مطبات الارتجال الفلسطيني في المحافل الدولية

مطبات الارتجال الفلسطيني في المحافل الدولية

مقدمة

يوم الجمعة الموافق الثاني من اكتوبر (تشرين الاول) عام 2009 هو يومٌ اسود في مسيرة القضية الفلسطينية، إذ أنه يومٌ وَجَّهَ فيه من يدعون أنهم يمثلون الشعب الفلسطيني أكبرَ إهانةٍ له واستخفافٍ به وبتضحياته، وحقوقه، خاصة حقه في الحياة . لم يُصَدِّقْ أحد أن الاستخفاف بعقول الناس وبحسهم الوطني وحقوقهم ودماء أبنائهم قد وصل الى هذا الحد من أشخاص يدعون أنهم يحظون بثقة هذا الشعب ويعملون لصالحه والدفاع عنه. وازداد الاستهتار استهتارا بسخافات الناطقين الرسميين الذين اختلفت وتناقضت رواياتهم وتبريراتهم ورؤاهم لما حدث، وإن اعترف بعضهم بأن ما وقع كان خطأ.

وانتظر الناس تصريحا من رئيس السلطة يوضح الموقف قبل ان يعلقوا عليه. وجاء التصريح في مؤتمر صحفي ، ثم في يبان قرأه بعد عشرة أيام من قرار التأجيل، فاذا به يكرر في بيانه الاول ما ذكره بعض من سبقه من الناطقين باسمه ويركز على ما ركزوا عليه من أن فلسطين ليست عضوا في مجلس حقوق الانسان، وبالتالي فان ممثليها لا يستطيعون تقديم طلب بالتأجيل، وأن هذا الطلب قد تقدم به مندوب غير المندوب الفلسطيني وبموافقة عربية واسلامية. وكرر الرئيس كلامه هذا في البيان الذي قرأه في 12 أكتوبر 2009، موحياً بأن الذي يتحمل المسئولية هي الوفود العربية والاسلامية، وأن قرار التأجيل ليس قرارا فلسطينيا. والغريب أن الرئيس لم يعترف بأن “خطأ” قد وقع، مع أن الامين العام للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير قد اعترف علنا بذلك، وكذلك اللجنة المركزية لفتح، ولم يعتذر للشعب الفلسطيني عنه، ولم يتحمل أية مسئولية عما حصل أو يطرح تبريرا له، مقنعا أو غير مقنع . لم يكن هذا التصريح في رأي الكثيرين فراراً من المسئولية وتجنيا على الحقيقة فحسب وانما اساءة واضحة للدول العربية والاسلامية التي تحرص دائما على الاستجابة لرغبات الوفود الفلسطينية في المجتمعات الدولية. هذا موقف يترك التساؤلات قائمة حول الأسباب الحقيقية التي كانت وراء طلب التأجيل ولا يريد رئيس السلطة الافصاح عنها، مع أن هذه الاسباب لا بد وأن أفصح عنها رئيس البعثة الفلسطينية لرؤساء الوفود التي كانت مؤيدة لطرح التقرير للنقاش وذلك ولو من باب تبرير الموقف. وبالفعل فقد قرأ الدكتور عزمي بشارة على فضائية الجزيرة النص الكامل لتقرير بعثه أحد المندوبين لحكومته وفيه تفاصيل ما قاله مندوب فلسطين للمجتمعين، والواضح فيه كل الوضوح أن التعليمات بالتأجيل جاءت من رئيس السلطة الفلسطينية، وليس مثلا من حكومة الباكستان. لقد تجنب الرئيس القول بأنه هو الذي أصدر القرار، أو أنه يتحمل المسئولية عنه، وذلك لكونه هو المختص باتخاذ قرارات بهذه الاهمية ولا يجوز له التنصل من تحمل هذه المسئولية، حتى ولو كان القرار قد صدر من غيره. واذا كان الرئيس بعد عشرة أيام من صدور قرار التأجيل لا يعرف من أصدره، مع أن سؤالا لممثل فلسطين في جنيف كاف لكشف الموضوع، فان الأمر فعلا خطير وخطير جدا.

وكذلك لا يجوز له الاحتماء وراء ادعاء بأن القرار اتخذ بموافقة عربية واسلامية وأن المندوب الفلسطيني لم يتقدم هو بطلب التأجيل حيث أن فلسطين ليست عضوا في مجلس حقوق الانسان. صحيح أن فلسطين ليست عضوا في المجلس، ومعظم أعضاء الامم المتحدة ليسوا أعضاء فيه. ولكن اذا أرادت فلسطين أو أية دولة غير عضوة صدور قرار في موضوع معين فكل ما يتطلبه الامر هو اقناع عضو بما تريده فيتبناه ويتقدم بمشروع القرار الذي طلب منه. انها خدمة تقدم، ولكن القرار النهائي هو بيد المندوب الفلسطيني فيما يتعلق بفلسطين. وهذا ما قاله المندوب القطري والمندوب الباكستاني، وكانا صادقين، ولا يليق أبدا تحميل المسئولية لهؤلاء الذين نفذوا رغبات من كانوا في نظرهم يمثلون الشعب الفلسطيني.

نتائج توجيه الاتهامات

ازاء هذا الموقف من قمة هرم المسئولية الفلسطينية ومن هم دونه يجب الا نستغرب مستقبلا، اذا سمح شعبنا لهؤلاء أن يبقوا في السلطة، ألا تجد القضية الفلسطينية من يتبناها في دوائر الامم المتحدة خوفا من تحميله مسئولية يجب أن يتحملها الوفد الفلسطيني وسلطته. ماذا يقول السفير الباكستاني لحكومته التي تخشى أن يصدق شعبها ما قاله المسئولون الفلسطينيون عن موافقته على القرار ومسئوليته عن تقديمه؟ هذا الخطر حاصل الآن بعد أن تقرر تقديم طلب لإعادة التقرير الى جدول الاعمال. هذا هو السؤال الأول، وعليه يجب أن تتركز الجهود الآن. ان التأجيل أتاح الفرصة لاسرائيل لتحشد حلفاءها وتستغل طلب التأجيل هذا وما تلا ذلك الآن من مهاترات رخيصة والتركيز عليها بدلا من التركيز على التقرير نفسه وتوحيد الجهود لضمان اعادته لجدول الاعمال أولا وتبنيه ثانيا.

ولنفترض أن التقرير أعيد لجدول الاعمال، فإن السؤال الذي يرد ماذا سيكون موقف الدول التي وعدت بالتصويت بالموافقة على ما جاء فيه، ثم يأتي صاحب الشأن، ممثل فلسطين، فيتخلى عن موقفه بسحبه لقرار اعتماد التقرير بصورة لا مبرر لها، ثم يحاول التملص من المسئولية عن طلب التأجيل والصاقها بغيره؟ هذه الدول لا بد أنها قد أصيبت بصدمة عندما فوجئت بطلب التأجيل في موضوع بهذه الخطورة، الأمر الذي طعن في مصداقية منظمة التحرير الفلسطينية كحركة تحرر وطني، وفَتَحَ طريقا معبدة لاسرائيل وأمريكا للتأثير على هذه الدول الاعضاء وكذلك المنظمات غير الحكومية واقناعها بعدم جدية المواقف الفلسطينية وعدم الثقة في الفلسطينيين أنفسهم. ومن حق هذه الدول والمنظمات أن تتساءل ما الذي سيضمن لها أنه لن تكون هناك تقلبات جديدة في الموقف الفلسطيني؟ وسنرى أن هذه ليست هي المرة الاولى التي يتنازل فيها المسئولون الفلسطينيون عن مواقف أو قرارات أو تقارير تدعم قضيتهم لاسباب كثيرا ما تبدو غير واضحة، ولكنها ضارة بها في جميع الحالات.

ما حدث في جنيف في يوم الجمعة الاسود 2 أكتوبر 2009 كان انقلابا للأدوار بشكل لافت للأنظار: لم تكن اسرائيل المتهمة هي التي تقدمت بطلب تأجيل اتخاذ القرار، وانما كان المجني عليه، الضحية، الذي ثبت حقه واحتشد انصاره والعالم كله لسماع النطق بالحكم. لقد عاصرتُ، منذ عام 1976، لجنةَ حقوقِِ الانسان، ومن بعدها، مجلسَ حقوق الانسان الذي خلفها، بصفتي ممثلا لمنظمة غير حكومية لها صفة استشارية لدى الامم المتحدة، ولم أشهد في اللجنة أو المجلس موقفا مثل هذا الموقف الذي وُضِعَ فيه ممثل فلسطين وقضيته الحساسة العادلة أمام المجتمع الدولي.

النتيجة اذن هي أن القضية الفلسطينية الواضحة العدالة قد خسرت الكثير نتيجة لمواقف السلطة هذه، وهي مواقف تدل على الارتجال، بل ولربما ما هو أكثر منه، حتى في قضايا في أهمية تقرير كتقرير القاضي جولدستون. وهذه خسارة تمس بعنصر الثقة والمصداقية وسلامة التعامل، وهي أمور ليس من السهل استردادها. إننا ما زلنا لا ندري ما الذي أدى بالرئيس الفلسطيني إلى دفع هذا الثمن الباهظ جدا، الا أنه من المؤكد ان مصداقيته فيما يتعلق بقضيته قد اهتزت، وسيكون من الصعب ترميمها، خاصة وأن الدلائل كلها تشير الى أن ما جرى ليس تصرفا طارئا، وانما هو، كما قال الدكتور عزمي بشارة والدكتور منير شفيق على فضائية الجزيرة، تنفيذ لمنهج سار عليه رجال السلطة منذ زمن.

سوابق أخرى خطيرة من نفس المنهج

لم تكن هذه هي المرة الوحيدة التي هدرت فيها السلطة الفلسطينية مكسبا فلسطينيا بعيد الأثر دون مقابل. فقد تخلت القيادة الفلسطينية في أعقاب مؤتمر مدريد عن قرار الجمعية العامة للامم المتحدة باعتبار الصهيونية شكلا من أشكال العنصرية والتمييز العنصري، ذلك القرار الذي أزعج الدوائر الاسرائيلية والامريكية والاوروبية ازعاجا كبيرا، الى أن نجحت في الغائه بعد مؤتمر مدريد. ولم يكن هذا الالغاء ممكنا لولا موافقة فلسطينية وعربية واسلامية، حيث أن الالغاء، كالقرار الاصلي نفسه، قد صدر عن الجمعية العامة للامم المتحدة. كان ثمن هذا الالغاء البدء في مفاوضات. وكان ثمن تأجيل النظر في قرار القاضي جولدستون هو أيضا استئناف المفاوضات.

طبعا بدأت مفاوضات، وكانت نتائجها أوسلو وأخواتها، وما فيها جميعها من تنازلات تعاني منها القضية الفلسطينية في كل يوم. الا أن مقاومة الغاء القرار الذي يدمغ الصهيونية بالعنصرية عادت الى الواجهة في المؤتمر الدولي عن العنصرية الذي عقد في مدينة ديربان بجنوبي افريقيا عام 2001 ويشار اليه عادة بِ “ديربان واحد”. مؤتمر ديربان رقم 1 أزعج اسرائيل وحلفاءها لدرجة لا تطاق. في ذلك المؤتمر الدولي ناضلت منظمات حقوق الانسان ذات الصفة الاستشارية لدى الامم المتحدة الى جانب الدول المناهضة للعنصرية ونجحت في اقناع المؤتمر بضرورة ادراج نصوص واضحة في البيان الختامي للمؤتمر بخصوص فلسطين وحقوق الشعب الفلسطيني. قاومت اسرائيل وأمريكا والدول الاوروبية هذه المحاولة، بل وقاطعت المؤتمر، الا أن المحاولة نجحت فوردت ثلاث فقرات بهذا الشأن عبر فيها المجتمعون عن قلقهم “ازاء معاناة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال الأجنبي، واعترافهم بحقه الثابت غير القابل للتصرف في تقرير المصير واقامة دولة مستقلة وحق جميع دول المنطقة ، بما فيها اسرائيل، في العيش بأمان ودعوة جميع الدول لدعم عملية السلام والانتهاء منها على وجه السرعة” (الفقرة 63 من البيان). وفي الفقرة 64 دعا المجتمعون “لتحقيق سلام عادل وشامل ودائم في المنطقة تتعايش فيه جميع الشعوب وتتمتع بالمساواة والعدل وحقوق للانسان وأمن معترف بها دوليا”. وفي الفقرة 65 جاء في البيان “اننا نعترف بحق اللاجئين في العودة الاختيارية لبيوتهم وأملاكهم بكرامة وأمن، ونحث جميع الدول على تسهيل العودة هذه”.

هذه النصوص ازعجت أمريكا واسرائيل والدول الاوروبية كثيرا، ومثلت انتصارا للقضية الفلسطينية في داخل مؤتمر دولي خاص بالعنصرية، بالتأكيد على حقوقه الثابتة وحق العودة الى “البيوت” و “الاملاك” والتخلص من المعاناة بسبب الاحتلال وإقامة الدولة المستقلة. وصممت اسرائيل وحلفاؤها على التخلص من هذه النصوص. وبالفعل فقد حشدت قوتها وجلبت أعدادا كبيرة من أنصارها للتشويش على الدورة الثانية للمؤتمر التي عقدت في ابريل 2009 في قصر الامم المتحدة في جنيف، والهدف استبعاد هذه الفقرات الثلاث من البيان الختامي للمؤتمر، بحيث يظهر أن هذا المؤتمر الثاني، الذي هو مراجعة لما تم بعد مؤتمر ديربان الاول، قد شطب هذه الفقرات من البيان الختامي بناء على اتفاق توافقي بين اصحاب القضية أن المشاكل المتعلقة بما ورد فيها قد سويت. وبالفعل فقد شطبت هذه الفقرات الثلاث ولم يرد أي نص في البيان الختامي بشأن القضية الفلسطينية أو الاحتلال الاسرائيلي والمعاناة منه أو حق العودة أو الحق في الاستقلال، وكأن هذه الامور قد أنجزت في الفترة بين المؤتمرين (2001 – 2009).

قرار الحذف هذا قد جاء بموافقة وزير خارجية فلسطين، تماما كما كان قرار تأجيل النظر في تقرير لجنة القاضي جولدستون بموافقة ممثل فلسطين.

والمسئول النهائي في الحالتين هو السلطة الفلسطينية ورئيسها واللجنة التنفيذية. كلهم مسئول. وكما ثارت ثائرة المنظمات غير الحكومية اعتراضا على قرار التأجيل، فقد كان وقع حذف الاشارات الخاصة بفلسطين مؤلما جادا، خاصة وأن ما تحقق في ديربان واحد كان بالرغم من التعنت الامريكي الاسرائيلي الاوروبي. لم يدر أحد ما الذي دفع المندوب الفلسطيني للموافقة على بيان بهذا الشكل، مع أن الاحتلال ازداد ضراوة، ولم يتراجع في الفترة ما بين الدورتين للمؤتمر. لم نعرف شيئا في حينها ولا بعد ذلك، وكل ما وصل الى المسامع هو الثناء المتكرر من الدول الاوروبية على وزير خارجية فلسطين لتعاونه في الوصول الى نصٍ متفقٍ عليه أُجيزَ من دون تصويت. لماذا هذا الحرص على الغاء هذه الفقرات عن طريق ما أصبح يسمى “بالتوافق” دون تصويت ووقع في فخه وزير الخارجية الفلسطيني عن وعي أو غير وعي؟ (من المفيد أن نذكر أن المنظمات غير الحكومية لم تتح لها فرصة التدخل الا بعد أن أقرت الدول الاعضاء البيان الختامي، ولذا لم يكن للمنظمات في هذه الدورة التأثير الذي كان لها في الدورة الاولى، وهذا طبعا مقصود من الدول الاعضاء).

نظرية الاتفاق بالتوافق بدون تصويت

هذه مصيبة تسبب فيها معالي السيد الوزيربالموافقة على الغاء هذه الفقرات، ولا ندري الى أين ستنتهي، حيث أن تحديد الحقوق في المؤتمرات الدولية لا يأتي عبثا، وإنما له أهدافه وأبعاده القانونية التي قد لا تخطر بالبال للوهلة الاولى. وواضح أن القيادات الفلسطينية تتصرف على أساس “الالهام” “والشطارة” ولا تعترف بضرورة أي استعداد أو اعداد مسبق. فمثلا هل حذف الاشارة الى حق العودة مثلا من نفس الجهة الدولية التي كانت قد أقرته سابقا بالتوافق بين الطرفين المعنيين يمكن أن يفسر على أنه توافق على الغاء ذلك الحق أو عدم الالتزام به أو على أنه تم تنفيذه؟ واذا لم يكن كذلك، فما هو الهدف من الحذف إذن في بيان شامل حل محل البيان السابق الصادر من نفس الجهة؟ أليس التوافق دون تصويت هو اتفاقٌ عليه شهودٌ، وإن لم يصوتوا، بحيث يصبح من الصعب عليهم، إن لم يكن من المتعذر، اعادة النظر وارجاع الوضع الى ما كان عليه؟. هذه القضية الدقيقة تنبه لها رئيس الجمعية العامة للامم المتحدة، ميجيل ديسكوتو بروكمان، وهو من فنزويلا، وأصدر مكتبه بيانا في نفس اليوم الذي صدر فيه البيان الختامي لمؤتمر ديربان 2 وتنازل فيه وزير خارجية فلسطين عما تنازل. جاء في هذا البيان تعقيبا على بيان المؤتمر: ((“في رأيي أنه شيء جيد أن استطاع الاطراف التوصل الى اتفاق نهائي على النص بطريق التوافق (consensus) . ومع ذلك فانني آسف أن التركيز على الضحايا الذي كان سائدا في مؤتمر ديربان لعام 2001 قد جرى الانتقاص منه في النص الحالي. وآسف كذلك أن الاشارة التي وردت في نص ديربان واحد والذي يعترف بحقوق الانسان للشعب الفلسطيني، بما في ذلك الحق في دولة مستقلة قد حذف أيضا من النص. إن الامم المتحدة، وخاصة الجمعية العامة، وقد أجازت القرار رقم 181 منذ أكثر من ستين عاما، ما زالت تتحمل التزامات محددة فيما يتعلق بخلق دولة اسرائيل ودولة فلسطين التي ما زالت لم تتحقق. إنه مبدأ من المبادئ الاساسية في القانون الدولي، وخاصة قانون حقوق الانسان الدولي، أنه اذا اعترف بحق من الحقوق، فانه لا يمكن رفض وجوده أو الغاؤه ، وإن الدول الأعضاء في الامم المتحدة ملتزمة بأن تحترم وتحمي وتنشر حقوق الانسان. انه لمسئولية المجتمع الدولي في مجموعه والامم المتحدة على الخصوص أن تُحَرِّكَ بشكل تقدمي جدول الاعمال الخاص بالدفاع عن هذه الحقوق ونشرها وتقنينها وتنفيذها. “)) (انتهى بيان رئيس الجمعية العامة للامم المتحدة).

اشارةُ رئيس الجمعية العامة الى “الاتفاق بطريق التوافق” والى القرار رقم 181 (وهو قرار التقسيم) والى مبادئ القانون الدولي، الى غير ذلك مما اشار اليه، له مدلوله المهم في هذا السياق. فبيان ديربان الثاني صدر “بالتوافق وبدون تصويت”. واول تصريح لممثل السلطة الفلسطينية بعد قرار تأجيل النظر في تقرير لجنة القاضي جولدستون تحدث عن أن من اسباب التأجيل هو السعي للوصول الى “توافق” حول القرار الذي يصدره المجلس بشأن التقرير. التوافق هذا يتم اصلا بين الوفد الفلسطيني والوفد الاسرائيلي على نص قرار يقدم للمجتمعين فيجري اقراره من دون تصويت. وقد رأينا نوع التوافق الذي تم مع وزير الخارجية الفلسطيني، وهو ما نعاه رئيس الجمعية العامة للامم المتحدة وحذر من عواقبه بمحاولة التأكيد على أن هذا الحذف التوافقي يتعارض مع القانون الدولي اذا قصد منه الغاء حقوق سبق الاتفاق عليها. الحذف قد حصل وتمت الموافقة على النص النهائي للبيان بناء على الاتفاق التوافقي الذي تم مع وزير خارجية فلسطين. ومن المؤكد أنه لن يتم الرجوع عن هذا في مؤتمر لاحق، أو لابد من خوض معركة حامية جدا لارجاع ما تم الغاؤه. التوافق الذي يتم يسجل بطبيعة الحال على أطرافه، ويشهد عليه المجتمع الدولي كله. ومن هنا تأتي أهمية السؤال الذي طرحناه عن الأثر القانوني لهذا الاسلوب المستحدث في التعاطي مع القضية الفلسطينية، وهو اسلوب الاتفاق بالتوافق دون تصويت، والذي لا شك أنه كان في صميم اهتمام رئيس الجمعية العامة للامم المتحدة عندما تعرض لما حذفه البيان من الاشارة الى حقوق الشعب الفلسطيني، ومؤدى موقفه هو أن هناك حقوقا سبق للامم المتحدة أن أقرتها، ولكنها لم تتحقق بعد، مثل حق الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة وفقا لقرار التقسيم، وهناك القرار الخاص بالعودة، فيقول رئيس الجمعية العامة إن ما سبق اقراره من حقوق لا يمكن رفضه فيما بعد أو الغاؤه. هذا هو رأيه، ولكن من المؤكد أن رجال القانون الدولي، وكثير منهم يهود صهيونيون، سيبدأون في تعميق الدراسات حول الاثار القانونية للاتفاق التوافقي، وسيبدأ القانونيون الاسرائيليون دراساتهم لتثبيت كل تراجع فلسطيني والزامهم به. وسيستمر رجال السلطة الفلسطينيون في غفلة عما يجري وفي الاعتماد على “الشطارة” و”الفهلوة” الى غير ذلك من المواهب التي اكتشفها الاسرائيليون بسهولة وأثبتت قيمتها فيما تم من اوسلو وحتى اليوم.

ومهما يكن من أمر، فإن أي اتفاق، سواء كان بهذه الطريقة أو غيرها، يمس بالحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني لن يكون له أي أثر ولا يُلزِم الشعب الفلسطيني، ومن المفيد أن يتذكر هذا من يدعون تمثيله في مفاوضات أو مؤتمرات أو لقاءات خاصة أو سرية. إن اليقظة التي أظهرها الشعب الفلسطيني فيما يتعلق بتقرير القاضي جولدستون لن تخبو وسيفرض هذا الشعب وجودهكلما تعرضت قضيته للخطر.

ازاء هذه التجربة مع ممارسة المسئولية، وعوداً الى قرار تأجيل النظر في تقرير القاضي جولدستون، الا يحق للمواطن الفلسطيني أن يتساءل ما الذي كان يمكن أن يتم في فترة التأجيل البالغة ستة اشهر؟ هل ستعترف اسرائيل بالجرائم التي ارتكبتها، أم إن التوافق المطلوب سيكون تنازلا فلسطينيا عن مقاضاة اسرائيل ومجرمي الحرب من رجالها وقادتها أو أي حل من هذا القبيل ؟ هذا هو الذي كان سيحدث اذا استمر التأجيل تطبيقا لنظرية الاتفاق التوافقي، والحجةُ لذلك والمبرر سيكون، مرة أخرى، الحرص على مفاوضات أثبتت عبثيتها بالنسبة للشعب الفلسطيني، وكأنما لا يكفيه ما فُرِّطَ باسمه من حقوق. هذا هو المتوقع، ولربما يكون هذا ما قد تم الاتفاق عليه بالفعل، أي التأجيل في مقابل المفاوضات، ولكنه اتفاق لم يُعلن. الشعب الفلسطيني لم يعد يدري ماذا يصدق وماذا لا يصدق من أقوال السادة المسئولين، وهو يرى الوطن يُنهَبُ والسادة المسئولين كأنهم لا يرون ما يقع. واذا كان هذا هو ما يجري في العلن فما هو يا تُرى الذي يجري خلف الابواب المغلقة؟

ما العمل؟

هذا موضوع آخر، سنعود اليه بعد أن يتقرر مصير تقرير القاضي جولدستون، ولكن من المؤكد أننا سنطالب، من بين ما سنطالب به، بتفعيل منظمة التحرير كمرجعية فلسطينية جادة تحاسب من يتخذون القرارات من جهة وتؤمن أسلوبا علميا واعيا لا ارتجال فيه لاتخاذ القرارات والمحاسبة عليها. واذا استمر القائمون على الأمر في التلاعب بهذا الموضوع، فإن الشعب الذي أقام المنظمة لن يعجز عن إيجاد الوسيلة لتفعيلها. الشارع الفلسطيني يتحرك، في كل أماكن تواجده في الداخل والضفة والقطاع، في المخيمات وفي الشتات، ولن يترك الامور على هذا الحال. ومن المؤكد أنه لن يترك مصيره بيد أي شخص أو فريق يتأكد له أنه يتعايش مع الاحتلال وافرازاته ويتأقلم معه في تصرفاته وخياراته وقراراته.

غير ان المهم في هذه اللحظة بالذات هو حشد الجهود لتصحيح ما حدث ومنع الضرر بالتركيز على ضمان الموافقة على التقرير وتوصياته وضمان المتابعة بحيث لا ينضم هذا التقرير أو قرار مجلس حقوق الانسان الى سلسلة ما أهمل من قرارات والى فتوى محكمة العدل الدولية بشأن الجدار الفاصل، وهي القرارات والفتوى التي أهملتها السلطة الفلسطينية والانظمة العربية اهمالا كاملا، ربما أيضا حرصا على “المفاوضات”.

الإعلان