ليبيا تسترد اصالتها.. المحافظة على الاستقلال اصعب من نيله

حَدَثٌ تاريخيٌّ معاصر بكل معنى الكلمة وَقَعَ في ليبيا في منتصف ليل الثامن من هذا الشهر، شهر آب/أغسطس سنة 2012، ودام فقط حوالي اربعين دقيقة من مطلع التاسع منه. كان حدثا فريدا من نوعه في التاريخ العربي، وربما في تاريخ الثورات، حيث تخلى مجلس قاد ثورة منتصرة عن سلطاته، وسلمها لهيئة منتخبة لم يٌزَوِّرْها واستبعد نفسَه من عضويتها. كان ذلك الحدث في مدينة طرابلس، العاصمة الليبية. بعد منتصف تلك الليلة التاريخية حقا عاد المستشار مصطفى عبد الجليل ورفاقه اعضاء المجلس الوطني الانتقالي الى بيوتهم ليدخلوا التاريخ من أوسع وأشرف ابوابه، بعد أن سلموا السلطة والامانة للمؤتمر الوطني العام الذي جرى انتخابه، وفاء بالعهود التي قطعوها وهم يقودون المعركة، ودون مساومات على مراكز أو ادوار أو مزايا. بل إن رئيس الجلس الانتقالي أعلن استقالته من الوظائف التي كان يشغلها، وكرر استعداده للمحاسبة عن ماضيه وهو مسؤول في النظام المنهزم، كما أنه أعلن، خلافا لما أشيع، ان المجلس الوطني الانتقالي لم يلتزم بشيء لأية دولة أجنبية أو يدفع اي شيء لأية دولة في مقابل ما قد تكون قدمته من مساعدة أثناء الثورة. أي أن ليبيا خاضت ثورتها وجاءها الدعم وانتصرت دون أن تثقل الوطن بثمنٍٍ لذلك. وبهذا تأكدت حرية التصرف للشعب ومؤسساته، وفي مقدمتها المؤتمرٌ الوطني العام، في التعامل مع الجميع دون ان تكون هناك قيود أو شروط مسبقة، ولا امتيازات بترولية أو قواعد عسكرية او تحالفات.
في تلك الليلة ذكَّرَ رئيسُ السن، السيد محمد علي سليم، الحضورَ بحكمةٍٍ أطلقها مؤسس الدولة الليبية، المرحوم الملك ادريس السنوسي وما زالت تتردد على السنة الليبيين، وهي ‘المحافظةُ على الاستقلال أصعبُ من نيله’. وهو تذكيرٌ في محله دون شك في مرحلة اعادة البناء في جميع مناحي الحياة، وليس فقط في الجانب الدستوري والقانوني.
لقد عاد الشغب ليسترد دوره وحقوقه ويفرر التطبيق السليم لقاعدة الشعب مصدر السلطات، فكانت الثورةُ الخطوةَ الاولى حيث حمل الشعبُ السلاحَ حقيقةًً لا ادعاءًاً، لحمايةِ نفسه وسيادةِ قراره، وكانت الخطوةُ الثانيةُ التعبيرََ عن ارادته السياسية بممارسة حقه في انتخاب ممثليه، فكان انتخابُ المؤتمر الوطني العام، ثم كانت الخطوةُ الثالثة في تسليم واستلام السلطة باسلوب حضاري سلس استيفاءاً لخطوةٍ ضروريةٍ للبداية السليمة في مرحلة اعادة البناء.
وللحقيقة والتاريخ فإن عملية اعادة البناء قد بدأت مع اشتعال الثورة بقيام المجلس الوطني الانتقالي في الجزء الذي تحرر من أرض الوطن ليضم من البداية ممثلين عن مختلف ارجائه ليكون الناطق باسم الشعب كله في ثورته. وقيام هذا المجلس كان مكسبا كبيرا للثورة إذ وجدت فيه من البداية ناطقا رسميا اعترف به الجميع فاكتسب بذلك شرعية شعبية ثورية مهدت له الطريق لاكتساب اعتراف دولي مبكر بالثورة وممثيلها. واكتسب المجلس هذا مصداقية كبيرة داخل الوطن وخارجه عندما اعلن برنامجا لانتخاب مؤتمر وطني عام، وأن الذي سيشرف على الانتخابات هذه هي لجنة مستقلة، وليس المجلس الانتقالي، وأن رئيس المجلس الانتقالي واعضاءه لن يرشحوا انفسهم لها، فكان هذا الموقف موقفا رائدا في تاريخ الثورات حين يتخلى الرجال الذين قادوا الثورة عن مواقعهم ساعة النصر ويسلمون القيادة والسلطة لمجلس يختاره الشعب ولا يشاركون هم فيه ولا يشرفون على انتخابه. ووفى هؤلاء الرجال بما وعدوا به. ليس هذا فحسب، بل إن رئيس المجلس اعلن في مناسبات عدة أنه يجب محاسبة رجال النظام السابق محاسبة قانونية نزيهة ويضع هو نفسَه ليكون أول من يُحاسَبون بصفته كان وزير عدل سابق. سلموا السلطة ولم يفروا من البلاد لأداء عمرة أو حج، وعادوا الى بيوتهم مواطنين عاديين.
وأسس المجلس الانتفالي سابقة أخرى والثورة ما زالت مشتعلة، وهذه السابقة هي تفعيل المشاركة الشعبية في عملية التشريع، وهي المشاركة التي غُيِّبَ عنها الشعب العربي لعدة عقود. التشريعات في الاقطار العربية تنزل من فوق، وقد تمر شكليا بمجلس نيابي أو مجلس شورى، ولكن القرار يبقى في يد شخص واحد في القمة، ويبقى علم الشعب بالقانون في معظم الاحوال عندما يصطدم به دون أن يدري. مساهمةُ الشعب المطلوبة في التشريعات يجب الا تقف عند مشاركة ممثيله في المجالس النيابية في النظر فيها، بل يجب أن يرافق ذلك بل أن يسبقه حوارٌ مفتوحٌ أولاً حول مبدأ التشريع في حد ذاته، ثم تأتي مرحلة الصياغة، اذا أقر مبدأ التشريع، ثم نشر مشروع القانون ليطلعَ عليه كلُّ من يهمه الامر، وخاصة منظمات المجتمع المدني من نقابات واتحادات ومنظمات حقوق انسان، ويٌسمِعَ صوتَهٌ أولا للنائب الذي انتخبه وثانيا للحكومة، ثم يكون النقاشُ والدراسةُ للمشروع في المجالس النيابية ومتابعةُ الاعلام لما يجري لمراقبة العملية التشريعية. وما قام به المجلس الانتقالي في سن قانون انتخابات المؤتمر الوطني كان قريبا من هذا في ظل ظروف الثورة. فقد نشر مشروع القا نون، وتصدى له المواطنون في الداخل والخارج يدرسونه ويعلقون عليه ويبدون اقتراحاتهم ويدونون ذلك على صفحات التواصل الاجتماعي على الشبكة العنكبوتية أو يرسلون مذكراتهم المفصلة مباشرة الى المجلس الانتقالي أو لمن يستطيع ايصالها للمسؤولين عن التشريع. ثم صدر القانون، واذا به يدل دلالة واضحة على أن عملية النشر وطلب التعليقات لم تكن مناورة للاستهلاك المحلي، وإنما كانت خطوة جادة لوضع قاعدة المشاركة الشعبية موضع التطبيق الايجابي. ومقارنةٌ بسيطةٌ بين النص الاول لمشروع القانون والنص الهائي له تكشف بسهولة عن استجابة واعية لما أُبدِيَ من ملاحظات واقتراحات. وهذا ليس كلاما مرسلا وإنما هو مبني على وقائع. فقد اطلعتٌ على بعض المذكرات قبل ارسالها ووجدت أثرها واضحا في النص النهائي للقانون. وأهمية هذا الموضوع مرتبطة بالمصداقية التي يمكن للمواطن أن ينسبها للاجراءات التي يتخذها المسؤول، وهل هي جادة أم مناورات عبثية، مثل اللجان التي يشكلها بعض القادة العرب للتحقيق في قضية شغلت الراي العام ثم لا يسمع عنها شيء بعد ذلك، أو مثل أولئك الين يستفتون حين يروق لهم وينكفون عن الاستفتاء في نفس الامور خوفا من النتيجة.
مسألةٌ أخرى في السابقة الليبية جديرة بالذكر، وهي أن المجلس الانتقالي لم يتكون بعد سقوط النظام، أو انه كان للنظام يد في اختيار اعضائه، وانما اعلن عن نفسه وعن اسماء معظم اعضائه (باستثناء المقيمين في مناطق طرابلسية حماية لهم) في بدايات الثورة، ولم يكن وجوده سرا من الاسرار، كما لم يكن أعضاؤه يحملون أسماء حركية أو منزوين عن الانظار أو منقطعين عن الاتصال بالداخل والخارج. كانوا بقودون ويعملون في العلن. وكانت معرفة أسمائهم مصدرَ ثقة واطئنان، فكانوا بذلك أداة فاعلة في اكتساب الشرعية للثورة ومؤسساتها وتوحيد المعارضة، والإعداد للعهد الجديد، والمعركة لم تٌحْسَم بعد.
بهذه الخطوات المدروسة الواعية التي كانت تؤدي الى الثقة والاطمئنان، تجنبت الثورة الليبية الوقوع في المطبات التي يولدها سقوط نظام دون أن تكون الاستعدادات للانتقال الى العهد الجديد قد نضجت وقابلة للتنفيذ لحظة سقوط ذلك النظام. وبهذه الخطوات حصلت القطيعة مع تراث القذافي ونظامه، وتأكدت بداية العودة الى الأصول. وهي بداية فقط، هي ‘نيل الاستقلال’،وما زالت أمام الشعب الليبي المهمة الاصعب وهي ‘المخافظة عليه’ وحمايته من انقلابات الادعياء والمغامرين، وهذه مسؤولية يتحملها جيل الثورة للاجيال القادمة. وهذا الجيل هو الذي سيضع الدستور الجديد للدولة الليبية العصرية، ويجب أن يكون من أول أهداف هذا الدستور أن يؤمن في احكامه، بالقدر الذي يمكن تأمينه، عدم امكانية قيام نظام يمكن أن يتيح الفرصة لانفراد أي فرد أو سلطة بالحكم. وهذه نسبيا مهمة سهلة عندما يؤمن الدستور فصلا بين السلطات ومحاسبةً دقيقةً لكل سلطة عن ممارستها لما يقع في اختصاصها وعدم تجاوزه.
غير أن الدساتير الديموقراطية هذه لم تمنع قيام دكتاتوريات ونظم فاشية شمولية. وهذا يؤدي بنا للعودة الى الأصل وهو أن الشعب مصدر السلطات. وليس معنى هذا تنازلا من الشعب لسلطاته التنفيذية والتشريعية والقضائية، وإنما يعني أولا وقبل كل شيء إعدادَ الشعب ليكون قادرا على ممارسة رقابة فاعلة على التصرف بما يوكله من سلطات لمختلف مؤسسات الدولة وأجهزتها. ويعتي ثانيا بداية ايجاد أدوات المجتمع المدني من احزاب واتحادات ونقابات وجمعيات مستقلة تمارس هي الديموقراطية المسؤولة من انتخابات حرة ومراقبة ومساءلة فاعلتين في داخلها وفي علاقتها مع السلطات المختلفة، ويجب أن يكون الحق في انشائها مطلقا، لا يخضع لترخيص من هذه الجهة أو تلك، ويكفي فيها الاخطار.
ونظرا للدور المهم التي تقوم به تنظيمات المجتمع المدني فإنها تكون دائما هدفا للنظم الدكتاتورية للسيطرة عليها لتصبح ادوات في يد النظام يكون دورها الترويج له والدفاع عنه. وعند مراجعة التجربة الليبية في هذا الشان نجد أن النظام القذافي سعى جاهدا للسيطرة على النقابات والاتحادات، ونح مع البعض وفشل مع البعض. وكمحامٍ عضوٍ في نقابة المحامين الليبيين فقد عاصرت الضغوط التي مورست على المحامين، وعلى نفيبهم الاستاذ عبد الله شرف الدين، أمد الله في عمره، وزملائه أعضاء مجلس الادارة ليخرجوا عن خطهم المتمسك بسيادة القانون واستقلال القضاء وحق كل انسان في محاكمة عادلة وفي اللجوء الى القضاء واختيار محاميه، ولم يفلح. ويعرف المحامون ما تعرض له زملاؤهم، وخاصة النقيب، من تهديدات وضغوط ومناورات. وصمد المحامون. المحامون لم يخرجوا مرة واحدة في مظاهرات التأييد التي كان ينظمها النظام، ولم يرفعوا في النقابة لافتة واحدة تحمل مقولة من مقولات الكتاب الأخضر. واجتمع العقيد نفسه بالمحامين في جمعياتهم العمومية أكثر من مرة، وفي كل مرة كان المحامون يثيرون موضوع الدستور وموضوع المعتقلين بدون وجه حق وموضوع فرض تطبيق مقولات الكتاب الأخضر دون موافقة مسبقة عليها من الشعب، وكان هو من جانبه يحاول التاثير على الانتخابات، دون جدوى.
إن التربية على تحمل المسؤولية وممارستها ممارسة سليمة لا تتحقق بنصوص دستورية فقط، وانما اساسا بنظام تعليمي سليم يدرب فيه الطفل منذ الصغر على التفكير لا مجرد الحفظ، على العمل الجماعي والنقاش الموضوعي والقدرة على المحاسبة وتحمل المسؤولية في اطار جمعيات ونشاطات ومسؤوليات مدرسية. التربية على الديموقراطية وتحمل نتائجها من اختلافات في الرأي والموقف ومن مضايقات في ممارسة التفكير المستقل ومسؤولية الرقابة والمحاسبة والعمل الجماعي أهداف يجب العمل لتحقيقها بجدية منذ الصغر في البيت والمدرسة لتأمين بناء شامخ من الحرية والكرامة والنهضة للوطن والمواطن، وهذا الجيل الثائر من أبناء ليبيا قادر على وضع الاسس لهذا كله بعون الله.

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s