير مشروع. ويعني هذا، في رأي محكمة العدل الدولية، العودة الى حدود هدنة عام 1949. ويدخل في ذلك الانسحاب الكامل من القدس الشرقية. وهذا هو التفسير القانوني الملزم للقرار رقم 242 الذي تحدث عن الانسحاب من “اراض محتلة” حسب النص الانكليزي أو “الأراضي المحتلة” حسب نص القرار باللغة الفرنسية. فالمحكمة قضت بأن الاراضي المحتلة تشمل كل ما تم احتلاله عام 1967 خارج حدود هدنة 1949. فالتفاوض اذن يجري حول الترتيبات العملية للانسحاب الى تلك الحدود، وليس التفاوض حول الحدود أو تبادل الاراضي أو الموافقة على ما خلقته اسرائيل على الارض من واقع بالمخالفة لمبادئ القانون الدولي، أو فرض قيود على السيادة الفلسطينية على أراضيها أو تصرفاتها لأي حجة كانت، مثل ادعاءات ضروريات أمنية لاسرائيل تترك دولة فلسطين تحت احتلال جديد يحد من سيادتها، ولكن بموافقتها هذه المرة.

7 – وقرر مجلس الأمن والمحكمة كذلك (بما فيها القاضي الامريكي الذي تحفظ على أمر اجرائي) أن المستوطنات غير شرعية. أي أنه لا توجد مستوطنات شرعية يجب أن تبقى وأخرى غير شرعية يجب أن تزال. المستوطنات كلها، ثابتها ومتنقلها، صغيرها وكبيرها، غير شرعية ويجب أن تزال، ولا قيمة للتفرقة الاسرائيلية بين مستوطنات “شرعية” أي أقرتها الحكومة الاسرائيلية، وأخرى عشوائية أقامها المستوطنون. فالذي يطبق على الشرعية هو القانون الدولي وليس القانون الاسرائيلي. ولذا فإن المفاوضات بشأن المستوطنات تنحصر فقط في اعطاء الفرصة الزمنية لرحيل المستوطنين. وفي أثناء هذه الفترة الزمنية يكون المستوطنون والمستوطنات تحت السيادة الفلسطينية.

8 – وأما بخصوص القدس، ففضلا عن أن ضمها والاستيطان فيها مخالفان للقانون الدولي من حيث المبدأ، وأنها تدخل ضمن حدود عام 1967 بوصفها أرضا محتلة يجب الانسحاب منها، فان مجلس الأمن قد اتخذ قرارت اضافية خاصة بها أعلن فيها عدم شرعية ضمها، وطالب اسرائيل بالغاء كل ما اتخذته من اجراءات أو تشريعات لتغيير الوضع القانوني للمدينة أو تغيير البنية السكانية فيها. جميع هذه الاجراءات والتشريعات تعتبر مخالفة للقانون الدولي ولقرارات مجلس الأمن وفتوى محكمة العدل الدولية. ومؤدى هذا ليس فقط عودة القدس الشرقية بكاملها وانما الغاء جميع التصرفات التي قامت بها اسرائيل من نقلٍ للسكان الفلسطينيين أو توطينٍ لاسرائيليين أو استيلاءٍ على أراض، أو محاولةِ منح حقوق دائمة فيها للمحتل أو لمواطنيه. ويكون من حق الدولة الفلسطينية ازالة ما أحدثه الاحتلال من تغييرات أو منشآت لأنها كلها غير شرعية.

9 – وبشأن عودة اللاجئين فان القرار رقم 194 واضح في حق اللاجئين في العودة الى بيوتهم واراضيهم، اينما كانت، والتعويض عما أصابهم من ضرر بسبب حرمانهم من ممارسة هذا الحق والاستفادة من ممتلكاتهم طوال هذه الفترة، أو تعويض من لا يرغب في العودة عن أملاكه وعن الضرر الذي لحق به حتى يوم قراره.

10 – وبطبيعة الحال فقد ترتبت على الاحتلال وما أرتكبه من انتهاكات للقانون الدولي والقانون الدولي الانساني اضرار كثيرة لحقت بابناء الشعب الفلسطيني وبالكيان الفلسطيني، وهذه يجب أن تكون محل تفاوض أو تحكيم دولي للحصول على تعويضات عنها لأنها كلها أفعال غير مشروعة، وهذا المبدأ أقرته محكمة العدل الدولية عندما ألزمت اسرائيل بالتعويض عن الاضرار التي ترتبت على بناء الجدار غير الشرعي، وبدأت الامم المتحدة في اعداد ملف خاص بهذه الاضرار تنفيذا لفتوى المحكمة.

11 – هذا هو اطار المفاوضات. وواضح منه أنه لا محل لفرض طرف على الطرف الآخر بحث موضوع خارج عن هذا الاطار. ونلاحظ أن قرارات مجلس الأمن ذاتها التي عالجت القضية وقرارات الجمعية العامة وفتوى محكمة العدل الدولية لم تشر لا من قريب ولا من بعيد لموضوع اعتراف متبادل مثلا، فالاعتراف حق من حقوق السيادة تمارسه كل دولة وفقا لتقديرها وليس في القانون الدولي ما يلزم دولة بأن تعترف بدولة أخرى أو بحقها في الوجود مثلا أو بالتسمية التي تريد أن تطلقها على نفسها، وانما أشارت فقط الى حدود آمنة ومعترف بها. وهذا يتحقق بانهاء الاحتلال الذي هو السبب في الازمة القائمة حاليا، كما لا يشترط لقيام السلام اعترافات متبادلة أو تطبيع كامل. والسوابق الدولية في هذا الشأن كثيرة، ولذا فان مجلس الأمن تجنب الاشارة اليها في القرار رقم 242.

12 – وثمة مسألة كثيرا ما تغيب عن الاذهان، وهي أن أي اتفاق يبرمه الفلسطينيون في الظروف الراهنة لا يكون ملزما لهم في المستقبل ويستطيعون التنصل منه وفقا للقانون الدولي، ولذا فان أي اتفاق جائر لن يحقق الأمن والسلام لأحد. والسبب في ذلك أنه سيكون اتفاقا تم تحت الاكراه وفي ظل ظروف احتلال قاسية جدا تفقد المفاوض الفلسطيني حرية الارادة لابرام اتفاق تتوفر فيه عناصر الالزام، والاكراه هذا قائم بشكل خطير، بسبب الاحتلال وممارساته والتواطؤ معه. وهذه وسائل اكراه يعاني منها الفلسطينيون يوميا بحيث لا يمكن الادعاء بأن أي اتفاق يبرمونه قد تم بارادتهم الحرة. ولهذا اذا أريد ابرام اتفاق يكون له حظ من الدوام فلا بد أولا من ازالة جميع هذه العناصر قبل أن يتم أي اتفاق. والاحتلال في حد ذاته هو السبب المنتج لكل هذه العناصر، يضاف اليه الاستجابة التلقائية تقريبا لكل ما يخطط له الاحتلال. المطلوب هو انهاء الاحتلال أولا وقبل كل شيء. وتجدر الاشارة الى أن انهاء الاحتلال يجب ألا يكون مقيدا بأية شروط، وهذا ما حصل في جميع الحالات. تحررت المستعمرات دون شروط مسبقة، مثل الاعتراف بالدولة المستعمرة أو بحفها في الوجود أو بفرض قيود على الدولة الجديدة تحد من سيادتها. وأصبحت الدول الجديدة عضوا في المجتمع الدولي تمارس من السيادة ما تمارسه الدول الأخرى وتخضع للقانون الدولي شأنها شأن الدول الاخرى.

13 – ننتقل بعد هذا للنظر في النقاط التي زُعِمَ أن الاتفاق قد تم عليها، ونعتمد في هذا على ما أوردته الصحيفة الاسرائيلية، علما بأن الصحيفة لم تنشر الاتفاق بكامله، مع أن الصحفي الذي تحدث عنه أشار الى أن لديه نسخة منه. ولهذا فانه ليس بالامكان التعليق على كل ما جاء في الاتفاق لعدم نشره. ولكن مما تجدر ملاحظته أن الصحفي الاسرائيلي ربما تعمد الاشارة فقط الى النقاط التي اعتبرها ذات أهمية خاصة بالنسبة للاسرائيليين. ولكن قبل أن ندخل في التحليل، لا بد من الاشارة الى أنه نخشى أن يكون هذا الاتفاق هو اتفاق مبادئ كاتفاق اوسلو، حيث أن الامور التي أشار اليها يبدو عليها تعمد الابهام والعمومية بحيث تحتاج الى اتفاقيات لاحقة لتفسيرها، وفي هذه الاثناء يتسلح المفاوض الاسرائيلي بعبادئ هي حتما في صالحه، ويستمر في ممارساته تماما كما حصل بعد اتفاق مبادئ أوسلو. أي أن الاتفاق هذا لن يكون حلا نهائيا وانما هو خطوة أحرى، ولكنها بالغة الخطورة، في تنفيذ المخططات الصهيونية، ونخشى كذلك أن يكون هذا الاتفاق هو الذي سيتم نتيجة لما يسمى بنحريك عملية السلام، فينتهي هذا التحريك باعتماده ومواجهة الشعب الفلسطيني به في غياب مؤسسات فاعلة لمنظمة التحرير الفلسطينية تعكس الوضع الراهن للنضال الفلسطيني وتقوده.

يهودية اسرائيل

14 – قال الصحفي الاسرائيلي “ان الرئيس عباس وافق على الطرح القائل ان دولة اسرائيل هي دولة الشعب اليهودي، ولا يجوز في أي حال من الاحوال التنازل عن هذا التعريف” مضيفا “الأمر الذي يعني بصورة مباشرة أن عباس تنازل عن حق عودة اللاجئين الفلسطينيين الذين شردوا في نكبة عام 1948”.

15 – وأول ما يلاحظ على هذا الطرح أنه لا شأن له بقضية الاحتلال وانهائه، وانه ليس فقط التفافاً على حق العودة، كما قال الصحفي الاسرائيلي. والواقع أن رئيس السلطة الفلسطينية قد استدرج، على ما يبدو، لاستعمال عبارات مشابهة في مناسبات رسمية سابقة لفتت الانظار في حينها. أما ورود عبارات كهذه في وثيقة رسمية فأمر له خطورته، وأولها تقرير واقعي والتزام فلسطيني أبدي بهذا الطرح الاسرائيلي. فاسرائيل قامت في أرض فلسطينية، وليس في فراغ لا أهل له. فهو لا يقضي فقط على حق العودة الذي أشار اليه الصحفي الاسرائيلي، بل يشكك على الأقل في شرعية الوجود الفلسطيني على مدى التاريخ في أرض فلسطين، وبالتالي فان وجود ما يقارب من مليون من ابناء الشعب الفلسطيني في ذلك الجزء من وطنهم الذي اصبح يُعرَفُ باسرائيل هو وجود غير شرعي. هؤلاء ليسوا جزءاً من الشعب اليهودي، مهما كان تعريفه، ولا تعترف لهم اسرائيل بهذه الصفة، وانما هم مواطنون اسرائيليون يناضلون من أجل الحصول على الحقوق الكاملة للمواطنة.، وهو موضوع قيد البحث في الدوائر الرسمية الاسرائيلية. والموافقة على نص من هذا القبيل تعني الموافقةَ على التمييز ضدهم واعطاء غطاء الشرعية الفلسطينية لهذا التمييز، ويدعم موقف دعاته . ليس هذا فحسب، اذ أن الصهيونية تقوم أساساً على الحصرية العنصرية التي لا تقبل الآخرين، ونص كهذا يتجاوز وعد بلفور وقرار التقسيم. فوعد بلفور حافظ على الأقل على بعض حقوق “غير اليهود” في الوطن القومي لليهود، وقرار التقسيم انشأ دولة “يهودية” يتساوى عدد السكان فيها تقريبا بين اليهود والفلسطينيين ويحفظ حقوق مواطني هذه الدولة بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو العرقية. كما أن نصا كهذا يدعم الموقف الحصري العنصري للصهيونية ويوفر لها ركيزة لاقتلاع الفلسطينيين من أرضهم، تماما كما حصل في الماضي، مع الفارق بأنه سيكون هذه المرة بموافقة ممثلي الشعب الفلسطيني. ولا نريد أن ندخل في نقاش حول تعريف الشعب اليهودي، ويكفي أن نقول إن الذي يجمع اليهود هو الديانة، والا ما الذي يجعل من المغني الامريكي الأسود (سامي ديفيز جونيور) أو المغنية مادونا أو يهود أوروبا الشرقية يهودا غير اعتناقهم الديانة اليهودية؟ والموافقة على هذا النص تعني الموافقة على أن الدولة ليست دولة دينية فحسب وانما هي لاتباع ذلك الدين أينما وجدوا. وهذا لا يجوز اصلا. وعندما يقترن هذا بما جاء في الاتفاق من أن فلسطين من النهر الى البحر هي وطن تاريخي للشعب اليهودي، فان ما تستطيع اسرائيل احتلاله يصبح بذلك وبموافقة الفلسطينيين وطنا ابديا وعلى سبيل الحصر للشعب اليهودي.

فلسطين وطن تاريخي للشعبين

16 – قال الصحفي الاسرائيلي انه جاء في الوثيقة ” إن الوطن التاريخي للشعبين الاسرائيلي والفلسطيني يقع بين نهر الاردن وبين البحر الأبيض المتوسط”. وهذا اعتراف بما تدعيه الحركة الصهيونية من حق تاريخي في فلسطين كلها، يتساوى مع الحق التاريخي لشعبها، سكانها الاصليين الذين تمتد جذورهم في أعماق التاريخ ولم ينقطع بقاؤهم فيها. في اتفاقية أوسلو كانت الاراضي الفلسطينية “أرضا متنازعاً عليها”، واذا بها في هذا الاتفاق الجديد تحل هذا التنازع بالاعتراف بأنها وطن تاريخي للاسرائيليين. هكذا ينتهى التنازع عليها باقرار من الجانب الفلسطيني بالمقولة الصهيونية التي لا تقوم على اساس، بالرغم من المحاولات الصهيونية لاعتمادها أساسا لشرعية وجود اسرائيل. أنهم يعرفون أن جميع الحفريات التي جرت في فلسطين في القرنين التاسع عشر والعشرين وكذلك تلك التي تمت في عهد الاحتلال الاسرائيلي لم تعثر على أثر واحد يؤيد هذا الزعم، بل إن اساتذة علم الآثار في جامعة تل أبيب يشكون في كل شيء حتى وجود داوود وسليمان. والهيكل الذي يدعون لم يعثروا على أي أثر يدل عليه، مع أن آثار بالضخامة التي يصورونها للهيكل لم تندثر اندثارا كاملا في أي مكان في العالم. وحاول بعضهم التزوير فاكتشف تزويره، وأذاعت فضائية الجزيرة فلما وثائقيا عن محاولات التزوير هذه من انتاج ال بي.بي.سي. فيما أذكر، وأرجو من الفضائية أن تكرر اذاعته. التاريخ اليهودي في فلسطين كله من صنعهم ولم ينهض عليه دليل في الحفريات بالرغم من كل ما بذل من جهود. ليس هذا فحسب بل إن هذا التاريخ الذي كتبوه بأنفسهم يدل بوضوح على أنهم جاؤوا غازين محتلين وليسوا من ابناء الوطن. ولا أحد الآن يقرهم على التاريخ الذي كتبوه. ولا ندري كيف أصبحت فلسطين من النهر الى البحر الوطن التاريخي ليهود أوروبا الشرقية مثلا من الخزر الذين اعتنقوا الديانة اليهودية أو للمغني والمغنية سامي دايفيز جونيور ومادونا. واذا كان التفسير هو الاشتراك في الديانة الواحدة، فمؤدى ذلك أن فلسطين هي الوطن “التاريخي” لبلايين البشر الذين يعتنقون المسيحية والاسلام واليهودية. وإنه لمن المغالطات أن يوضع الشعبان الفلسطيني والاسرائيلي في وضع متساو، والهدف من ذلك هو الاشعار بعدم التحيز، أو أنه يمثل تنازلا كريما من الجانب الاسرائيلي، في حين أن هدفه الأساسي هو تسجيل اعتراف رسمي فلسطيني بما تزعمه الحركة الصهيونية من أن فلسطين هي الوطن التاريخي لليهود، حيث أنه لا ينازع أحد في أن فلسطين هي الوطن التاريخي للفلسطينيين. ووراء هذا التعريف هدف آخر وهو اضفاء الشرعية ليس فقط على وجود اسرائيل بل وأيضا على الاحتلال الاسرائيلي وممارساته. فالشعب لا يعتبر “محتلا” في وطنه التاريخي، فوجوده فيه هو الوضع الطبيعي. وكذلك فان المستوطنات تصبح شرعية، لأن من حق الانسان أن يقيم في أي مكان في وطنه، واذا دخل أرضا غير أرضه وبنى فيها فان الذي يطبق عليه هو القانون المدني العادي وليس القانون الدولي والقانون الدولي الانساني وقرارت الامم المتحدة . وهذا التصوير للوضع يستبعد تماما تطبيق هذين القانونين وتلك القرارات. هذه مناورات على الشرعية وعلى التاريخ لا يمكن القبول بها بأي حال من الأحوال.

حل الدولتين

17 – وتمضي الوثيقة الى القول بأن “حل النزاع القائم بينهما (أي بين الشعبين الفلسطيني والاسرائيلي) يحتم تقسيم الأرض بينهما، وأن الحدود بين الدولة العبرية وبين الدولة الفلسطينية العتيدة يجب أن تكون على أساس الوضع الذي كان قائما قبل عدوان حزيران (يونيو) من العام 1967”.اذا كانت فلسطين وطنا تاريخيا للشعبين فلماذا تقسم؟ ولماذا “يجب” أن تكون الحدود هي التي كانت قائمة قبل عدوان حزيران 1967؟ هذه قسمة جائرة لا يرضى بها شريك في الوطن. فالشريك الفلسطيني سيحصل على أقل من عشرين في المائة، بينما يبقى الشركاء الذين أرغموا على مغادرة وطنهم التاريخي، وهم اللاجئون، بفعل الشريك الآخر محرومين وحدهم من العيش في وطنهم التاريخي، في حين يحق لغيرهم ممن لم تكن فلسطين وطنا تاريخيا لهم أن يستوطنوا فيه. اذا كانت فلسطين وطنا تاريخيا للشعبين فإن أول ما يجب الالتزام به هو عودة اللاجئين والغاء مصادرات الاراضي والغاء الاحتكار العنصري للاراضي داخل اسرائيل، هذا الاحتكار الذي يحصر تملك هذه الاراضي والعمل فيها على فئة واحدة وهي اليهود. ثم لماذا لا يكون التقسيم على اساس قرار التقسيم مثلا؟ أو على أساس التوزع السكاني بين الشعبين عند انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين؟ الهدف واضح، وهو الاعتراف بالحق التاريخي لليهود، أما ما عدا ذلك فهو اقرار ما قامت به اسرائيل واضفاء شرعية تاريخية عليه أولا لما قامت به اسرائيل من رسم حدود لنفسها، أي تحكمها في القسمة المزعومة، وثانيا اضفاء الشرعية على ما أنشأته من مستوطنات واستملاكات للاراضي الفلسطينية.

18– الاشارة الى حدود عام 1967 ليست سوى للتظاهر بالاستجابة للقرار رقم 242 ولاصرار العرب على حدود 1967، هذه مناورة دعائية فقط وخداع على الحقيقة. وهذا واضح من أن الاتفاق “أكد أنه لا محال بأن تقوم اسرائيل والفلسطينيون بعملية تبادل أراض، بحيث أن الاراضي التي ستضم الى الدولة العبرية في الضفة الغربية المحتلة تحتم على اسرائيل دفع التعويضات عنها للفلسطينيين”. لماذا “لا مفر” من تبادل للاراضي؟ هذا “التبادل” الذي يبدو غريبا في نوعه، اذ أنه ليس تبادلا للاراضي، وانما هو بيع للاراضي، لجزء من الوطن، من جانب واحد هو الجانب الفلسطيني فقط. فالاتفاق يقول “اسرائيل لا محال لها من ضم أراض من الضفة الغربية”، أما دولة فلسطين فليس لها أن تضم اية أراض من اسرائيل. لماذا لا تضم فلسطين المدن الفلسطينية التي تحتلها اسرائيل مثل يافا وعكا وبئر السبع واللد والرملة وصفد مثلا في عملية التبادل هذه في الوطن التاريخي المشترك؟ طبعا ليس هذا هو المقصود، واستعمال عبارة “تبادل” مغالطة كبيرة تخفي حقيقة المقصود منها، حيث أن الذي سيحصل عليه الفلسطينيون في عملية التبادل الغريبة هذه هو “تعويضات يتحتم على اسرائيل دفعها”. أي أن اسرائيل تشتري من الفلسطينيين جزءا من وطنهم التاريخي وتضمه اليها فضلا عما أخذته داخل حدود 1967. ولم يحدد الاتفاق على ما يبدو هذه الاراضي التي “ستتبادلها” اسرائيل مع الدولة الفلسطينية وتضمها اليها. ولكن من المؤكد أنها ستطالب بضم المستوطنات وضم ما استولى عليه الجدار وضم اراض أخرى لإحكام قبضتها على القدس وتفتيت الدولة الفلسطينية، وضم الغور لتأمين سلامتها، وضم مصادر المياه، الى غير ذلك ما دام أن مبدأ هذا النوع من التبادل قد تم الاتفاق عليه. ولا نستبعد أبدا أنه لم يرد نص يحدد الاراضي التي تجري “مبادلتها” وأن تستمر الاوضاع على ما هي عليه لسنوات بحيث تصبح أمرا مفروضا، ولكنه شرعي، بحجة أن الفلسطينيين يرفضون تنفيذ ما اتفقوا عليه من تبادل أو يغالون في السعر الذي يريدونه. ومن حق كل فلسطيني أن يتساءل هل أصبح الوطن الفلسطيني معروضا للبيع؟

القدس

19 – وعالج الاتفاق وضع مدينة القدس، اذ جاء فيه ” مدينة القدس بشطريها الغربي والشرقي يجب أن تكون مدينة سلام، بحيث تكون عاصمة لاسرائيل وأيضا عاصمة للدولة الفلسطينية، وأن السيطرة السياسية على الاحياء المختلفة تكون وفق تركيبة السكان”. هكذا ببساطة، وباغراء واضح للجانب الفلسطيني، الذي يريد أن تكون القدس عاصمة له.لن يكون هناك تقسيم للمدينة على ما يبدو، بحيث تكون القدس الشرقية المحتلة عاصمة لدولة فلسطين. وانما تبقى المدينة موحدة، طبقا للطرح الاسرائيلي. وهكذا تريد اسرائيل أن تتخلص من التزاماتها بالغاء ضم القدس وجميع ما اتخذته من اجراءات وتغييرات في البنية السكانية للمدينة. واذا كان الحديث عن السيطرة السياسية مرتبطا بالتركيبة السكانية لشعبين يعيشان في وطنهما التاريخي ، فهل سيسمح لفلسطينيي القدس بالعودة الى ممتلكاتهم وبيوتهم وأماكن سكناهم الطبيعية التاريخية في شطريها الشرقي والغربي، وهل سيسمح لابناء القرى الفلسطينية بالعودة الى قراهم، ويخضع هؤلاء جميعا لسيطرة الدولة الفلسطينية؟ النص يبدو بريئا ومعقولا، ولكنه يتجاهل تماما ما احدثته اسرائيل من تغييرات في القدس، وخاصة فيما يتعلق بالبنية السكانية وما رافق ذلك من هدم للالاف من البيوت الفلسطينية وتشريدٍ لأهلها وتوطينٍ لاسرائيليين في المدينة، وهي عملية ما زالت مستمرة بحيث لن يبقى من القدس ليكون تحت سيطرة الدولة الفلسطينية الا أقل القليل، هذا اذا بقي في المدينة فلسطيني واحد. لم يذكر الصحفي الاسرائيلي ما اذا كان الاتفاق قد تعرض للاماكن المفدسة. وأغلب الظن أنه لم يتعرض لها، حيث أن المسجد الاقصى قد أصبح مطوقا ومعزولا، تحيط به اسرائيل والاسرائيليون من كل جانب بما ضُمَّ من أراض وأحياء، وبالتالي فقد خرج عن دائرة التركيبة السكانية الفلسطينية، مع العلم بأن اسرائيل قد اقامت كنيسا تحت المسجد في نفق من الانفاق، كما اننا لا ندري ماذا يجري تحت الحرم الشريف. هل ستصبح عاصمة فلسطين هي فعلا قرية أبوديس تنفيذا لاتفاقٍ أكد السياسي الاسرائيلي بيلين أنه تم بينه وبين عباس، بضم هذه القرية الى القدس وبحيث يمكن الادعاء بأن للدولة الفلسطينية عاصمة هي القدس؟

والنتيجة

20- هذه بعض الملاحظات العامة على هذا الاتفاق الذي قال عنه الصحفي الاسرائيلي بأنه تم بين الرئيس محمود عباس ونائب وزير الأمن الاسرائيلي عام 2005، وهو العام الذي سبق أن حدده الرئيس الامريكي لتحقيق حل الدولتين، ولكن تنفيذه قد تأجل بسبب فوز حماس في انتخابات المجلس التشريعي، على حد قول الصحيفة الاسرائيلية، وهو اتفاق يمنح اسرائيل والحركة الصهيونية الشرعية التي يريدانها ويواجهان بها العرب والمسلمين والمجتمع الدولي لتحقيق المشروع الصهيوني، وتصنيف كل مقاومة له على أنها ارهاب واعتداء على الشرعية يستوجب العقاب من المجتمع الدولي. ولا يخفى مدى الدهاء الاسرائيلي في صياغة هذا الاتفاق، وهي صياغة لاشك أنها استغرقت وقتا طويلا من عقول خلاقة، خبيرة بالمفاوض الفلسطيني، وتتميز بالمكر والدهاء، غير أن هذا كله ما كان ليخفي أهدافه الحقيقية لو كان المفاوض الفلسطيني يتحلى بأبجديات الكفاءة التفاوضية. ولا شك أن المفاوض الاسرائيلي، وقد اختبر كفاءة المفاوض الفلسطيني فيما مضى، قد اقتنع بأن في مقدوره أن يمرر هذه النصوص عليه بسهولة. واذا كان هذا الاتفاق قد حصل فعلا، فانه يؤكد أن تقييم المفاوض الاسرائيلي للمفاوض الفلسطيني كان صحيحا.

21 – في مقال نشر في 4 نوفمبر 1923 توقع جابوتنسكي، المًنَظِّر الصهيوني المركزي لليمين الاسرائيلي، مقاومةً شديدة للمشروع الصهيوني من جانب العرب سكان فلسطين الاصليين، أسوة بكل سكان اصليين تتعرض بلادهم للاستعمار. كما توقع أن موافقتهم على هذا المشروع الذي يسميه هو “مشروعا استعماريا” لا يمكن أن تتم الا اذا بلغ بهم اليأس حدا يرغمهم على الاستسلام نتيجة للاضطهاد والضيق الاقتصادي الذي يتعرضون له بفعل المستعمر الصهيوني. فهل بلغ الفلسطينيون هذا الحد من اليأس؟ ان شعبا واصل نضاله على مدى قرن كامل، جيلا بعد جيل، وتتجدد فيه قوة النضال في تصاعد مستمر، لا يمكن أن يقال إنه قد وصل حد اليأس المطلق الذي تحدث عنه. والذي نرجوه مخلصين أن يكون هذا الخبر الذي أوردته صحيفة معاريف الاسرائيلية مجرد بالون في الهواء لمعرفة رد الفعل الفلسطيني، اما اذا كان غير ذلك، فالأمر لا يمكن السكوت عنه. فاذا كان قد يئس المفاوض الفتحاوي الكبير الذي تحدث عنه الصحفي الاسرائيلي، فان الشعب الفلسطيني لم ييأس، ولم تيأس الشعوب العربية والاسلامية. مرة أخرى نرجو ألا يكون هذا الخبر صحيحاً، ونرجو ألا يكون الرئيس الفلسطيني قد ورطه مفاوضوه، وفي هذه الحالة ندعوه الى عدم الموافقة على ما ورطوه فيه. وندعوه لاستنكار ما نشر ونفيه نفيا قاطعا، لطمأنة الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، اذا كانت الرواية الاسرائيلية غير صحيحة. كما ندعوه في جميع الاحوال الى اعادة النظر جذريا فيمن يتولون التفاوض باسمه وباسم الشعب الفلسطيني، وأن يستعين بدلا منهم بفريق من الخبراء الفلسطينيين والأجانب، كالفريق الذي مثَّلَ فلسطين أمام محكمة العدل الدولية، لاجراء المفاوضات وعرض نتائجها عليه، وأن يستعين كذلك بأهل المعرفة في جميع القضايا، خاصة الحساسة منها، فيستعين مثلا بشأن القدس بالجهات التي تتابع أولا بأول وتسجل كل ما يجري في المدينة أولا بأول وتستطيع توضيح ما تؤدي اليه النصوص من نتائج على أرض الواقع. وكذلك فانه لا يكفي اطلاقا عرض اتفاق قد تم ابرامه من غير ذوي تخصص وخبرة على هؤلاء الخبراء لابداء رأيهم فيه في ساعة أو ساعتين، أوقبل التوقيع عليه بليلة، لأنهم أولا يحتاجون الى وقت كاف للدراسة والتحليل وابداء الرأي، وثانيا لأنهم قد يعترضون عليه في العديد من جوانبه بعد أن يكون المفاوضون من غير ذوي الكفاءة قد وافقوا عليه أو يكون هو قد تورط في الموافقة عليه بناء على نصيحتهم. المفاوضات علم ومهارة وكفاءة ومعرفة، ولها أهلها، وهم الذين يجب الاستعانة بهم، خاصة في قضية خطيرة كالقضية الفلسطينية، حيث لا مجال فيها للهواة أو للارتجال، وحيث يكون الخطأ قاتلا.