حَلَّ يومُ القدس العالمي كعادته يوَمَ الجمعة، آخرَ يوم ِ جمعة في رمضان كل سنة، وبقيت القدس منسية تماما على الصعيد الرسمي الفلسطيني والعربي والاسلامي الا من عبارات انشائية تقليدية لا تحمل أملا للمدينة أو مقدساتها أو مؤسساتها أو شعبها، مهما صغر هذا الامل. لقد تركوا القدس تموت موتا بطيئا، هي ومقدساتها وشعبها، تحت وطأة احتلال كاد أن يكمل تهويدها سكانا وتاريخا وحضارة وعقيدة، والمدينة تنادي ولا من مجيب. حتى لدى السلطة ‘الوطنية’ الفلسطينية ورئيسها ورئيس دولة فلسطين أصبحت عبارةُ ‘وعاصمتها القدس الشريف’ لازمةً تتكرر مع انها فقدت معناها ومضمونها منذ زمن، نتيحةً للتفاهمات التي جرت واعتبرنها اسرائيل مؤشرا على الاقل لما سيأتي. وليس أدل على ذلك من اعتراف رئيس وزراء السلطة علنا بأنه لا توجد لديه ميزانية للقدس، وجاء هذا التصريح عندما استقال مسؤول القدس السيد عبد القادر حاتم من منصبه احتجاجا على ما تعاني منه المدينة من إهمال واستسلام لما يجري من جانب السلطة الوطنية الفلسطينية واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير.
لقد وصلت معاناة ما بقي من المدينة قي أيدٍ فلسطينية حَدَّاً يهدد محرد بقائها، ناهيك عن رمزيتها وقيمتها الوطنية وما نقدمه من خدمات حياتية، من بينها أكبر مستشفى خيري في القدس، هو الآن مهدد بالاغلاق بسبب ما يعانيه من أزمة مالية. المستشفى هو مستشفى المقاصد الخيري، أكبر مستشفى فلسطيني يضم جميع التخصصات على أعلى مستوى ويقدم خدماته لكل محتاج الى رعاية طبية دون تمييز بين فقير وغني، فلسطيني أواسرائيلي، مسلم أو مسيحي، علما بأن مالكه هو جمعية المقاصد الخيرية الفلسطينية. وقد قامت القدس العربي مشكورة بنشر تقرير عن أوضاع المستشفى في عددها الصادر يوم 20 أغسطس الجاري، وهو التقرير الذي اعتمد عليه في هذا المقال والسبب المباشر لكتابته. إنني أعرف المستشفى وأعرف ما يقدمه من خدمات طبية متميزة. وأعرف موقعه الرائع على جبل الزيتون حيث يطل من هناك على القدس والمسجد الاقصى وقبة الصخرة المشرفة اطلالة المحب الحارس اليقظ. ولكنني لم أكن أتصور أن مؤسسة كهذه يمكن أن يشملها هذا المستوى من الاهمال أو التخاذل من جانب السلطات الفلسطيتية كلها، بحيث اصبحت توشك على الاغلاق فيضطر الأطباء والعاملون في المسنشفى الى الاضراب عن العمل للفت الانظار الى مدى خطورة الوضع. هذه السلطات الفلسطيتية كلها أصبحت مستهلكة، وتَستَهْلِكُ في طريقها ما تبقى للفلسيطينيين من وجود وحقوق في القدس وغير القدس.
تقرير القدس العربي أشار الى أن العجز المالي الذي يعاني منه المستشفى مرده الديون التي تراكمت في ذمة المستفيدن من المستشفى ولا يسددون المقابل، أو يكونون اصلا عاجزين عن الدفع ولكن المستشفى يقدم لهم الخدمات دون تردد، ومعظمهم من ابناء القدس والضفة الغربية. فالديون التي تراكمت على هؤلاء فقط بلغت حوالي عشرين مليون دولار، ومن غير المتوقع تحصيلها أو تحصيل الجزء الأكبر منها، كما يستبعد امتناع المستشفى، وهو مستشفى خيري، عن تقديم الخدمات للمدينين هؤلاء بسبنب تخلفهم لفقرهم عن سداد ديونهم، وهم الذين يجب أن ترعاهم السلطة الوطنية الفلسطينية، بتوفير الخدمات الطبية لهم في الظروف التي تعيشها القدس بوجه خاص والضغة الغربية بوجه عام.
واذا كان من الواجب مراعاة الظروف الخاصة بهؤلاء المواطنين العاجزين عن سداد فواتيرهم، فإنه لا يغتفر للسلطة الفلسطينية ألا تسدد فواتيرها البالغة سبعة ملايين دولار، وهذه فواتير مقابل خدمات قدمها المستشفى لمن تحيلهم السلطة نفسها الى المستشفى للعلاج ويجب سدادها في الحال، وليس منحة منها للمستشفى، وتسديد هذه الفواتير يجب أن تكون له أولوية على الكثير من أوجه الصرف التي تتولاها السلطة. يجب على السلطة أن تتمسك بميزانية قادرة على الوفاء بالخدمات الصحية بما في ذلك سداد الديون التي تتراكم للمستشقيات وفي مقدمتها مستشفى المقاصد.
السلطة أذن مقصرة كسلطة وكمدين بالخدمات الصحية من جانب المستشفى، السلطة مدينة بسبعة ملايين دولار مقدابل خدمات قدمها المستشفى، وعليها ان تبادر الى سداد هذا الدين، ولو استدانت، أو استقطعت المبلغ من مخصصات قوات الامن، فلا اسرائيل ولا أمريكا تحتمل استقطاع أي مبلغ من هذه المخصصات. يكفي ما ارتكبته هي والقيادات الفلسطينية من تقصير في حق القدس والمقدسيين، ويكفي ما تفعله اسرائيل للتضييق عليهم وعلى المدينة.
والمستشفى دائن كذلك لصناديق المرضى الاسرائيلية بنحو مليوني دولار. هذه تسعة ملايين دولار يجب أن تسدد في الحال دون تأخير، وأدعو منظمات حقوق الانسان الفلسطينية والاسرائيلية كذلك ونقابة المحامين الفلسطينيين الى الالتفات لهذا الموضوع، تبرعا من الجميع، لانقاذ مستشفى بهذه الاهمية.، ولمساعدته في سداد ما تراكمت عليه من ذيون بلغت خمسة ملايين دولار للمصارف وعشرة ملايين للموردين والشركات، وخمسة ملايين دولار ضريبة عقارية للبلدية الاسرائيلية و120 الف دولار لشركة الكهرباء.إنني أخاف على المستشفى ان تقفله البلدية الاسرائيلية أو تبيعه بالمزاد العلتي لتحصيل مبلغ الضريبة بحجة عدم دفع الضريبة المستحقة. فهل تتحمل القيادات الفلسطينية نتيجةَ الاستيلاء على هذه المؤسسة وقفل ابوابها نتيجة إهمالها؟ الا يكفي ما أقفلته السلطة نفسها من مؤسسات وجمعيات خيرية استجابة للطلبات الامريكية والاسرائيلية في أعقاب فوز حماس في انتخابات المجلس التشريعي، بحجة تجفيف الموارد المالية لحماس، مع أن الذي عانى من ذلك هم المحتاجون للمعونات أو الخدمات التي كانت تقدمها لهم هذه المؤسسات والجمعيات، ولم توفر السلطة أو أمريكا أو اسرائيل البديل لها. وهل سيسمح الشعب الفلسطيني بإغلاق هذا المعقل الأخير للخدمات الطبية المتميزة الخيرية للمحتاجين اليها من ابنائه؟.
المستشفى يعالج نحو 240 الف حالة خارجية، ويستقبل نحو 12 ألف حالة ادخال في المستشفى، ويُجري نحو 500 عملية شهريا. فاذا أقفل أبوابه فإن أهل القدس بشكل خاص وبقية الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة سيفقدون ملاذا صحيا عالميا في مستواه وخيريا في خدماته. وفضلا عن ذلك فإن المستشفى ليس مستشفى للعلاج فقط وإنما يضم كلية تمريض ايضا، فضلا عن كونه مستشفى تعليمي تخصصي، وتتبع له سبعة مستوصفات في قرى وبلدات القدس، ويعتمد في تمويله على التبرعات الخيرية وعلى سداد نفقات تحويلات المرضى اليه من السلطة الفلسطينية، والمستشفيات الخاصة في الضفة الغربية، عندما تسدد السلطة وهذه المستشفيات الفواتير.
ويقول التقرير الذي نشرته القدس العربي إن العاملين في المستشفى وعددهم 750 لم يتقاضوا مرتباتهم عن الشهرين الماضيين، والمعدات في تناقص، ولذا فإن العاملين أعلنوا اضرابا مفتوحا عن العمل، دون المساس بالخدمات المستعجلة، وذلك للفت النظر الى الخطورة التي وصل اليها الحال.
المستشفى تأسس عام 1968 وهو تابع لجمعية المقاصد الخيرية.في القدس. وبطبيعة الحال فإن الاوضاع الاقتصادية في القدس خاصة وفي الضفة الغربية عامة لا تسمح للمواطنين، علاوة على الضرائب المرهقة التي تفرضها اسرائيل عليهم، أن يتكفلوا بالتبرع بانتظام بما يكفي لسد احتياجات المستشفى، وللحفاظ عليه في المستوى الطبي الذي يستفيد منه المجتمع كله دون استغلال أو حتى مقابل، في حالات عدم القدرة علىالدفع.
انقاذ المستشفى مسؤولية تقع على الفلسطينيين جميعا في الداخل والشتات، وهي مسؤولية العرب والمسلمين أينما كانوا لأن الحفاظ على مؤسسة من هذا النوع من مؤسسات القدس هو خدمة انسانية ووطنية من الدرجة الاولى، ونتقدم بالاقتراحات التالية في هذا الشأن:
أولا- على السلطة الفلسطينية أن تبادر في الحال لسداد الدين الذي في ذمتها، ولو استدانت، ويجب عليها أن تسدد فواتيرها بانتظام ولو من أبواب أخرى من الميزانية.
ثانيا- ندعو نقابة المحامين الفلسطينيين للمبادرة باجراءات لتحصيل الديون المستحقة للمستشفى من القادرين على الوفاء ولكنهم يماطلون، وفي مقدمتها الدين المستحق على صناديق الصحة الاسرائيلية.
ثالثا- ندعو الحركات الاسلامية على اختلاف مشاربها السياسية الى التبرع اذا كانت تؤمن بأن رعاية صحة الانسان هي من بين الاعمال الصالحة ومقاصد الشريعة التي يُكافَؤ عليها الانسان عند لقاء ربه.
رابعا- ندعو اتحادي الاطباء والصيادلة العرب والاطباء الفلسطينيين والعرب في الشتات الى فرض اشتراك سنوي غير مرهق ضمانا لاستمراره لصالح المستشفى يحصل ويحول بالطريقة التي يتفق عليها.
خامسا- إنني أدعو كل فلسطيني، اينما كان، أن يُلزِمَ نفسه بدفع أي تبرع يناسبه شهريا أو سنويا، ويستطيع الاستمرار في التبرع به دون ارهاق، بتعليمات يصدرها لمصرفه بحيث لا تتعرض للنسيان، وانما تصبح دخلا يستطيع المستشفى الركون اليه. مقدار المبلغ مهم بطبيعة الحال، ولكننا لسنا من أنصار الدفعة الكبيرة الواحدة التي لا تتكرر، وأنما ندع الى مساهمات لا تنقطع من دائرة واسعة من المتبرعين، تدفع بانتظام بحيث يشعر كل فلسطيني بأنه مسؤول مسؤولية مباشرة عن بقاء هذا المستشفى وتطويره، والمساهمة في ذلك، كمؤسسة فلسطينية مقدسية. ويتم هذا باجراء تحويلات مباشرة منتظمة الى حساب المستشفى كلما حان الموعد بحيث يصبح هذا التزاما مستمرا ينفذ تلقائيا ويستطيع المستشفى الاعتماد عليه في ميزانيته. إن المبالغ الصغيرة من أعداد كبيرة فيها الخير كل الخير. ولا أنسى تجربة مررت بها وهي أن جمعية خيرية بريطانية قررت تزويد مياه الشرب لمجتمعات افريقية محرومة منها. فأجرت اتصالاتها لجمع التبرعات واشترطت أن يكون التبرع جنيهين فقط سنويا. انهالت عليها التبرعات، واستطاعت من هذه المبالغ البسيطة في مفردها والكثيرة في مجموعها أن تحفر آبارا لتوفير مياه الشرب في مجتمعات كبيرة وما زالت تباشر نشاطها. إنني أؤمن بجدوى هذه المساهمات الفردية التي تبدو متواضعة ولكن فيها الخير الكثير نتيجة للمشاركة الواسعة. وتمشيا مع هذه النظرية فانني أقترح أن يكون الالتزام في حدود عشرة دولارات شهريا. طبعا لا اعتراض على من يرغب في التبرع بمبلغ أكبر ويقدر عليهن ولكن بشرط مراعاة الاستمرارية.
سادسا- اذا اراد أهل الخير في أمتنا أن يتبرعوا لانقاذ المستشفى من وضعه الحالي فلا أظن أن المستشفى سيعترض
سابعا- إنني لم أتوجه الى الحكومات العربية، فهذه لا يعتمد عليها ولا على وعودها والتزاماتها، فما أسرع تظاهرها بالالتزام وأسهل تهربها منه.
وختاما فإنني لم أتصل بالمستشفى لاستئذانه في كتابة هذا المقال، ولم أطلعه عليه قبل نشره، ولست وكيلا عنه لجمع تبرعات أو قبولها وعلى من يرغب في الاستجابة أن يتصل بالمستشفى مباشرة، حيث أن له موقعا على الشبكة العنكبوتية هو:
ويمكن لمن يشاء زيارته والحصول على مايريد من بيانات. http://www.almakassed.org