هنيئا لي ولكم: لقد أصبحنا مغتربين لا لاجئين

فلسطينيوا الشتات ، وربما لاحقا، فلسطينيوا مخيمات اللاجئين، يبدو أنه أصبح لهم وضع قانوني جديد ابتدعه الفكر الخلاق الذي تتميز به اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، شأنها في ذلك كشأنها في ابتكار التنازلات التي تبتكرها في مفاوضاتها مع الجانب الاسرائيلي. الحقوق ليست هي الاعتبار الأول الذي يحرك هذا الفكر الخلاق، وانما الذي يحركه هو رغبة ملحة في التبرع بالحلول التي تعين الجانب الاسرائيلي على تجاوز القانون الدولي والمشروعية، بدلا من الزامه بهما. اللجنة التنفيذية ورئيسها والمفوضين منها يتصرفون دون محاسب أو رقيب منذ انعقاد المجلس الوطني في دورة الجزائر عام 1988. ومن بين ابتداعاتها الخلاقة قرار اتخذه الرئيس محمود عباس المنتهية مدته بتاريخ 29/12/2007 بانشاء دائرة في اللجنة تسمى “دائرة شؤون المغتربين”.

ووفقا لما جاء في موقع الدائرة على الشبكة الالكترونية وهو http://www.pead.ps فإن الرئيس محمود عباس هو الذي اتخذ هذا القرار وليس في الموقع ما يدل على أن اللجنة التنفيذية هي التي اتخذته، كما يتطلب النظام الاساسي لمنظمة التحرير. واذا كان للرئيس او اللجنة التنفيذية أن يتصرفوا في القضية الفلسطينية حسب هواهم، فإنه لا بد من التذكير بأنه ليس من اختصاص هؤلاء المساس بالوضع القانوني والوطني لفئة من أبناء الشعب الفلسطيني دون علمهم وبالتالي دون موافقتهم. ومن الواضح من موقف كبير المفاوضين الفلسطينيين، كما كشفت عنه الوثائق التي حصلت عليها قناة الجزيرة، أن فلسطينيي الشتات لن يكون لهم دور حتى في استفتاء نهائي حول الموضوع. كبير المفاوضين اصبح وصيا على فلسطيني الشتات القُصَّر، يقرر سيادته ما يراه بشأنهم وعليهم قبوله والانصياع له.

وبموجب هذا القرار الرئاسي فإن الدائرة تعنى بشؤون “المغتربين” في بلدان الهجرة والاغتراب. ويغطي نشاطُ الدائرة هؤلاء”الغتربين” باستثناء أؤلئك الموجودون في مناطق عمل وكالة غوث اللاجئين (الانروا)، “وتحديدا في البلدان العربية التي تستضيف اللاجئين الفلسطينيين”. غير أنها في عملها تنسق مع دائرة شؤون اللاجئين ومع ممثلي فلسطين في الخارج. كما إن الدائرة هذه تشارك في اجتماعات جامعة الدول العربية ذات الشأن والصلة بالجاليات العربية في الخارج، على حد قول الدائرة في موقعها.

للدائرة كما قلنا موقع على الشبكة الالكترونية، ولها عنوان الكتروني ولديها هاتف وفاكس، ومن المفيد الرجوع الى ذلك الموقع للتعرف عليها وعلى ما قامت وتقوم به من نشاط. وقد دخلت على هذا الموقع بتاريخ 21 يناير/ كانون الثاني 2011 فلم أجد فيه لا نص القرار الذي أنشأ الدائرة للتعرف على سلامته من حيث الاختصاص في اصداره أوالمشمولين به وأحكامه بدقة بالرجوع الى النص ذاته، وتاريخ بداية نفاذه الى غير ذلك من الامور التي تفيد علما بالدائرة واخصاصاتها وهياكلها وعضو اللجنة التنفيذية المسؤول عنها باعتبارها دائرة من دوائر منظمة التحرير. على أي حال إن الذي يهمنا في هذا المقال هو ما وجدناه في الموقع من تحديد للفئة من ابناء الشعب الفلسطيني التي يفترض أن تكون محل رعاية واهتمام هذه الدائرة، وهي فئة ابتدعها القرار الرئاسي المنشء لها، وهذا موجود في الموقع، وهي فئة اسماها القرار بِ “المغتربين”. وهذا أخطر ما في القرار: اسمها والفئة التي تقع ضمن اختصاصها .وليس في الموقع اشارة الى نشاطات قامت بها هذه الدائرة كمؤشر عملي على تنفيذ الهدف من انشائها منذ تأسيسها قبل أربع سنوات، بحيث يمكن الحكم على جدوى وجودها أصلا وفعاليتها فيما أنشئت من أجله. وبالمثل ليس في الموقع ما يعين على ما تقدم من نشاط للدائرة بقيام تنسيق بين هذه الدائرة ودائرة شؤون اللاجئين أو ممثلي فلسطين في الخارج أو مع جامعة الدول العربية. لا شيء عن أي نشاط مع هذه الجهات أو أي نشاط آخر منذ تأسيسها قبل أربع سنوات حتى 15/1/2011.

في هذا التاريخ كتبت الدائرة تعميما وزعته على “الاخوة والرفاق قيادات الجاليات الفلسطينية” في أوروبا، وذلك “لعقد اجتماع موسع في بيت لحم أو رام الله (حسب عدد المشاركين) في النصف الثاني من أيار (مايو) المقبل، للتباحث في أوضاع جالياتنا ودورها سواء في بلدان اقامتها أو في علاقتها مع الوطن ومع المجتمعات الفلسطينية التي هاجرت منها وتحديدا مخيمات اللجوء في الاردن، لبنان،سورية”. وذكر التعميم أن “فكرة هذا الاجتماع الموسع كانت مطروحة على جدول أعمال الدائرة منذ فترة ليست بالقصيرة وأنها نوقشت مع الأخ الرئيس أبو مازن وقد رحب بها وأبدى موافقته على استضافة المشاركين في الاجتماع واعطاء التوجيهات الى الجهات المعنية لتسهيل دخولهم الى الوطن واقامتهم خلال فترة انعقاد الاجتماع.” التعميم لا يحمل توقيعا أو اسما لأحد مسؤول. وقد وصلني من أحد القياديين الشباب في الشتات الاوروبي مستغربا اختيار اواسط مايو/أيار موعدا لانعقاد المؤتمر الي دعت اليه الدائرة ليتصادف مع موعد انعقاد مؤتمر لللاجئين في المخيمات وللشتات في أحد المخيمات كان هذا القيادي من المنظمين له ويشمل أيضا اللاجئين في سوريا والاردن ولبنان.

والحقيقة أنني فوجئت مثله بخطاب كهذا وكانت نصيحتي عدم الاكتراث به والمضي في ترتيبات عقد المؤتمر الذي كانوا قد قرروه والذي جاء بمبادرة من الشباب المنظمين له. فالواضح من اختيار الموضوع والتوقيت بالذات أن الهدف هو اجهاض هذا المؤتمر، أي هو تكرار لمحاولات سابقة تعرضت لها مبادرات فلسطينيي الشتات لاجهاض المبادرات الشعبية، وهذا ما ارفضه من حيث المبدأ، وها نحن نرى هذا التحرك الرائع للشعب التونسي الحبيب لتصحيح الاوضاع في تونس، والشعب الفلسطيني في حاجة لتحرك متواصل لفرض ارادته على استقلال من اشخاص يدعون أنهم يمثلونه وانحرفوا انحرافا خطيرا عن حقوقه، ومن بينها هذا التصنيف لابناء الشعب الفلسطيني. وقد سرني أن هؤلاء الشباب قد واصلوا ترتيباتهم لعقد مؤتمرهم. إن دائرة تستغرق اربع سنوات لتقرر الاتصال المبدئي بمن تأسست خصيصا للاهتمام بشؤونهم وتتعمد اجهاض مبادراتهم الوطنية غير جديرة بالالتفات اليها. ودائرة تقرر عقد مؤتمر من هذا القبيل تحت أعين المحتل ومراقبته وسيطرته الكاملة هي ولا شك دائرة قد دجنها الاحتلال وتتعامل معه على أساس أن كل اوراقها مكشوفة له، وتريد الآن أن تكشف اوراق قيادات الشتات الفلسطيني. ثم هل يملك الاخ الرئيس اصدار تعليمات لتسهيل دخول المشاركين الى ارض الوطن وهو لا يملك تأمين دخوله هو الى ارض الوطن؟ الاذن ياتي من سلطة الاحتلال وليس للرئيس سلطة عليها ليصدر لها تعليمات، ونخشى في الظروف الراهنة أن يصبح مؤتمر كهذا مصيدة لقيادات الجاليات الفلسطينية الشابة للتعرف عليها ، بل واحتمال اصطياد بعضها نتيجة للتعاون الوثيق بين اجهزة الامن الفلسطينية واجهزة أمن دولة الاحتلال.

صنفان من فلسطينيي اللجوء

إن هذه الملاحظات ليست هي التي تمثل الخطر الأكبر، فشبابنا معتاد على مواجهة التحديات والاخطار، ولكن وجه الخطورة هو هذا التصنيف الجديد لفئة كبيرة جدا من أبناء الشعب الفلسطيني، هم فلسطينيو الشتات الذي يهدد ما لهم من حقوق اكتسبوها وفقا للقانون الدولي والقرارات المتكررة للجمعية العامة للامم المتحدة، وبالتالي تاسيس دائرة خاصة في منظمة التحرير تعنى بشؤونهم كَ”مغتربين”، منفصلة عن دائرة قائمة وموجودة كان من المفترض انهم يتبعون لها وهي “دائرة شؤون اللاجئين”. إن معنى هذا أنه لدينا صنفان من الفلسطينيين خارج ارض الوطن: مغتربون ولاجئون. وبموجب القرار الرئاسي الذي انشأ الدائرة الجديدة فإن الذي يميز الصنف الواحد عن الآخر هو أن اللاجئين هم فقط من تشملهم رعاية وكالة الغوث وتحديدا المقيمون في الدول العربية سوريا ولبنان والاردن، وهؤلاء يتبعون لدائرة شؤون اللاجئين. أما غيرهم فهم مغتربون وبالتالي فإنهم لا يدخلون في اختصاص دائرة شؤون اللاجئين ولهم بهذه الصفة دائرتهم الخاصة وهي دائرة شؤون المغتربين. كما يستفاد من الموضوع المطروح بحثه في المؤتمر الذي دعت اليه الدائرة انه يشمل بحث العلاقات بين هؤلاء المدعوين من الشتات “ومجنمعاتهم التي هاجروا منها، وتحديدا لبنان والاردن وسوريا”. هذا تصنيف جديد إضافي هو “الفلسطينيون المهاجرون من مخيمات لبنان والاردن وسوريا”، هذا الصنف يعتبر في عداد المغتربين ولم يعودوا يصنفون كلاجئين بسبب مغادرتهم المخيمات التي كانوا فيها، وانقطاع تبعيتهم لوكالة الغوث من جهة ودائرة شؤون اللاجئين في منظمة التحرير الفلسطينية من جهة أخرى. وتأكيدا لهذا فإن دائرة شؤون المغتربين هذه تشارك في اجتماعات الجامعة العربية المتعلقة بالمغتربين العرب. وهؤلاء المغتربون العرب لا يصنفون في بلدانهم على أنهم لاجئون. والنتيجة التي نخلص اليها هي أن القرار الرئاسي الفلسطيني يؤدي الى إخراج هؤلاء الفلسطينيين من حالة اللجوء ويحرمهم من أهم حق للاجئ وهو حق العودة. ونعتقد أن هذا هو الهدف من وراء انشاء هذه الدائرة، وجاء التلاعب بالاصطلاحات باستعمال عبارة”مغترب” بدلا من لاجئ وسيلة للتأكيد على هذا الهدف. وفَنُّ التلاعبِ بالالفاظ فَنٌَ اتقنته الحركة الصهيونية الى ابعد الحدود، ولا نستبعد أبدا أنه دخل القاموس السياسي الفلسطيني الذي تمارسه اللجنة التنفيذية في لحظة من لحظات الابداع الخلاق التي تهبط على مبدعيها عندما يبحثون عن مخرج يساعد في تلبية الموقف الاسرائيلي، ولا نستبعد أن هذا الالهام قد جاء عند بحث موضوع حق العودة واختصار العدد الذي قد يُسْمَحُ له بممارسة هذا الحق الى الصفر الذي أعلنته ليفني.

إن هذا التصنيف من جانب منظمة تمثل الشعب الفلسطيني ويكرر القائمون على أمرها تمسكها بحق العودة لا يخدم سوى المصلحة الاسرائيلية وهو من بين الاسلحة التي تسلمها المنظمة لاسرائيل وأنصارها للتنكر لهذا الحق. من مواقفها؟

مفهوم الاغتراب

الاغتراب في الاستعمال العربي المعاصر يعني الهجرة الى بلد آخر باختيار المواطن. وقد عرف الفلسطينيون هذا النوع من الاغتراب ايام الانتداب البريطاني بل وقبله حين هاجر فلسطينيون الى امريكا اللاتينية وامريكا الشمالية طلبا للرزق، وبعضهم استقر هناك، والبعض الآخر عاد الى فلسطين مستفيدا من هجرته للمساهمة في بناء الوطن. الهجرة أو الاغتراب كانت خيارية وكانت العودة خيارية ومتاحة ايضا. وهذا هو شأن المغتربين العرب. فمثلا اللبنانيون الذين هاجروا الى ساحل العاج في افريقيا واستقروا هناك باختيارهم عاد قسم منهم مؤخرا الى لبنان، وطنهم الأم، بسبب المشاكل الحالية في ذلك البلد الافريقي، عادوا بدون مشاكل أو اجراءات عودةََ المواطن الى وطنه، واستُقبلوا بالترحاب في وطنهم لبنان. وفي بعض الاحيان يكون لهؤلاء المغتربين الحق في المشاركة في الانتخابات النيابية التي تجري في أوطانهم حتى وهم في بلد الاغتراب. ولا يشترط في المغترب أن يحصل على جنسية الدولة التي يقيم فيها، كما أنه لا يفقد حُكْمَاً صفته كمغترب، من منظور الوطن الام، باكتساب هذه الجنسية أو بالحصول على اقامة دائمة في البلد الذي يغترب اليه، ما دام أن بلد الاصل يعترف به كمغترب. في هذه الحالة الاغتراب هي نسبة الى الوطن الأم وليس للدولة التي اكتسب جنسيتها. وكثير من دول العالم تعترف بازدواج الجنسية اقرارا باستمرار الارتباط بالوطن الآصل.

“المغتربون” الفلسطينيون

هل فلسطينيو الشتات “مغتربون”؟ واذا كانوا كذلك فما هو الوطن المغتربون عنه؟

نلاحظ أولا نقطة هامة عن تسرب الالفاظ ذات الدلالات البعيدة والتي قد لا يلاحظها الانسان العادي ولكن لها دلالاتها القانونية أو النفسانية العميقة الأثر. وأكثر من أجاد هذا وأبدع فيه هو الدعاية الصهيونية والاسرائيلية. فمثلا عندما بدأت اسرائيل عمليات اغتيال الناشطين الفلسطينيين وأخذت الصحافة العالمية تتحدث عن “الاغتيال” الذي هو حقيقة ما تفعله اسرائيل، تحرك دهاة الاعلام الاسرائيليون واخترعوا بدلا من هذا التعبير عبارة “”targeted killing أي “القتل المستهدف” وهو تعبير أخف اثارة ومدلولية من “الاغتيال” أي “assassination”. وفي عملية غسل دماغ قوات الامن الفلسطينية على يد الجنرال الامريكي واعوانه الاسرائيليين توقفوا عن وصف مناضلي حركات المقاومة الفلسطينية بالارهابيين وأصبحوا يوصفون بالمتطرفين أو الخارجين على القانون. وهذه العبارات دخلت قاموس السلطة ورجالاتها فأصبح الجميع يتحدث عن الخارجين على القانون عندما يعتفلون مفاوما، لأن عبارة “مقاوم” أو “رجال المقاومة” تنطوي على وجود الاحتلال وبما يجب أن يواجه به. اما “الخارج على القانون” فقد يكون من ارتكب مخالفة سير او ارتكب جريمة سرقة، والمجتمع يقف ضد من يخرج على القانون، ولكنه يقف مع من يقاوم الاحتلال. وكذلك الامر بالنسبة لعبارة “المتطرفين” و “التطرف”. هذه الفلسفة في التلاعب بالالفاظ يبدو أنها أخذت تستقر في استعمالات السلطة للغة.

لقد أشرنا الى الغرض الذي من أجله وجهت دائرة شؤون المغتربين تعميمها لقيادات الجاليات الفلسطينية. هذا الغرض يشمل بحث العلاقات بينهم وبين تجمعات المخيمات “التي هاجروا منها”، وتحديدا الاردن ولبنان وسوريا. لاحظ استعمال عبارة “هاجروا” ولاحظ المكان الذي نسبت الهجرة منه. عبارةٌ تبدو بريئة وصالحة للتعميم، غير أنها عامرة باحتمالات التطوير. الانسان يهاجر من وطنه، ولكنه لا يعتبر مهاجرا اذا غادر محل اقامةٍ مؤقتة او تواجدٍ خارج هذا الوطن. العبارة مختارة بعناية دون شك، واستعمالها في دعوة صادرة من دائرة شؤون المغتربين ينسجم مع اختصاص هذه الدائرة ويؤكد ان استعمال عبارة “هاجروا” متعمد.

الفلسطينيون الذين غادروا مخيمات اللجوء لم “يهاجروا” أو “يغتربوا” منها بالمفهوم الواقعي او القانوني، حيث أن المخيمات ليست قانونيا أو واقعيا نقاطَ استقرار تكسب المقيمين فيها حق اقامة دائمة وعودة اليها بحرية واختيار. فالوجود فيها عمل انساني من جانب الدولة المضيفة لا يُكسِبُ المقيمَ حقوقاً قانونيةً أو طبيعية، كما هو حال المواطن، لتكون مغادرته لها هجرةً منها. المخيماتُ هي، في الاصل، نقاطُ انطلاقٍ لتنفيذ حقه في العودةِ للوطن الذي ارغم على مغادرته، وليست وطنا يٌهاجَرُ منها، وانما غادروها لملجأ آخر.

تصنيف فلسطينيي الشتات

من الواضح من تعريف “المغترب” الذي سبق أن أشرنا اليه انه لا يصح اطلاقا تصنيف فلسطينيي الشتات بأنهم مغتربون، سواء كانوا ممن غادروا مخيمات لجوء كانوا هم أو ذووهم قد لجأوا اليها، أو من غيرهم من من لم يدخلوا في اختصاص وكالة الغوث. إنهم لاجئون، وليس المعيار هو الوجود في المخيمات،حيث أنهم ما زالوا محرومين من العودة الاختيارية الى ذلك الجزء من وطنهم حيث كانت اقامتهم المعتادة، والاستقرارِ فيه. إن هذا التصنيف الفلسطيني للفلسطينيين من جانب من يدعون تمثيله بأنهم “مغتربون” يخرج الملايين منهم من التصنيف الطبيعي والقانوني لهم كلاجئين سيتمسك به العدو الصهيوني في الانقضاض على حقهم في العودة.

الى أين تكون العودة

إن تصنيف فلسطينيي الشتات بمغتربين بموجب هذا القرار الرئاسي ينسجم تماما مع وثيقة جنيف التي أبرمها الامين العام للجنة التنفيذية مع الاسرائيلي يوسي بيلين وتم التوقيع عليها في احتفال رسمي في مدينة جنيف والتي بموجبها تم التخلي الكامل عن التعريف القانوني الذي اعتمده المجتمع الدولي في دورات متكررة للجمعية العامة للامم المتحدة، وهو عودة اللاجئ الى بيته الذي طرد منه،واعطاء تفسير جديد له بأنه عودة الى اراضي الدولة الفلسطينية التي سيتفق عليها والتي هين على أي حال، في تناقص مستمر. وكشفت الوثائق التي عرضتها فضائية الجزيرة ان السيد كبير المفاوضين الفلسطينيين قد صرح بان ممارسة حق العودة حتى بهذه الصورة المشوهة ليس مطلقا وانما يخضع لشروط أهمها القدرة الاقتصادية للضفة على الاستيعاب. ومن المفيد أن نذكر من تناسوا أن اتفاقيات أوسلو قد نصت على عودة لاجئي 1967 الى الضفة ونصت على تشكيل لجنة فلسطينية مصرية اردنية اسرائيلية مشتركة لتنفيذ هذا الجانب من الاتفاق، ومرت السنوات ولم يحدث شيء ونسيت السلطة ورئيسها واللجنة التنفيذية والمفاوضون هذا الموضوع، ولم يتمسكوا بتنفيذه قبل الحديث عن حقوق اللاجئين الآخرين.
والخلاصة

أولا، إن القرار الرئاسي ووثيقة جنيف التي أبرمها الأمين العام للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير تصرفان ثابتان من تصرفات هؤلاء المسئولين وليسا من بين وثائق فضائية الجزيرة، ولا يطعن فيهما بالتزوير، وهما وثيقتان تشهدان على محاولات للتخلي عن حق العودة أو الانتقاص منه على أقل تقدير.

ثانيا : إن انشاء هذه دائرة شؤون المغتربين بالتلاعب على الالفاظ هو خطوة تنفيذية متعمدة تخليا عن حق العودة بداية بالنسبة لمن سموا بالمغتربين ثم بالنسبة لجميع اللاجئين، وهي خطوات تنسجم تماما مع سياسة اسرائيل في رفض عودة أي لاجئ ومع نصوص وثيقة جنيف سيئة الذكر. ولذا فاننا ندعو الرئيس الى الغاء قراره بانشاء هذه الدائرة وابقاء التعامل مع فلسطينيي الشتات ضمن اختصاص دائرة شؤون اللاجئين كما كان الحال قبل صدور هذا القرار الخطير.

هذا ثالثا: من الواضح أن الرئيس والمفاوضين واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير قد أصابهم جميعا الاعياء ويكفي ما وصلت اليه الامور على ايديهم. وليس عيبا أن يعترفوا بأن هذا هو قصارى ما يستطيعون الوصول اليه، وان واجبهم الوطني يفرض عليهم جميعا التخلي عن مواقعهم وافساح المجال لغيرهم. والتزاما بهذا فإننا نكرر دعوتنا للرئيس واللجنة التنفيذية ورئيس المجلس الوطني أن يقوموا بدعوة المجلس الوطني للاجتماع ليمارس دوره في المساءلة وفي انتخاب اعضاء جدد للمجلس وفقا لنظامه الداخلي وانتخاب لجنة تنفيذية جديدة ورسم سياسة للمنظمة تاخذ في الاعتبار جميع التطورات ووتصحح الانحرافات او الاجتهادات لحماية حقوق الشعب الفلسطيني. إن اجتماعا من هذا النوع لا يجوز اطلاقا عقده في رام الله كما حصل عند ملء شواغر اللجنة التنفيذية او في اي مكان آخر في الضفة أو القطاع تحت حراب الاحتلال ومخابراته والحصار والاتفاق الامني الاسرائيلي وما ينطوي عليه كل ذلك.

ورابعا: أين هي الفصائل وأعضاؤها وقواعدها في الداخل والخارج، إن كان ما زال لديها أعضاء وقواعد؟ هل ينحصر دورها في اصدار البيانات؟ لماذا لا تتحرك هذه القواعد للتصدي لما يجري؟ لماذا،فيما يتعلق بانعقاد المجلس الوطني، تترك الامور في يد الرئيس أو يد رئيس المجلس الوطني لعقد اجتماع للمجلس الوطني في حين أن النظام الاساسي للمجلس الوطني يجيز لربع اعضائه الطلب الى رئيس المجلس دعوة المجلس للاجتماع في موعد ومكان يحددان في الطلب، واذا لم يقم رئيس المجلس بتوجيه هذه الدعوة ينعقد المجلس حكما في المكان والموعد المحددين في الطلب؟ الا تستطيع هذه الفصائل الحصول على توقيعات ربع اعضاء المجلس لتقديم الطلب والتغلب على حالة الجمود والاستقصاء التي فرضت على المنظمة؟ لقد توجهنا بهذا النداء قبل مدة على صفحات هذه الجريدة تفعيلا للشرعية الفلسطينية للخروج من ازمة الجمود الحالية. ومع ذلك لم تتحرك هذه الفصائل وبقيت تشكو من عدم تنفيذ الرئيس بما التزم به من تفعيل مؤسسات المنظمة. ويبدو أن الرئيس، كغيره من رؤساء في الوطن العربي، لا يقلقه عدم الالتزام بالشرعية، وأن الفصائل قد شاخت وفي حاجة الى تجديد شبابها.

الإعلان

لا لتزوير التاريخ إرضاءاً لاسرائيل وأمريكا

أولا: القضية

أَكَّدَ مقالٌ علمي موضوعي نُشِرَ على موقع وزارة الاعلام في السلطة الفلسطينية عُمْقَ الحساسية الامريكية والاسرائيلية لكل ما يطعن أو يشكك في صحة رواية تاريخ فلسطين وتراثها ومقدساتها كما وردت في الاساطير الاسرائيلية المتوارثةِ المسيطرةِ على عقولِ الاسرائيليين وعقول الكثيرِ ممن يسمون بالمسيحيين الجدد، خاصة في أمريكا. كاتب المقال هو الدكتور المتوكل طه، وكيلُ وزارة الاعلام في السلطة الفلسطينية، وعنوانه “حائط البراق”، ونشر في موقع الوزارة بتاريخ 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2010. وكان موضوعُ البحث ملكيةَ هذا الحائط. وبهذا التحديد لطبيعة السؤال يكون البحث قانونيا تاريخيا بامتياز وابعد ما يكون عن السياسة. ومع أنه يبدو أن الدكتور المتوكل ليس من رجال القانون ، الا انه في بحثه استند على مرجع لا يرقى أدنى شك الى سلامته القانونية.

يقول المؤلف، “يدعي الاحتلال الاسرائيلي، زورا وبهتانا، ملكيته لهذا الحائط الذي يسميه بِ ‘حائط المبكى‘أو ‘الكوتيل‘”. ويصف الكاتب مقاله بحق بأنه “يوضح بشكل علمي وموضوعي ونزيه أحقية المسلمين بهذا الحائط، الذي سيبقى حائط البراق، والذي لا يحق لأحد أن يتماهى مع الصهيونية في ادعائها بملكيته، أو أن يتنازل عنه تحت أي ذريعة أو دعوى”.

وكان المؤلف منصفا لنفسه وللتاريخ في هذا التقييم لمقاله، حيث أنه لم يأت بجديد من عنده، يمكن الاعتراض عليه، وانما اعتمد اعتمادا كليا على تقريرٍ للجنةٍ دوليةٍ شكلتها عصبة الامم عام 1930 للتحقيق حصراً في حقوق المسلمين واليهود في الجدار، وذلك بعد اشتباكات دامية وقعت بين الطرفين وكانت محل تحقيق مستقل من جانب لجنة شكلتها حكومة الانتداب على فلسطين، بريطانيا، في ذلك الوقت وعرفت باسم “لجنة شو”. وهذه اللجنة المستقلة التي حققت في الاشتباكات اوصت بتشكيل لجنةٍ دوليةٍ تعتمدها عصبةُ الامم، لتقرير حقوق الطرفين، المسلمين واليهود، في الجدار حسماً للخلاف بصورة نهائية بحيث يعرف كل طرف حقوقه بناء على تحقيق دولي مستقل لا مجال للطعن فيه. وهكذا كان. درست اللجنة موضوع ملكية الحائط، وحققت فيه تحقيقا قانونيا سليما استمعت فيه لممثلي الطرفين ولممثلٍ لحكومةِ الانتداب، وتوصلت الى نتائج أورد المؤلف في مقاله جانبا منها، وكان من بينها أن ملكية الحائط والرصيف الذي أمامه تعود للمسلمين فقط وليس هناك أي حق عيني، مهما كان، لليهود في الجدار. فالدكتور المتوكل لم يبتدع موقفا جديدا وانما أكد وضعا قانونيا اعتُمِدَ دوليا ولم يعد محل جدل أونقاش أو طعن.
ومما يؤيد سلامة موقف المؤلف، وسلامة ما خلصت اليه اللجنة في تقريرها ، أن اللجنة صرحت في عرضها لمواقف الطرفين أن ممثلي الجانب اليهودي لم يدعوا ملكية الحائط ولم يطالبوا بها، على أساس أن ملكية المقدسات هي لله وليس للبشر، وطبيعي، والحالة كذلك، أنهم لم يطلبوا من اللجنة أن تفصل في ادعاء كهذا، ولم يقدموا دليلا عليه. كما أنه تعالى لم يكن طرفا في الدعوى لتسمع أقواله. ولو كان لدى الجانب اليهودي ادنى دليل على ملكيتهم للحائط لما ترددوا في تقديمه ولما أدعوا بأن الملكية هي لله. وبالرغم من هذا الموقف للجانب اليهودي فقد قررت اللجنة أن تحسم الموضوع وتحقق في ملكية الحائط وتقررها.

ثانيا: خصائص اللجنة

من المهم أن نلاحظ أنه لم يكن هناك مؤشر على أي احتمال لمحاباة اللجنة للجانب الاسلامي، بل العكس هو الاقرب للاحتمال، ومع ذلك كانت اللجنة نزيهة في موقفها وقرارها والتحريات التي أجرتها. ويحسن بنا أن نتذكر الآتي:

1- الجهة التي اقترحت تشكيل لجنة التحقيق هذه كانت ‘لجنة شو‘، وهي لجنة بريطانية حققت في الاحداث الدامية وأوصت بتشكيل لجنة دولية لبحث الجانب القانوني للجدار.
2- عندما طرح الموضوع على عصبة الامم بصفتها هي التي وضعت فلسطين تحت الانتداب البريطاني والمسئولة دوليا عن مراقبة تنفيذ بريطانيا لانتدابها هذا، هي التي طلبت من بريطانيا، بناء على تقرير لجنة شو، تسمية اعضاء اللجنة وتقديم هذه الاسماء للنظر فيها من قبل عصبة الامم، واشترطت ألا يكون بين هؤلاء اي بريطاني.
3- تقدمت الحكومة البريطانية باسماء ثلاثة: سويدي وسويسري وهولندي . فوافقت عليهم عصبة الامم، وكلفتهم بالمهمة.
4- بريطانيا التي اقترحت الأسماء هي بريطانيا التي أصدرت وعد بلفور المشؤوم الذي وعدت بموجبه العمل على انشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وعصبة الامم التي اعتمدت اللجنة هي التي أدرجت وعد بلفور في صك الانتداب وعينت بريطانيا دولة منتدبة على فلسطين لتنفيذ ذلك الوعد المشؤوم. ومؤدى هذا أنه لو كان هناك أي شك في أن اللجنة أو أي عضو من أعضائها سيكون محابيا للمسلمين في فلسطين فإنه سيستبعد من اللجنة.
5- كانت الحركة الصهيونية مسيطرة على الحكومة البريطانية وكانت الوكالة اليهودية التي تمثلها جزءا من ادارة فلسطين بموجب صك الانتداب، وبالتالي ما كان ممكنا أن تضم اللجنة محابيا لمسلمين في فلسطين، بل العكس هو الصحيح، أما الجانب الفلسطيني فقد كان مغيبا تماما عن ادارة الانتداب ولم يكن لديه جهة تعترف عصبة الامم أو بريطانيا بواجب التفاهم معها أو استشارتها.
6- حشدت الحركة الصهيونية كل ما لديها من كفاءات دينية ودنيوية لتمثيلها امام اللجنة، ومع ذلك لم تجد ما يمكن أن يدعم ادعاءاً بملكية الحائط، وكل ما وجدته الحركة الصهيونية واعتمدته اللجنة هو التسامح الاسلامي في اقامة الصلوات عند الحائط، وهذا ما استندت عليه في قرارها . وما أكثر ما دفعه المسلمون ثمنا لتسامحهم الذي ينكرونه عليهم اليوم.
7- اعتمدت عصبةُ الامم ودولةُ الانتداب، بريطانيا، التقريرَ وقامت بريطانيا بتنفيذ ما جاء فيه والتزمت به الوكالة اليهودية بصفتها ممثل الحركة الصهيونية في فلسطين طوال مدة الانتداب، ولم يطرح موضوع الحائط للجدل مرة اخرى.

يستنتج مما تقدم أن ما توصلت اليه اللجنة، والذي سننقله نصا فيما بعد، هو اقصى ما يمكن أن يكون لليهود من علاقة بالجدار، وهي علاقة قائمة على تسامح اسلامي وليس على ملكية لليهود في الجدار.
.

ثالثا: موقف المؤرخين الاسرائيليين الجدد من “التاريخ” اليهودي المزعوم

لم يتقدم ممثلو الجانب اليهودي أمام اللجنة الدولية بأي سند تاريخي تدعمه الحفريات التي كانت جارية في فلسطين حتى ذلك التاريخ، ومؤدى هذا أن تلك الحفريات لم تكشف عما يمكن أن يدعم الاساطير التاريخية العبرية. هذا الوضع لم يتغير، بل ازداد تأكيدا. فاسرائيل لم تتوقف لحظة منذ قيامها من جهة واحتلالها لبقية فلسطين من جهة اخرى عن محاولاتها في الكشف عن آثار تؤيد تلك الاساطير، خاصة في القدس ومحيطها، وبوجه أخص في منطقة المسجد الاقصى. ولم تؤد هذه الحفريات التي تواصلت منذ القرت التاسع عشر حتى اليوم الى الكشف عن أي اثر ذي قيمة، وهذا ما قرره علماء الحفريات الاسرائيليون أنفسهم.

ويكفي في هذا الشان أن نترجم جانبا مما قاله البروفيسور زءيزف هيرتسوج C. Z’e’ev Herzog من جامعة تل ابيب في مقال نشرته مجلة جريدة هاآرتس الاسبوعية بتاريخ 29 أكتوبر/تشرين الاول 1999 وهو يستعرض للقارئ العادي نتيجة الحفريات التي تمت على مدى قرن ونصف. لقد لخص تلك النتائج في الفقرة الاولى من بحثه على الوجه التالي. قال: ” هذا ما تعلمه علماء الآثار من حفرياتهم في أرض اسرائيل: لم يكن الاسرائيليون في مصر في يوم من الايام، ولم يتيهوا في الصحراء، ولم يستولوا على البلاد (أي فلسطين) بحملة عسكرية، ولم يورثوها لقبائل اسرائيل الاثنتي عشرة. وحتى ما يصعب هضمه هو أن مملكة داوود وسليمان المتحدة التي توصف في التوراة على أنها قوة اقليمية لم تكن في الحقيقية اكثر من مملكة قبلية صغيرة في أحسن الاحوال.” وقال إن هذه المعلومات منشورة على نطاق واسع ولكن عموم الاسرائيليين لا يريدون أن يعرفوا ذلك لأن هذا يحطم الاسطورة التي عاشوها وهي اسطورة الأمة التي تعيد بناء مملكة اسرائيل.

ويقول الاستاذ شلومو ساند، الاستاذ في جامعة تل ابيب في كتابه “متى وكيف تم اختراع الشعب اليهودي؟” ” لم تكن تربيتي تربية صهيونية. ولكنني، كغيري من الاسرائيليين كانت لديَّ قضيةٌ مُسَلَّمٌ بها وهي أن اليهود كانوا شعبا يعيش في يهودا الى أن نفاهم الرومان عام 70 بعد الميلاد. غير أنني عندما بدأت أدرس الادلة اكتشفت أن مملكتي داوود وسليمان كانتا اساطير”. لا يوجد دليل على النفي أو الطرد من فلسطين. بل يذهب شلومو ساند الى أبعد من ذلك حيث يقرر أن الزعماء الصهيونيين، ومن بينهم بن غوريون، مؤسس اسرائيل، كانوا يعرفون هذه الحقائق وكانوا يرون أن اليهود لم يغادروا فلسطين وانما اعتنق معظمهم الاسلام تدريجيا واندمجوا في الشعب الفلسطيني وأصبحوا جزءاً منه. أما يهود اليوم فليسوا من نسل أولئك وأن غالبيتهم هم ممن تحول الى اليهودية من شعوب أخرى كيهود أوروبا الشرقية ويهود اليمن حين كانت الديانة اليهودية مفتوحة لا مغلقة كما هو حالها منذ قرون.

لقد حفروا في كل اتجاه ونقبوا ولم يعثروا، حتى الآن على الأقل، على أي دليل على وجود الهيكل الذي يزعمونه وبالتالي على أن الجدار الغربي، حائط البراق، أو ما يسمونه حائط المبكى، كان موجودا في ايامهم وانه كان جزءا من هيكلهم المزعوم. وهاهم اليوم يحاولون اعادة صنع التاريخ بتزويره ومحو كل ما يشير لحضارات أو وجود بشري لغيرهم في فلسطين للادعاء بأنها لم تعرف غيرهم شعبا لها. بل إنهم بدأوا عملية اصطناع التاريخ. ففي النفق الذي حفروه تحت الاقصى بنوا كنيسا صغيرا، ولا استبعد أن يدعوا للسياح بأنه كنيس قديم يعود لأيام “الهيكل” المزعوم. إنهم يرفضون الاعتراف بأن القبائل العبرية التي دخلت فلسطين، هذا اذا كان قد دخلتها اصلا، كانت قبائل بدوية رُحَّلاً لا حضارة لديها ولا امكانيات مادية لبناء هيكل كالهيكل الذي يزعمون. وهاهم يسعون لنثر قطع تبدو أثرية في الاردن مثلا لِ “اكتشافها” في حفريات في المستقبل او عََرَضاً ثم الادعاء بأنها آثار قديمة كانت لهم في الاردن. واستقالت وزيرة آثار اردنية لأنها كشفت عن هذه المحاولات، وهي محاولات يؤكدها أردنيون عاديون كشفوها وقرروا بأنها تجري بشكل دائم.

رابعا: رد الفعل الاسرائيلي والامريكي : الشتائم من جهة والتركيز على ضرورة تزوير التاريخ من جهة اخرى

الذين اعترضوا على المقال من الإسرائيليين والأمريكيين تجاهلوا تماما تقريرَ اللجنة الدولية وموقفَ عصبة الامم وموقفَ حكومة الانتداب البريطانية وموقفَ الحركة الصهيونية ذاتها أمام اللجنة أولا وبعد صدور التقرير لاحقا. كما أنهم تجاهلوا تماما ما توصلت اليه الحفريات في فلسطين على مدى قرنين من الزمان، وما استنتجه علماؤهم من تلك الحفريات.

وبحسب جريدة القدس العربي الصادرة بتاريخ 2 ديسمبر/كانون الاول 2010، فإن دراسة الدكتور طه “أثارت سخط اسرائيل وانتقادها حيث اعتبرها ديوان رئاسة الوزراء الاسرائيلية دليلا على عدم جدية الفلسطينيين في أقوالهم بأنهم يرغبون حقا في تحقيق المصالحة التاريخية مع اسرائيل”. ولذا فمفهوم “المصالحة التاريخية” لدى ديوان رئاسة الوزراء هو التنكر للتاريخ والمنطق والقانون، واقامة مصالحة تاريخية مبنية على الباطل والاساطير والادعاءات الصهيونية. كما أن الصحيفة نقلت عن المتحدث باسم وزارة الخارجية الامريكية للصحافيين بي.جي. كراولي قوله: “نحن ندين بشدة هذه التصريحات، ونرفضها رفضا تاما بوصفها خاطئة من منظور الواقع ولا تراعي أحاسيس الآخرين وتنطوي على استفزاز شديد”. ولماذا يدينها ويرفضها السيد كراولي، وكأنه هو الطرف صاحب الحق في الرفض أو الادانة، لأنها “خاطئة من منظور الواقع”. أي واقع يتحدث عنه السيد كراولي؟ اذا كان يعني بذلك واقع الاحتلال، فإنه موقف مرفوض من حيث المبدأ حيث أنه لا يجوز للاحتلال تغيير الوضع القانوني القائم في الاراضي المحتلة لا لمصلحته ولا لمصلحة أية دولة أخرى، هو مرفوض بالنسبة لحائط البراق كما هو مرفوض بالنسبة للمستوطنات. ولكن أمريكا تريد من الفلسطينيين والعرب الاعتراف به وبأي واقع يخلقه المحتل على الارض كما سبق لهم الاعتراف بواقع المستوطنات. إنها سياسة الخطوة خطوة التي تنبه لها الاجداد واحتاطوا لها امام اللجنة الدولية. هذا موقف مرفوض وفي غاية الخطورة من حيث دلالته.

ثم يدعي كراولي هذا أن قول الحقيقة القانونية يكون مرفوضا ومدانا اذا لم يراع أحاسيس الغاصب المحتل ويكون استفزازا له، وكأنما على الذي يرى المحتل ينتهك حقوقه ويصادرها أن يسكت حتى عن ذكر هذه الحقوق حرصا على أحاسيس المحتل وعدم استفزازه. منطق في غاية الغرابة، ولكنه ينسجم مع تصرفات السلطة واللجنة التنفيذية وقادتهما ومفاوضيهما، ويتجاهل أن الواجب الاول والحق القانوني والانساني والتاريخي لكل من يُعتدَى عليه هو التمسك بحقوقه ومقاومة الاعتداء، لا مجاملة الغاصب المحتل والتغاضي عن جرائمه. ويبدو أن هذا الانسان الشديد الحساسية نحو مشاعر الغاصب المحتل لا تهمه مشاعر الضحية الذي تغتصب حقوقه في كل لحظة من نهار أو ليل.

خامسا: الخوف من نزع الشرعية

أضاف كراولي، وهو الناطق الرسمي باسم الخارجية الامريكية وليس الاسرائيلية، في تصريحاته للصحفيين دون خجل قوله: “لقد أثرنا مرارا مع قادة السلطة الفلسطينية ضرورة الاستمرار في مكافحة كل اشكال السعي لنزع الشرعية عن اسرائيل، بما في ذلك نفي الارتباط التاريخي لليهود بالارض”. وهذا هو بيت القصيد. “شرعية اسرائيل”. ومما يلفت النظر أن ما أثارته امريكا مرارا مع “قادة السلطة الفلسطينية” هو ضرورة “الاستمرار” في مكافحة كل محاولات نزع الشرعية هذه. هل من مسئوليات قادة السلطة حماية شرعية اسرائيل فضلا عن حماية أمنها؟ يبدو أن الأمر كذلك. وكلمة “الاستمرار” في تحمل هذه المسئولية لافتة للنظر. فمتى كان من مسئوليات من تكون بلده محتلة ان يكافح “كل أشكال السعي لنزع الشرعية” عن دولة الاحتلال؟ إن واجبه الاول هو تجنيد المعادين لها، لا دفع الاذى عنها. وعلى أي حال حتى في الظروف العادية لا يوجد اي التزام على أية دولة أن تكافح محاولات نزع االشرعية عن أية دولة أخرى ما لم تكن متحالفة معها، ناهيك عن كونها دولة غاصبة محتلة استباحت كل حقوق من خضع للاحتلال. الشعب الفلسطيني يريد أن يعرف من “قادة السلطة” جميع الالتزامات التي التزموا بها، والتي تطل براسها بصورة متتابعة، وحيث أنه هو على الأقل من بين المقصودين بهذا الالتزام، فإنه يريد معرفة معنى “السعي” لنزع الشرعية، وما هو سند شرعية اسرائيل حتى لا يحرجهم أو يقع في المحظور ويعرض نفسه للمساءلة، إذ يبدو أن مجرد القول بأن حائطَ البراق ملكٌ اسلامي يعتبر سعيا لنزع الشرعية، أي أن اثارةَ قضية تخص ملكية بيتٍ أو أرضٍ أو مسجد أو مقاومةَ محاولاتِ اغتصابِ أرضٍ أو اقتلاعِ أشجارٍ يعتبر سعيا لنزع الشرعية عن اسرائيل، استنادا كما يبدو على أن الحركة الصهيونية تعتبر كل فلسطين أرضَ اسرائيل وأن الشعب الفلسطيني لا حقوق له فيها، وتتصرف هي والمستوطنون على هذا الاساس. هل هذا الالتزام هو الذي يفسر عدم تصدي السلطة حتى لحماية المواطنين من الاغتيال على يد قوات الامن الاسرائيلية حتى لو وقع ذلك في رام الله عاصمة السلطة؟ الشعب الفلسطيني يريد ان يعرف أين هو من هذا كله ما دام أن الحكومة الامريكية أثارت هذا الموضوع مرارا ومن الواضح أن قادة السلطة قد التزموا بالتنفيذ.

وفي نظر كراولي يدخل في موضوع نزع الشرعية “نفيُ الارتباط التاريخي لليهود بالأرض”. والغريب في هذا الأمر، وما أكثر الغرائب، أن التاريخ نفسه ينفي هذا الارتباط الذي يريد كراولي تثبيته. هم يعلمون أن إدعاءهم بحق تاريخي ليس له أساس، وأنه ادعاء باطل، ولذا فهم يريدون من الفلسطينيين، ومن غيرهم، أن يمتنعوا عن اثارة أي موضوع يشتم منه أنه يطعن أو حتى يشكك في شرعية وجود أو قيام اسرائيل أو في ارتباطها التاريخي بفلسطين. ويدخل في هذا بطبيعة الحال الحديث عن التاريخ الفلسطيني في فلسطين والآثار التاريخية والحضارية والوجودية للشعب القلسطيني. ويدخل فيه أيضا المحاولات المحمومة التي تقوم بها اسرائيل في ذلك الجزء من فلسطين الذي أعلنت دولتها فيه لطمس كل مظاهر الوجود الفلسطيني فتدمر القرى وتمحو الاسماء أو تغيرها وتصادر الاراضي للتضييق على الوجود الفلسطيني. اثبات الشرعية هو الازمة الخانقة التي تعيشها اسرائيل، وهي المشكلة التي أصبحت تزداد الحاحا، خاصة بعد العدوان الأخير على قطاع غزة والذي أكد للعالم الطبيعة العدوانية الهمجية لاسرائيل. يريد السيد كراولي من الفلسطينيين أن يقفوا مدافعين عن شرعية مزعومة لإسرائيل، ولو كان ذلك على حساب نفي شرعية وجودهم هم ومحو تاريخهم وحضارتهم.هذاهذيانُ جنونِ الاغتصابِ والغطرسةِ وانحسارِ الثقة في اساس الوجود في حد ذاته، اثاره مقالٌ في موضوعٍ صغيرٍ نسبيا ومحدد، فكيف يكون الحال اذا قامت حملة واسعة يتعرف فيها العالم على زيف جميع الادعاءات الاسطورية الصهيونية والاسرائيلية. الوضع مقلق جدا لاسرائيل، ولذا فانها هي وامريكا تريدان من الشعب الفلسطيني أن يمحو تاريخه بيديه ويمنح الشرعية التاريخية لاسرائيل. وهذا لن يكون، حتى ولو صادق عليه جميع قادة السلطة والناطقين باسمها والمفاوضين عنها أو كانوا محمود عباس وسلام فياض اللذين استشهد بهما رئيس لجنة الخارجية في الكونغرس الامريكي.

وقالت الصحيفة إن رئيس لجنة الخارجية التابعة للكونغرس الامريكي،هاوارد برمن، “أصدر بيانا أدان فيه الدراسة. وقال إنه يستنكر بشدة الدراسة وأن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ورئيس حكومته سلام فياض يدركون الاهمية الروحية للحائط الغربي بالنسبة لليهود في العالم. كما اعتبر نفي علاقة اليهود بالحائط الغربي استفزازا وتحريضا لا يقل عن نفي علاقة الفلسطينيين بالحرم الشريف.وطالب السلطة الفلسطينية بادانة الدراسة فورا، واصدار بيان ينفي أن يكون الحديث عن موقف رسمي للسلطة. كما طالب بازالة اي ذكر للدراسة من مواقع السلطة.” أما رئيس وزراء اسرائيل الحريص دائما على السلام وقول الحقيقة فقد نُسِبَ اليه قوله: ” إن نفي الصلة بين الشعب اليهودي والحائط الغربي من جانب وزارة الاعلام بالسلطة الفلسطينية أمر مخز ولا يستند الى أساس.” ما هو الشيء المخزي في التذكير بالحقائق التاريخية والقانونية؟ واذا كان تقرير لجنة قضائية مستقلة تتصف بما سبق وذكرناه لا يصلح سندا فهل تصريحات نتنياهو أجدر بالقبول؟ المخزي والذي لا يستند الى اساس هو موقفه وموقف السلطة الفلسطينية التي استجابت له ولرئيس لجنة الخارجية في الكونغرس الامريكي وللناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية الامريكية.

سادسا: موقف السلطة الفلسطينية

كان موقف رئيس لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس واضحا وحاسما: فقد طالب بازالة هذا المقال من موقع وزارة الاعلام الفلسطينية. وبالفعل فقد أزيل المقال وأصبح البحث عنه في الموقع غير منتج. وأنا مدين للاستاذ محمد العبد الله الذي لفت نظري أصلا اليه وما حل به كما أنه نشر تعقيبا له عليه، ثم تكرم وأرسل لي صورة من المقال والتعقيب ومن مقالٍ للكاتب الفلسطيني بلال الحسن نشرته صحيفة الشرق الاوسط اللندنية بتاريخ 5/12/2010 تعرض فيه لردود الفعل الاسرائيلية والامريكية وأورد جانبا من النتائج والقرارت التي توصلت لها اللجنة الدولية التي درست موضوع حائط البراق.

دخلنا على موقع وزارة الاعلام الفلسطينية بتاريخ 25/12/2010 وبدأنا بحثا في موقع الوزارة عن مقال الدكتور طه الذي كان قد نشر على الموقع في 22/11/2010، فلم يُفتح علينا بشيء، وكنا قد فعلنا الشيء نفسه في 16/12/2010. وتبين من استعراض مواقع أشير فيها الى “وزارة الا علام الفلسطينية” أن المقال قد أزيل من الموقع في اليوم التالي لنشره، وجاء في موقع “اليوم السابع” بتاريخ 2 ديسمبر 2010 ما يلي “بعد ادانة واشنطن، وزارةُ الاعلام الفلسطينية تحذف وثيقة حول حائط البراق من موقعها الالكتروني”. واستند هذا الخبر على ما قالته الاذاعة الاسرائيلية العامة من أن الوثيقة سحبت من الموقع الالكتروني لوزارة الاعلام الفلسطينية حيث أن الرابط الالكتروني لفتح الوثيقة تحت عنوان بحث في موضوع حائط البراق اصبح متعذرا الوصول اليه بعد ادانة واشنطن لهذه الوثيقة. وذكر الخبر أن الاذاعة الاسرائيلية حاولت الاتصال بالمتوكل، ونسبت له القول انه في اجازة وأنه تلقى تعليمات واضحة بألا يتحدث في الموضوع، وانه لا يدري ما اذا كانت الوثيقة قد سحبت. وعلى أية حال فقد نسب اليه القول إنه لم يسحبها هو ولا يعرف ما جرى لموقع الانترنت، وإنه لا يعرف من سحب الوثيقة وأكد أنه لا يقف وراء نشرها على الموقع، وان المقال يعبر عن رأيه وليس رأي وزارة الاعلام أو السلطة الفلسطينية. وهكذا بين هذه التصريحات وازالة المقال من الموقع تم تنفيذ كل ما طُلِبَ من السلطة، وتأكد ما ادعاه الناطقون الرسميون الاسرائيليون والامريكيون.

أما السلطة فانها لم تعترف بأنها ازالت المقال من موقعها، بل إنها أصدرت بيانا قالت فيه، حسبما جاء في “الجزيرة توك”، إن “دائرة الانترنت في الوزارة باشرت العمل من اجل استرجاع الصفحة”. وحتى تاريخ اعداد هذا المقال وهو 25/12/2010 فإنه يبدو أن الوزارة لم تنفذ ما وعدت به. ولعل السبب في ذلك هو ما نسب من تصريح لأحد مسئولي السلطة “من أن حائط البراق وقف للمسلمين ولكن في الماضي كان هناك من المفاوضين عن الجانب الفلسطيني من قد وافق على أن يبقى الحائط تحت سيطرة اسرائيل في اطار تسوية أو اتفاق مستقبلي”. فاذا صح هذا القول، فإن تلميحا بالاعتراض يكون كافيا لسحب المقال. ونحن لا نستبعد مطلقا أن يكون احد المفاوضين قد قال مثل هذا الكلام وسجلوه عليه ثم الزموا السلطة به والشعب لا يعرف عنه شيئا. وما أكثر السوابق . وقد تُقَرِّرُ السلطةُ تشكيلَ لجنة تحقيق في الموضوع، تماما كلجنة التحقيق في من اصدر التعليمات لممثل السلطة في جنيف لتأجيل بحث تقرير القاضي جولدستون من جانب مجلس حقوق الانسان، وبنفس النتيجة: عدم نشر التقرير لأن من اصدر الامر معروف للجميع.

سابعا : النص الكامل لقرار اللجنة

حيث أن تقرير اللجنة ليس متوفرا لدى الجميع وقد لا يكون من السهل العثور عليه، بل وقد يختفي من الوجود، وحيث أن هذا التقرير هو المرة الاولى التي عرض فيها جانب من جوانب القضية الفلسطينية على جهة قضائية أو تحكيمية دولية، فإنه من الضروري معرفة ما قررته اللجنة وتعميمه. وفي ما يلي النص الكامل للقرار، وليس للتقرير .

نص القرار
“1 – للمسلمين وحدهم تعود ملكية الحائط الغربي ولهم وحدهم الحق العيني فيه لكونه يؤلف جزءاً من ساحة الحرم الشريف.
2 – للمسلمين أيضا تعود ملكية الرصيف الذي أمام الحائط.
3 – إن ادوات العبادة التي يحق لليهود وضعها بالقرب من الحائط لا يجوز أن تعتبر أنها تنشئ اي حق عيني لليهود في الحائط او في الرصيف.
4 – إن التعليمات المؤقتة التي اصدرتها ادارة فلسطين في اواخر أيلول/سبتمبر سنة 1929 بشان ادوات العبادة أصبحت قطعية، على أن يجري فيها تعديل واحد وهو: “يسمح لليهود بوضع الخزانة المحتوية على اسفار التوراة ، والمائدة التي توضع عليها الاسفار عند القراءة منها عند الحائط وذلك:
(أ‌) في يوم عيد راس السنة.
(ب)في يوم عيد الغفران.
(ج) في أيام الاعياد الخصوصية الاخرى المعترف بها من قبل الحكومة.”
5 – يمنع جلب المقاعد والسجاجيد والحصر والكراسي والستائر والحواجز.
6 – لا يسمح لليهود بنفخ البوق بالقرب من الحائط.
7 – لا يسمح للمسلمين باقامة حفلة (الذكر) بقرب الرصيف في أثناء قيام اليهود بالصلاة.
8 – تنظيف الرصيف وتصليحه حق من حقوق المسلمين بشرط تبليغ الادارة.
9 – تعمير الحائط تقوم به ادارة فلسطين بالنظر الى انه أثر تاريخي، وانما يستشار المجلس الاسلامي والمجلس الرباني بذلك.
10 – ادوات العبادة التي يجوز لليهود أن يجلبوها معهم يوميا هي:
(أ‌) منضدة تحتوي على قناديل طقسية.
(ب) صندوق (يوضع على هذه المنضدة) من الزنك ذو أبواب زجاجية تضاء فيه هذه القناديل.
(ج‌) طست غسيل (يمكن نقله)
(د‌) وعاء ماء يوضع مع الطست على المنضدة.
11 – لا يجوز وضع ستائر أو حاجز على الحائط أو الرصيف من اجل فصل الرجال عن النساء أو لأية غاية أخرى.
12 – يبقى الباب الخشبي المؤدي من الرصيف الى الزاوية مقفلا ليلة السبت وأيام الاعياد اليهودية في الساعة الخامسة مساء وطيلة هذه الايام حتى غروب الشمس.
13 – توضع أحكام هذا الامر موضع الاجراء اعتبارا من اليوم الثامن من شهر حزيران (يونيو) سنة 1931″.

مما تجدر ملاحظته مدى الدقة والتخصيص في هذا القرار وأنه حريص على قصر علاقة اليهود بالجدار في حدود ضيقة جدا كلها تتعلق بالعبادة ولا تترك مجالا لاكتساب حقوق اخرى مهما كانت استنادا الى التمتع بما سمح به القرار من ممارسات. ونود أن نؤكد ما قالته اللجنة من أن هذه الممارسات لم تنشأ من حق تاريخي في الحائط وانما جاءت بسبب تسامح المسلمين في هذا الشأن. ونلفت النظر على وجه الخصوص الى الفقرة رقم 3 من القرار والتي قالت اللجنة إنها جاءت استجابة لطلب من الجانب الفلسطيني، حيث انه ذَكَّرَ اللجنة باسلوب مارسته الصهيونية (وما زالت تمارسه حتى اليوم بدهاء) وهو اسلوب الخطوة خطوة في محاولة افتعال الحقوق ثم محاولة فرضها. وأشار الجانب الفلسطيني الى ان البداية قد تكون وضع المنضدة والكراسي والستائر الخ ثم تتلوها عملية تثبيت هذه في مواقعها ثم مواصلة استعمالها لمدة ثم الادعاء بانها اصبحت جزءا من الموقع ثم الادعاء بحق عيني في وجودها وبقائها وهكذا. ولذا طالب الجانب الفلسطيني بالتصريح بأن وجود هذه الاشياء في الموقع لا يرتب حقا عينيا عليه. واستجابت اللجنة لهذا الطلب الطبيعي والقانوني. واسرائيل، بصفتها دولة احتلال، لا تملك تغيير هذا الوضع الذي استمر حتى في أيام سلطة الانتداب البريطاني على فلسطين.

ثامنا: وختاما

التحية كل التحية للدكتور المتوكل طه، ويظل السؤال مطروحا: هل السلطة الفلسطينية وقادتها ومفاوضوها والشعب الفلسطيني الذي تُنتهكُ كرامتُه وحقوقُه وتاريخُه ووجودُه كل يوم وتُدَمرُ بيوتُه وتُحرقُ محاصيله وتُقْتَلَعُ اشجارُه وتُصادرُ اراضيه ويُغتالُ أبناؤه ويشردون بأيدي الاحتلال ومستوطنيه يتوجب عليهم حماية أمن الاحتلال ومستوطنيه، والدفاعُ عن أساطيره وشرعيته المزعومة، والتنكرُ، من اجل ذلك، لتاريخهم وتزويرُه؟
هل هذا هو واجبهم أم إن واجبهم شيء آخر؟

ثورة الحب والتاريخ وتحمل المسؤولية

ثورة شباب مصر في الخامس والعشرين من كانون الثاني (يناير) 2011، هي ثورة الحب والتاريخ وتحمل المسؤولية، الحب لمصر ولتاريخ مصر، وتحمل المسؤولية لاستعادة مصر مما حل بها. هي ثورة عبرت عنها دمعة انسابت من عين الشاب وائل غنيم، وكلمتان نطق بهما: ‘دي بلدنا’ في برنامج الاعلامية المصرية الفذة منى الشاذلي ‘العاشرة مساء’ التي لم تكن في معاناتها أقل من المعاناة التي كان يحس بها وائل. ‘حب’ مصر و’تاريخها’ تحركا هذه المرة لا للتفاخر والتباهي من قِبَلِ اعلاميين أو دبلوماسيين جهلة. لا، ليس للتباهي والتفاخر الاجوفين، وإنما ليكونا وقودَ ثورة ٍعلى نظامِ حكم أهان البلد وأذله. لقد انبعث ذلك الحب الغامر والوعي المتوثب لأعماق ذلك التاريخ ليوقظا في الشباب ما حاول نظام متخلف أن يطمسه من دور ريادي حقيقي لبلد كان دائما هو الطليعة في التقدم والعطاء.

في هذه اللحظة من عمر التاريخ في يوم الجمعة الموافق الحادي عشر من شهر شباط (فبراير) عام 2011، التي أكتب فيها هذا المقال طلع على التلفزيون المصري ‘نائب’ الرئيس ليعلن ‘تخلي’، لا تنحي، مبارك ونظامه، عن الرئاسة، ولأَسمَعَ زغرودةَ نوارة نجم وتقريرَها على فضائية الجزيرة، وصوتَها البهيج المتهدج بالبكاء معلنةً برنامجَ الشبابِ لمصرَ الشباب، والانطلاقةَ في مشوار الحرية والريادة الحقيقية الجديرة بمصر. وفي فرحتها، لم تنس نوارة تونس ولن ينساها أي عربي. فأهلا وسهلا بتونس والقاهرة وفضائية الجزيرة في كل بيت عربي.

سُئِلَت نوارة، أمام من سيكون الجيش مسؤولا الآن بعد رحيل مبارك، فكان جوابها السليم من دون تردد ‘أمامنا’. نعم الجيش مسؤول أمام الشعب الذي أشعل الثورة وقدم الشهداء وانتصر، وكانت تلك التحية العسكرية العظيمة في أدائها ومعناها من جانب الناطق الرسمي باسم القوات المسلحة، تعبيرا صادقا عن المعاني العميقة لتلك اللحظة التاريخية التي استرد فيها الشعب مسؤوليته عن الوطن ومستقبله. هؤلاء كانوا شهداء الوطن والشعب والجيش، استشهدوا من أجل أن يعيش الوطن والشعب والجيش وجودا كريما أبيا موحدا.
في مساء ذلك اليوم أيضا استضافت منى الشاذلي في برنامجها على دريم الثانية (وَمَنْ غيرُ منى عنده حِسُّ الثانية لا الدقيقة) الاستاذ

الكبير محمد حسنين هيكل، الذي بدا على الشاشة وقد استعاد شبابه وحيويته، والافكارُ تتزاحم لديه، فتتحرك مضامينها ايحاء وإن لم تكتمل نطقا. ولكنه كان واضحا جدا في موضوع المسؤولية: الشباب لا الجيش هم الذين قاموا بالثورة، ولذا فالجيش مسؤول أمامهم. ونضيف بأن هؤلاء الشباب استطاعوا أن يجندوا الشعب، كبارا وصغارا، رجالا ونساء، أفرادا ومنظمات، مسلمين ومسيحيين، إخوانا وعلمانيين وليبراليين وناصريين. الشعبُ كله استطاع هؤلاء الشباب أن يحركوه ليحققوا بذلك ما عجز الجميع عن تحقيقه، وهو أن الشعب هو صاحب السيادة والسلطة، وأنه هو المسؤول عن مصير الوطن وجميع المؤسسات مسؤولة امامه، وأنه، بالتفافه حول الشباب واستجابته لدعوتهم يكون قد فوضهم لتحمل المسؤولية باسمه.. واذا نازعهم منازع، فالشعب موجود.
إن شعور هؤلاء الشباب بالمسؤولية عن الوطن وتاريخه ومصيره كان المحرك الاساسي لكل ما فعلوه. ومن الواضح أنهم كانوا على وعي عميق بهذه المسؤولية. وهذا الاحساس بالمسؤولية انتقل بسرعة انتقال رسائلهم على الانترنت الى جميع طبقات وفئات الشعب. وهذا الكلام ليس إنشاء، وانما كان حقيقة على أرض الواقع يمارسها ابناء الشعب ويدركها كل متتبع لما كان يجري. لقد أذهلت العالم كله تلك الظاهرة التلقائية التي لم تألفها القاهرة، ولم يألفها اي مجتمع آخر عندما تكاتف الرجال والسيدات والشباب والصبايا والصغار والكبار في عملية تنظيف ميدان التحرير والشوارع المؤدية اليه. ربات البيوت المجاورة نزلن من بيوتهن ومعهن أدواتهن ليشاركن في العملية. ولم يقتصر هذا العمل التطوعي المجتمعي على تنظيف الميدان، بل كان لافتا لنظر الكثيرين تلك الترتيبات المختلفة الاهداف التي انتشرت في الميدان، بحيث أنها اشتملت حتى على ملاهٍ للاطفال، بحيث تستطيع الامهات المشاركة في الاحتجاجات والنشاطات، وهن مطمئنات على اولادهن الصغار. هذه الظاهرة لفتت أنظار مراسلة هيئة الاذاعة البريطانية (بي.بي.سي) فرسمت مخططا للميدان ووضعت عليه الاركان المخصصة لمختلف النشاطات، وفاتها موقع واحد هو الموقع الذي خصص للاغراض التي تفقد أو تضيع مثل الهواتف النقالة أو حوافظ النقود، حيث كانت تسلم لموقع معين، بحيث يستطيع اصحابها أن يستردوها. والمخطط هذا والبيانات موجودان على موقع الهيئة.
نحن اذن امام ظاهرة مهمة في المجتمع العربي، حيث أن هذا الذي شاهدناه في القاهرة ومصر عموما كان حاضرا ايضا في تونس

العاصمة وتونس المدن والقرى. فقد ظهرت اللجان الشعبية في كل مكان عندما اختفى اعوان الشرطة وتعرض الأمن العام للخطر، لم يقف الشباب يلوم الشرطة ويلعن المحافظ ووزير الداخلية وإنما واجه المشكلة وشعر بمسؤوليته حيالها ووجد الحل. اما حساب المقصرين فيأتي في ما بعد. وفي القاهرة عندما لوحظ خطر محاولة نهب المتحف المصري وقف مخرج سينمائي مصري لدى فضائية الجزيرة يلفت النظر لهذا الخطر على تاريخ مصر ويدعو الجيش للتحرك لها الغرض، الا أن الشباب كانوا قد تنبهوا لهذا الخطر وطوقوا المتحف باجسادهم وحموه وحموا معه تاريخ وطنهم.

هؤلاء الشباب الذين قاموا بمعجزة القرن الواحد والعشرين لم يكونوا عاطلين عن العمل او فقراء نهشهم الجوع، وانما كانوا في غنى عن أن يعرضوا انفسهم للبطش والاهانة وأن يكتفوا بتوجيه اللوم والشتائم للمسؤولين المقصرين في اداء واجبهم. وهذا ما فعله غيرهم من مثقفين وآخرين غيرهم. إن ما يميز هؤلاء الثوار أنهم أحسوا بمسؤوليتهم هم عن تصحيح الخطأ ومعالجة اسبابه، وهذا الشعور بالمسؤولية دفعهم للبحث عن طريقة للتغلب على عامل الخوف من النظام الذي يستطيع أن يرهبهم كأفراد، ولكنه عاجز عن ارهابهم كشعب ثائر. القوة في الجماعة الملتزمة التي يحركها شعور عميق بالمسؤولية. هذه هي نقطة التلاقي، وفي سياقها تنتفي الاسئلة الخارجة عن هذا النطاق، ويتجه الجميع لتنفيذ الالتزام الذي ترتب على الشعور بالمسؤولية.
هذا الشعور بالمسؤولية المجتمعية الذي يولد الاستجابة التلقائية هو ما كان مفقودا في مجتمعاتنا العربية كلها، وليس في تونس ومصر فقط. وهو الذي يجب التركيز عليه للانتقال الى مجتمعات فاعلةٍ للتقدم والتاريخ، وليست قابعةً في زوايا الاهمال والاستغلال. ومما يدعو للاعجاب والافتخار بشبابنا الذي قام بالثورة، أن مجتمعاتنا العربية تكاد تكون خالية من أي منهج يدرب على تحمل المسؤولية وممارستها. وإننا نرجو ألا يفوت الشباب هذه الفرصة التي خلقوها بأيديهم وبفكرهم النير. نرجوهم الحفاظ على منظمات المجتمع المدني واللجان الشعبية التي أوجدوها وتطويرها، وتشجيع النشاط المجتمعي والجمعي والتمسك به، والمشاركة في الفكر والعمل. إن التجربة التي مر بها شبابنا في جمهورية ميدان التحرير قلما تتكرر اذا لم يحافظ الشباب على فلسفتها. في ميدان التحرير التقى أبناء الشعب جميعا، من مختلف الخلفيات الفكرية والاجتماعية والعقائدية، وكان السائد هو الاحترام الكامل للاختلاف كحق من حقوق الانسان، وأن الاختلاف هو الاسلوب الأمثل للوصول الى الأفضل. وكان الكل يشعر بالأمان وبالمساواة مع الآخر. لم تتعرض فتاة واحدة للتحرش في ميدان يعج بمليونين من البشر، ولم يقع تلاسن بين إخواني وعلماني أو بين مسلم ومسيحي. ساد الوئام والاحترام المتبادل وتقاسم العمل الجماعي التطوعي في خدمة الهدف، وهو هدف لم يكن طائفيا أو فئويا أو عقائديا ضيقا، ولذا شارك فيه الجميع من دون تحفظ. لم تكن هناك زعامة تفرض رأيها. والسبب في هذا كله كان الشعور بالمسؤولية الذي أدى بدوره للبحث عن افضل السبل لتحقيقها، وهذا أدى ويؤدي بدوره الى البحث في الافكار واحترام كل ما يطرح منها ومناقشته في موضوعية ثم الاتفاق على الاسلم.

الدرس المهم الذي يجب أن نحرص عليه هو الحاجة الماسة لتربية أجيال متعاقبة على تحمل المسؤولية وممارستها ممارسة سليمة، بحيث تصبح هذه الظاهرة سليقة ترافقنا في كل موقف، وتذكرنا باننا سنكون نحن المسؤولين عن الخطأ والفساد، اذا لم نتحرك لمواجهته. والمسؤولية هذه هي في الحقيقة مسؤوليتان: مسؤولية الفعل من جانبنا لتصحيح الوضع من جهة، ومسؤولية المحاسبة على التقصير فيه من جهة ثانية، حتى لا يكون هناك ركود أو ارتداد، وبدونهما معا لا تستقيم الامور. هذه التربية على تحمل المسؤولية وممارستها يجب أن تصبح جزءا أساسيا من المنهج الدراسي والتربوي، ليحل محل مناهج التلقين المتداولة التي تشل العقول وتباعد ما بين الانسان وما يمكن له أن يفعل لو اعتاد على التفكير وتحمل مسؤوليته عن مواقفه وأفكاره.

آنَ لعصور الاستعباد والاستبداد والتخلف أن تنتهي، ولعصور الحرية والوعي بالمسؤولية وممارستها الفردية والجمعية أن تنطلق، وآنَ أن يرتفع صوتنا الى عنان السماء بصرخة عمر بن الخطاب ‘متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم احرارا’. لقد آنَ لشعوبنا أن تتحمل هي المسؤوليةَ عن الوطن ومسيرته ومصيره، وآنَ لها أن تبلغ الرشد وتنهض هي بالمسؤولية. وها هي البشائر أطلت، والحمد لله، والمسيرة بدأت واننا لواصلون، بإذن الله وهمة شبابنا.
شكرا يا شبابنا لقد اعدتم لنا حماسا وأملا كادا أن يختفيا من حياتنا.

من مؤسسي منظمة التحرير الفلسطينية والهيئة الوطنية لحماية الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني

من تونس الى مصر والبقية تأتي: الشعب مصدر السلطات والثورة الشعبية مصدر الشرعية

عادت الروح بكم يا شبابنا في تونس وفي مصر. فما أحلى الرجوعَ بكم اليكم. لقد دخلتم تاريخ هذه الامة من أوسع أبوابه بأنكم كنتم أول من ثار على الاستعمار الداخلي، ويقيني أنكم ستنتصرون. إن لشعبنا العربي تاريخا مجيدا في الثورة على الاستعمار الاجنبي والانتصار عليه. أما الثورة على الاستعمار الداخلي فانتم أول من أشعلها في ثورتين متقاربتين زمنيا، وملتحمتين في التوجهات، وكأنهما على موعد. وهذا التقارب الزمني سيكون دافعا للوصول بالثورتين الى أهدافهما، وكل واحدة منهما تساند الآخرى، وتستفيد من ابتداعاتها الخلاقة في هذا المضمار الذي لا تجربة فيه للشعب العربي، وهكذا تصبح هذه التجربة الشبابية العربية الدليل الثوري لشبابنا في أقطار اخرى، بل ولشباب العالم كله، حين تحين لحظة التغيير. وأهم قاعدة في هذا الدليل الثوري هي الانتصار على حاجز الخوف، وأن في قدرة الشباب العربي التصدي له والتغلب عليه، وفي قدرته أن يُحدثَ التغيير. لقد اكتشفتم الطريق الى ذلك وهو قوة الشعب، قوة الجماهير الواعية، عندما تتحرك وراء هدف محدد تستوعبه وتؤمن به هذه الجماهير، لم تعد تخيفهم الوحوش التي تربيها وزارات الداخلية في وطننا العربي وغيره، وتعلمت كيف تواجهها وتدحرها الى جحورها.

وبهاتين الثورتين أكد الشباب على قاعدة كانت غائبة عن دائرة الفعل والتأثير، هذه القاعدة هي أن الشعب تولى الفعل بنفسه وقضى على فكر عشش طويلا في اذهاننا، وهو الاعتماد على السلطة في أن تتحرك، هي المسؤولة وهي المقصرة، وننسى أن الشعب نفسه قادر على الفعل وأنه هو المسؤول الاول عن نفسه. وعندما تنبه الشباب الى أن الشعب هو مصدر السلطات تنبه أيضا لمسؤولية الشعب عن الفعل، ونَفَّذ. لقد انسحبت قوات الأمن فتنادى الشباب وشكلوا لجان الامن في كل شارع لحماية الناس والممتلكات العامة والخاصة، واذا بالشعب يدرك مسؤوليته عن حماية تاريخ الوطن من المؤامرات عليه، فيطوق الشباب المتحف المصري ويحولون دون نهبه، كما نهب متحف بغداد في غفلة من الوعي لما يجري. وعندما امتنع الامن قام الشباب، مسلمين ومسيحيين، بحراسة دور العبادة، من مساجد وكنائس، وقام الشباب بالاشراف على تنظيم حركة المرور، بل وكنس الميدان والشوارع وتنظيفها. هذه أمور كنا نتصور أنها من مسؤولية السلطات قبل أن يتنبه الشباب الى نقطة مهمة جدا، وهي أن هذه كلها أمورا تهمنا وهي في الاساس مسؤوليتنا.
لقد تصور كثيرون أن هذا اليوم لن يأتي، وأن تفاهات العصر الامريكي، التي ملأت الكثير من فضائيات ناطقة بالعربية قد شغلت هؤلاء الشباب عن قضايا أمتهم ووطنهم ومصيرهم. كثيرون ظنوا أن ذلك اليوم لن يأتي. وفجأة تشتعل النار، حقيقة ومجازا، واذا بشباب هذه الامة في تونس يخرجون على عالم لم يصدق ما سمع ورأى، ولكنه تجاهل أن هؤلاء الشباب نشأوا وترعرعوا وهم يغنون لشاعرهم الفذ ابو القاسم الشابي منشدين: ‘اذا الشعب يوما اراد الحياة *** فلا بد أن يستجيب القدر’. ‘ولابد لليل أن ينجلي *** ولا بد للقيد أن ينكسر’. أبو القاسم رحمه الله، توفي عام 1934 ولما يكمل الخامسة والعشرين من عمره، ولكنه كان صاحب روح شفافة هدته الى المفتاح الأكيد لتحرر الشعوب وتقدمها، هذا المفتاح هو ‘الارادة’. وعندما يكتشف الشعب هذه الارادة التي سماها أبو القاسم ‘ارادة الحياة’، فإن هذه الارادة لا بد وأن تنتصر اذا مارسها الشعب وفَضل صعود الجبال على البقاء أبد الدهر بين الحفر، كما قال أبو القاسم. وهذه هي عظمة تحرككم.

لقد فرضتم يا شباب تونس ومصر على العالم صورة أخرى للانسان العربي غير تلك التي أشاعها أعداء ومغرضون، وأنظمة يسيطر عليها الجهل والفساد وانتهاك الحقوق، أو حركات جاهلة تنسب نفسها للاسلام، ولا تنجح الا في جلب الكراهية له ونشر البلبلة في أوساط الشباب الذين تربوا على اسلام انساني مستنير متسامح وسمح، يحترم خيارات الاخرين لأنفسهم، والله وحده، وليسوا هم، هو صاحب القرار. ومن أروع ما حصل في ميدان التحرير في القاهرة أن أحد المشاركين حمل يافطة كتب عليها ‘الاسلام هو الحل’، فانزلها الشباب، ولم تنتج عن ذلك مشكلة. هذا شعار مضلل ومبتز بسبب غموضه من جهة، وشموليته من جهة ثانية، وادعاء رافعيه أنهم هم وحدهم المسلمون حقا والفاهمون له حصرا من جهة ثالثة، ومُفرِّقٌ لأبناء الوطن الواحد من جهة رابعة، وليس في تاريخ الاسلام كله من رفعه، سوى مُحدَثينَ يضللون البسطاء بشعار جذاب من أجل الوصول الى السلطة. كما أن من أكبر الادلة على التآلف في الوطن أن المسيحيين وقفوا حرسا من البلطجية الذين كانوا يهاجمون المتظاهرين في ميدان التحرير أثناء أداء اخوانهم المسلمين لصلاة الجمعة يوم جمعة الغضب.
لقد نصت دساتير معظم الدول العربية، التي لديها دساتير، على أن ‘الشعب مصدر السلطات وانه يمارسها على الوجه المبين في الدستور’. الشعب اذن هو السيد، وليس الرئيس أو وزارة الداخلية وزبانيتها. جميع اجهزة الدولة بما فيها الرئيس والمجالس النيابية تتصرف نيابة عن الشعب وبموجب الوكالة التي منحها الشعب لها. وفي هذا لا فرق بين النظم الدستورية الحديثة والشريعة الاسلامية. فالبيعة في الشريعة الاسلامية هي وكالة ايضا، وقد عبر عنها أبوبكر وعمر أدق تعبير، عندما خطبا في الجماهير بعد المبايعة. قال كل منهما: ‘اطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فاذا خالفتهما فلا طاعة لي عليكــم’. معنى هذا بلغة العصر أن طاعة الحاكم واجبة فقط ما دام ملتزما بسيادة القانون، وفي المقدمة الدستور الذي هو القانون الاعلى، فاذا خرج عليه فلا طاعة له. والبيعة والدستور والقانون وما يلتزم به الخليفة أو الرئيس أو القائد أمام الشعب للحصول على تأييده ملزم لهؤلاء لأنهم يكونون قد وصلوا الى السلطة بالارادة الشعبية القابلة لما عرض عليها. هذا هو العقد بينهما. فاذا خالف أحدهم هذه الارادة الشعبية فإنه يكون قد أخل بهذا العقد ويكون من حق الشعب أن يعزله، وليس له أن يبقى في السلطة تغليبا لارادته على ارادة الشعب.

الثورة الشعبية تعبر عن ارادة الشعب، الذي تنبثق منه جميع السلطات في الدولة، من تشريعية وتنفيذية وقضائية. ومعنى هذه الثورة أن الشعب غير راضٍ عن الحاضر وأنه لا بد من التغيير. وشعبانا في تونس ومصر عبرا عن عدم رضاهما، وعن الحاجة للتغيير بطريقة حضارية متميزة، وهذا من حقهما ويجب أن تنفذ ارادتهما التزاما بهذا المبدأ الدستوري والشرعي.

هناك من يدعي أن المتظاهرين ضد النظام يمثلون أقلية وهناك أغلبية قررت البقاء في المنازل، وهذه الاغلبية، في رأي هؤلاء، تعتبر مؤيدة للنظام أو على الأقل لم تعبر عن رأيها، ولذا فإن المتظاهرين لا يمثلون سوى ارادتهم هم، وليس ارادة الشعب، هكذا يقولون. هذه مغالطة مرفوضة، فأولا في الانتخابات النظامية لا يحسب للقاعدين في بيوتهم حساب، وانما الحساب للمشاركين فقط. ولذا، وفي الوضع المصري، فإن المقارنة تكون بين من خرجوا محتجين ومعارضين للنظام، ومن خرجوا مؤيدين له، حتى وإن كانوا من البلطجية الذين اشتراهم أعضاء من الحزب الوطني أو كانوا من رجال الامن المركزي. وواضح جدا من متابعة الفضائيات الرسمية وغيرها، أنه لا مقارنة بين الاثنين: المعارضون لبقاء النظام هم بالملايين، في حين أن وسائل الاعلام الرسمية عجزت عن عرض مظاهرات أو اعتصامات أو تحركات تأييد ذات بال. واذن فالرأي الغالب شعبيا يكون هو المُطالِبُ برحيل النظام. هذا أولا، وثانيا فإن الرئيس المصري الحالي لم ينتخبه سوى 23 في المئة من الناخبين، على أحسن تقدير. فاذا طبقنا منطق المعترضين فإن 77 في المئة، الذين لم يصوتوا وبقوا في بيوتهم يعتبرون ضد انتخاب الرئيس، فيكون بذلك رئيسا غير شرعي من الاساس.

واذن فإن المظاهرات في الحالتين التونسية والمصرية اسقطتا النظام بمطالبتهما برحيله، وهذا هو المنطق القانوني للثورات، وبسقوطه يسقط كل ما تنادي الثورة بسقوطه. وفي الحالتين فقد طالب الثائرون بسقوط النظام بأكمله، واقامة نظام جديد. وطبيعي أن يشمل السقوط رئيس النظام، خاصة اذا تبين أن الرئيس هو المسيطر فيه، وأن يشمل كذلك المجالس التشريعية التي كانت في القطرين العربيين تزويرا سافرا للارادة الشعبية.

الارادة الشعبية التي أعلنت عن نفسها بثورتها على النظام القائم، هي التي تحدد النظام الجديد باعلان القطيعة بينها وبين النظام الذي ثارت عليه، تأسيسا على أن الشعب هو مصدر السلطات وأنه صاحب السيادة. والقطيعة تعني اعلان الارادة الشعبية بالتخلي عن ذلك النظام، وبالتالي التخلي عن الإجراءات التي حددها النظام الذي ثارت عليه هذه الارادة. والسبب في ذلك بسيط، وهو أنها كانت ملتزمة بهذه الاجراءات وقابلة لها قبل الثورة على الأصل، وهو النظام، لأنها كانت حينئذ معبرة عن ارادتها، غير أنها عندما تثور معلنة عن ارادة في التغيير، فانها لا يمكن أن تبقى مقيدة بما ثارت عليه، وأن تضع تنفيذ ارادة التغيير هذه رهينة لدى من أعلنت ثورتها عليه. هذا منطق لا يستقيم لأنه يحرم الشعب من حقه في ممارسة ارادة التغيير. إن الذين يقولون بأنه لا يجوز تعديل الدستور مثلا الا بناء على طلب رئيس منتخب، يغيب عنهم أن هذا صحيح في الظروف العادية، اذا كان النص الدستوري كذلك، لأن الرئيس يكون في تلك الظروف يتمتع بالشرعية بناء على الارادة الشعبية التي جاءت به أصلا. أما عندما تتحرك الارادة الشعبية في الاتجاه المضاد وتسقط النظام كله فإن الرئيس يسقط مع سقوط النظام، والا بقي متحكما في ما يجوز للارادة الشعبية أن تحققه في ثورتها وما لا يجوز، ويصبح في استطاعة رئيس مخلوع أن يتحكم في ارادة الشعب. هذه نتيجة مرفوضة أصلا. ولذا فقد درجت الثورات على اختيار رجالها أو رجال تثق فيهم لتنفيذ برامجها تحت اشرافها، وممارسة سلطة الحكم باسمها، وهي سلطة تستمد شرعيتها من شرعية الثورة التي جاءت بها.

ومن أغرب الامور ما طالب به البعض من أن يعرض على الرئيس الاعتراف بشرعية الثورة. هذا الطلب الغريب هو نقيض منطق الثورة ومنطق أن الشعب، وليس الرئيس، هو مصدر السلطات. الشعب هو من له السيادة وهو الذي يختار الرئيس. فكيف يُطلَبُ من الوكيل التابع الاعترافُ بشرعية الأصيل؟

إن الثورتين الشعبيتين في تونس وفي مصر تعتبران خطا فاصلا في تاريخ أمتنا العربية، ليس فقط لأنهما تعبران عن نقلة نوعية في الوعي الشبابي العربي، وانما أيضا لما كرستاه من قيم في ثورات الشعوب في مواجهة الاستعمار الداخلي. وقد ابرزت هاتان الثورتان ظاهرة كانت غائبة عن الادراك المباشر، وهي وعي الشعوب العربية بقدرتها على التغيير الجذري عند الحاجة، بصفتها مسؤولة عنه وأنه حق لها. كما أنهما قد ابرزا، كما نتمنى، وعيا لدى القادة والملوك والرؤساء أنهم لا يملكون ممارسة الاستبداد والطغيان وانتهاك الحقوق، حيث أن هناك شعوبا أثبتت أنها واعية لمقدرتها على تصحيح الاوضاع جذريا، وأنها مسؤولة عن عملية التصحيح هذه مهما كان مداها. انهما ثورتان حضاريتان ستظل الامة العربية تؤرخ بهما على أنهما نقطة تحرر الارادة العربية، وأنهما نقطة بداية لتاريخ جديد.

‘ من مؤسسي منظمة التحرير الفلسطينية