جنرال اسرائيلي آخر يلغي سفره لبريطانيا خوفا من الملاحقة

جنرال اسرائيلي آخر يلغي سفره لبريطانيا خوفا من الملاحقة

د. أنيس مصطفى القاسم

نشرت مصادر اسرائيلية متعددة مؤخرا نبأً مفاده أن المستشار القانوني للجيش الاسرائيلي، الجنرال ماندلبليت، قد أمر الجنرال الاسرائيلي أفيف كوشافي بعدم الالتحاق بالدراسة في كلية عسكرية في بريطانيا، كما نصح كبار ضباط الجيش الاسرائيلي الذين لعبوا دورا بارزا في الانتفاضة الفلسطينية الحالية بتجنب السفر الى انجلترا خوفا من احتمال القبض عليهم بتهم جرائم حرب ضد الفلسطينيين..

إن تخلي الجنرال كوشافي عن الدراسة في معهد عسكري بريطاني مرموق لكبار الضباط له دلالاته الكبيرة، ففي الوقت الذي تنفي فيه اسرائيل ارتكاب جرائم حرب من قبل قواتها، الا أن قرار المستشار القانوني للجيش الاسرائيلي وقرار الجنرال كوشافي بعدم السفر الى بريطانيا يدلان على أن حقائق جديدة بدأت تظهر مؤداها أن اسرائيل أصبحت غير مطمئنة الى أنها تستطيع أن ترتكب ما ترتكب من جرائم وتنجو في الوقت ذاته من المساءلة القانونية. كما يدلان على أن المستشار القانوني وضباط الجيش الاسرائيلي يدركون أن ما يرتكبونه من أفعال ضد الفلسطينيين يمكن ملاحقتهم جنائيا بسببه. لقد انهارت الحصانة الواقعية التي كانوا يعتمدون عليها أمام تطورات قضائية وقعت في العام الماضي، ولا يستطيعون تجاهلها.

ففي سبتمبر الماضي نجا الجنرال الاسرائيلي دورون الموج من القبض عليه في لندن للتحقيق معه في جرائم ضد الانسانية بالبقاء في الطائرة في مطار هيثرو الى أن عادت الى اسرائيل، وذلك بعد أن أخبرته السفارة الاسرائيلية في لندن بأن قاضيا انكليزيا قد أصدر أمرا بالقبض عليه بناء على شكوى تقدم بها محامون بريطانيون نيابة عن أسر فلسطينية هدمت بيوتها تنفيذا لأوامر صدرت من ذلك الجنرال. وخوفا من مصير مماثل، فقد ألغى جنرال آخر زيارة كان يعتزم القيام بها للندن لجمع تبرعات لصالح الجيش الاسرائيلي.

وفي الولايات المتحدة الامريكية صدرت في نوفمبر الماضي اخطارات قضائية ضد رئيس الاركان الاسرائيلي السابق يالون وضد رئيس الشاباك السابق ، ديتشر، في دعاوى تعويض مدنية عن أضرار اصابت فلسطينيين نتيجة لأوامر صادرة منهما. وفي كندا ألغى جنرال آخر زيارته عندما علم بأن أمرا قضائيا قد صدر ضده للتحقيق معه في جرائم نسبت اليه.

وهكذا فقد أصبح واضحا للسلطات الاسرائيلية أن رجال الجيش الاسرائيلي قد أصبحوا يتعرضون للمساءلة القانونية في عدد من الأقطار عن الجرائم التي يرتكبونها. وأول الغيث قَطْرٌ، إذ ليس الأمر قاصرا على القضاء الانكليزي والامريكي والكندي، بل بالامكان ملاحقتهم أمام القضاء الاسباني والنرويجي والايطالي، بل وأمام القضاء في العديد من الدول الاطراف في اتفاقية جنيف الرابعة. صحيح أن هؤلاء قد نجوا حتى الآن من العقاب، ولكن العقاب سيأتي يومه، حيث أن هذه الجرائم لا تتقادم بمضي المدة، والأهم الآن هو ردع اسرائيل عن الاستمرار في سياساتها الاجرامية، وتذكير جنرالاتها بأن يوم الحساب قادم. لقد أصبحت اسرائيل فجأة سجنا لكبار قادتها العسكريين لا يستطيعون مغادرته، لأنهم لا يدرون أين ستكون المفاجأة. فأوامر القبض قد تكون في انتظارهم في أي بلد يسافرمون اليه.

وبسبب هذه التطورات فقد بدأت اسرائيل حملة هادئة، ولكنها مركزة، لحمل الدول هذه على تعديل قوانينها بحيث يُلغَى اختصاص محاكمها في محاكمة مجرمي الحرب عن جرائم ارتكبت في الخارج. وبدأت هذه الحملة على الحكومة البريطانية التي تدرس الآن هذا الموضوع في وجه معارضة من برلمانيين ومنظمات حقوق الانسان. ولم تحسم الحكومة البريطانية الأمر حتى الآن، لأن الطلب الاسرائيلي يمس أساسا من أهم أسس سيادة القانون، وخاصة القانون الدولي الانساني، الذي يقضي باحترام اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بمعاملة المدنيين اثناء النزاعات المسلحة. والغريب في أمر هذه الحملة أنها تتعرض لنظام قانوني قد استقر نتيجة لمحاكمات النازيين السابقين أمام محكمة نيورمبرج بسبب الجرائم التي ارتكبوها ضد المدنيين وراح ضحيتها ملايين اليهود الأبرياء. ويبدو أن اسرائيل لا تشعر بالحرج، أو أنها، كعادتها، تعتبر نفسها فوق القانون وأن القانون يجب أن يخضع لأهوائها.

تجري هذه التطورات في الخارج والأنظمة العربية تستقبل الجنرالات الاسرائيليين، ومن بينهم وزير الدفاع الاسرائيلي الذي فر هو الآخر من القبض عليه في انكلترا للتحقيق معه في جرائم حرب نسبت اليه ضد الفلسطينيين عندما كان رئيسا لاركان الجيش الاسرائيلي، وبالرغم من قرار لقمة عربية بملاحقة مجرمي الحرب الاسرائيليين. وتتحرك اسرائيل للضغط على الدول الأخرى لتعديل قوانينها بحيث ينجو مجرمو الحرب الاسرائيليون من الملاحقة، والدبلوماسية العربية نائمة، مع أن الضحايا هم في معظمهم هذه الأيام من أبناء الأمة العربية. إن حماية المدنيين اثناء النزاعات الحربية قضية تهم العالم كله، فلماذا لا تتحرك الأنظمة العربية لمواجهة الحملة الاسرائيلية التي تحاول القضاء على هذه الحماية التي هي ضرورة قصوى لكل المدنيين في العالم؟ لماذا لا يثار الموضوع أمام الجمعية العامة للامم المتحدة ؟ ولماذا لا تدعو الدول العربية والسلطة الوطنية الفلسطينية الدول الاطراف في اتفاقية جنيف الرابعة للوقوف في وجه هذه المحاولات الاسرائيلية الخطيرة التي تطعن القانون الدولي الانساني في الصميم؟ لماذا لا تتحرك وتضم صوتها بقوة، من منطلق انساني صرف، لمعارضي التعديل قبل أن تنجح اسرائيل في تحقيق هدفها؟ لماذا لا تدعو الدول العربية المؤتمر العام للدول الاطراف في اتفاقية جنيف الرابعة للنظر في الموضوع وقطع الطريق على اسرائيل بالانفراد بالدول واحدة بعد الأخرى لتعديل قوانينها؟ إن اسرائيل تضغط في سرية تامة حتى لا يفتضح أمرها، واثارة الموضوع في محافل دولية قد يكون كافيا لردعها من جهة وداعما للدول التي تخضع للضغوط للنجاة منها.

نشرت في القدس العربي في 10 مارس 2006

رئيس مجلس ادارة صندوق العون القانوني للفلسطينيين