انتفاضة أخرى لتحرير الارادة العربية وانتفاضات ما زالت في الانتظار

د. أنيس مصطفى القاسم

سيدخل يوم الأربعاء 23 يناير 2008 التاريخ إما على أنه: (1) حدثٌ تاريخي جديد في معركة تحرير الارادة العربية، شعبية ورسمية، من السيطرة الاسرائيلية الامريكية، أو على أنه :(2) شهقة في حشرجة موت هذه الارادة، اذا تقاعسنا في استثماره وتثبيته واقعا على الأرض. والخيار بين أيدينا، شعوبا أولا وحكومات ثانيا.

في هذا اليوم، وبدون استئذان من اسرائيل أو أمريكا أو المراقبين الاوروبيين أو الحكومة المصرية أو السلطة الفلسطينية في رام الله، جرفت الجماهير الجدار الذي حال بين التواصل الطبيعي، بكل معانيه وأبعاده، بين أبناء الشعب العربي في كل من قطاع غزة ومصر، وتدفقت مئات الالاف عبر الحدود العربية هذه لتحررها من مذلة التحكم الاسرائيلي. تدفقت هذه الجموع لتحطيم الحصار الظالم، واذا بها وكأنها على موعد مع الارادة المصرية الحرة، لتجد الطريق أمامها مفتوحا وبدون عوائق، لتتزود بكل ما كان الحصار الجائر قد حرمها منه، ولتتذوق مرة أخرى طعم الاستقبال الاخوي من أبناء مصر العزيزة الذي طالما اشتاقت اليه، وكان الطرفان في انتظاره. لم يكن ذلك التحرك الشعبي استخفافا بالسيادة المصرية على أراضيها، معاذ الله، ولا انتهاكا لها أو اعتداء عليها أو الانتقاص منها أو الاستقرار فيها في حالة لجوءٍ جديد، وانما كان لتحقيق هدف كبير وهو تثبيت السيطرة العربية على الحدود العربية. كما أنه لم يكن فراراً من مواجهة اسرائيل في الداخل والاحتماء بسيناء الواسعة، وانما للتزود بما يعين على الصمود في وجه الاحتلال والعودة الى مواجهته بقوة أكبر. كانت سيناء مفتوحة أمام هذه الالوف المؤلفة لتنجو ينفسها وابنائها من التقتيل والتدمير والابادة المبرمجة. ولكنها لم تلجأ الى سيناء، ولم تفر اليها من الاحتلال، وانما تزودت وعادت، وهذا ما يجب أن يكون، ولا قيمة لقلة حاولت لسبب أو لآخر الوصول الى الداخل المصري، مقارنة بمئات الآلاف التي تزودت وعادت. مئات الالوف هذه عبرت الحدود في فرحة عارمة، بدون سلاح أو عنف أو مصادمات، ثم عادت، عادت لتواجه الاحتلال وهي أشد مضاءاً وأقوى عزيمة.

وفي صباح اليوم ذاته كان ميدان التحرير في القاهرة يشهد انتفاضة شعبية كبيرة تطالب برفع الحصار عن غزة، وكأنما كان الشعبان على موعد أيضا، ولم يتراجع المتظاهرون عن تظاهرهم، بل انضموا لاخوانهم أمام نقابة المحامين والصحفيين في القاهرة، وكلهم يطالب برفع الحصار عن غزة. وفي اليوم الثاني وقف رئيس مصر، مصر الشموخ والإباء والتضحيات، ليعلن على العالم كله بأن مصر لن تسمح بتجويع الشعب الفلسطيني. وهذا التزام يعني الكثير، وكأن الرئيس المصري كان ينتظر هذه التحركات الشعبية ليعلن موقف مصر العروبة من الحصار. وتبع ذلك في 26 يناير قرار مجلس الآمن المصري بابقاء معبر رفح مفتوحا. وعمت المظاهرات معظم أقطار الوطن العربي تطالب برفع الحصار، وانهالت التبرعات على اتحاد الاطباء العرب من كل جهة لشراء الدواء واستغلال فرصة فتح المعبر لايصالها للمستشفيات في القطاع، وكأن الشعب العربي كله كان في انتظار هذا الحدث.

هذا التحرك الشعبي على جانبي الحدود اسنطاع أن يفرض واقعا جديدا، هو في حد ذاته الواقع الطبيعي الذي ساد قبل الاحتلال ويجب أن يسود من الآن فصاعداً، رافضا بذلك الاملاءات الخارجية التي شوهت هذا الواقع الطبيعي، وحاولت أن تفرض واقعا سيئا مهينا للعرب جميعا وللارادة العربية. فالحدود بين غزة ومصر حدودٌ عربية، هي كذلك منذ الأزل، ومحاولةُ اسرائيل فرض قيود عليها هو اعتداء على عروبتها، والرضوخ لهذه المحاولة هو الرضوخ لارادة اجنبية تدعي لنفسها الحقَ في أن تحدد هي طبيعةَ العلاقةِ الحدودية بين الاقطار العربية، وهي في هذه الحالة الحدود بين مصر وفلسطين.

إن أهمية ماحدث يوم 23 يناير أنه امتداد لانتفاضات تاريخية سابقة، وفي مقدمتها انتفاضة القوات المسلحة المصرية في حرب اكتوبر المظفرة وبطولات مقاتلي حزب الله في حرب تموز الحاسمة، هذه الانتفاضات التي فرضت على الارض وقائع عربية نقضت وقائع توهمت اسرائيل أنها فرضتها لتدوم. كانت اسرائيل هي التي تفرض الوقائع على الأرض وتفرض ارادتها على الواقع العربي الرسمي الى أن تبددت هذه الصورة بحرب اكتوبر وحرب تموز، وهاهي تتبدد مرة أخرى عبر معبر رفح وبوابة صلاح الدين.

هذا العمل الشعبي الذي تمرد على الاوضاع الظالمة القائمة قد نقل مسئولية الحفاظ على نتائجه الى المستوى الرسمي، دون أن يتخلى هو عن دوره في الحفاظ عليه والدفاع عنه. العمل الشعبي أتاح الفرصة للجانبين الفلسطيني والمصري الرسميين، اذا حزما أمرهما، للتخلص من قيود فرضت عليهما تتنافى مع طبيعة العلاقة التي يجب أن تسود بينهما. لقد حصل التلاقي والتفاعل بين الارادتين الشعبية والرسمية في كل من فلسطين ومصر، مما أتاح الفرصة للرئيس المصري أن يقف الموقف الطبيعي والقومي الذي يرفض تجويع الشعب الفلسطيني بحجة الالتزام باتفاق هو باطل اصلا قد فرضه الاحتلال. وهذا التلاقي بين الارادتين على جانبي المعبر هو الذي بامكانه أن يؤدي الى تغير جذري في طبيعة التعامل مع الاحتلال ومواجهته، وهو الذي من شأنه أن يحرر القطاع من التحكم الاسرائيلي في جميع مناحي حياته.

التحرك الشعبي هو الذي فتح الطريق، وهذه ظاهرة لم نعتد عليها في الوطن العربي الا نادرا. إن مشكلة التحرك الرسمي العربي هي أنه يجري في غالب الاحيان في معزل من قوة شعبية متحركة يستطيع الاعتماد عليها لاتخاذ المواقف التي يمليها عليه التزامه القومي والانساني. ليس هذا فحسب، بل أن التحرك الرسمي كثيرا ما يخشى التحرك الشعبي ويناصبه العداء، ويبدأ “الحريصون” على النظام تهويل مخاطر هذا التحرك، بدلا من التعامل معه كظاهرة صحية لا غنى للمجتمع عنها في مواجهة مشاكله والتصدي لخصومه. التحرك الشعبي في هذه المرة استطاع أن يلغي واقعا فرضته اسرائيل وأن يرد الامور الى وضعها الطبيعي الذي يجب أن تكون عليه. وليس لاسرائيل أو أمريكا تحميل مصر الرسمية المسئولية عما حدث أو عن ما يترتب على فتح معبر رفح من نتائج، ذلك لأن السياسة الاسرائيلية من حصار وتجويع وقتل اقتصادي وانتهاكات للقانون الدولي الانساني هي المسئولة عن تفجر الاوضاع، ومن حق مصر في هذه الظروف أن تتصرف على الوجه الذي يمليه عليها انتماؤها القومي والانساني ويحمي حدودها، بالاتفاق مع الفلسطينيين أنفسهم، حيث أن اشتراك اسرائيل وغيرها في ترتيبات الحدود قد بانت نتائجه وأخطاؤه وأخطاره بشكل لا يجوز تجاهله والعودة الى ما كانت عليه الامور في السابق.

ولكي يؤدي التحرك الشعبي هذا الدور النضالي البناء فان عليه أن يتصرف بمسئولية دون أن يتغافل أو يتراجع في مطالبه. لقد كان من الامور المستنكرة جدا ما وقع من صدام عابر ادى الى وقوع اصابات لبعض افراد القوات المسلحة المصرية. هذا تصرف يسيء الى التحرك الشعبي وللاهداف النبيلة التي سعى الى تحقيقها، ويتيح الفرصة للبعض لايقاع الفتنة. وفي الوقت ذاته، وبعد أن تأكد الموقف الرسمي المصري، كان على حماس، وهي المسيطرة على القطاع، أن تعمل على تنظيم الدخول عبر المعبر بحيث يتم بانتظام وبدون تمكين المتربصين بمصر وفلسطين من بث السموم في العلاقات الاخوية. على حماس أن تنهض بمسئوليتها للحفاظ على هذه العلاقات الاخوية ولحماية مصر من أن يتسلل اليها، في هذه الزحمة، مخربون أو متآمرون. هذه خطوات يجب أن تتخذ حتى لا يفقد التحرك الشعبي أهميته في اداء دوره التحريري. وعلى حماس أن تتخذه ما دامت تسيطر على الاوضاع في القطاع.

التحركُ الشعبي، اذا كان واعياً ملتزما ومنضبطا، شأنه شأن المعارضة الواعية الملتزمة المنضبطة، قوةٌ وسلاحٌ ماضٍٍ في يد الحكومات التي تريد أن تصمد في وجه الطلبات الجائرة والضغوط الاجنبية، وما حدث يوم 23 يناير سواء من الجانب الفلسطيني أو الجانب المصري أو حتى المظاهرات التي انطلقت في مختلف الاقطار العربية يمكن للنظامين المصري والفلسطيني وللانظمة العربية عامة توظيفه للتخلص من قيود اتفاقات المعابر، بل وحتى للتخلص من القيود التي فرضت على السيادة المصرية في سيناء.

ان سيطرة حماس في قطاع غزة وما لها من نفوذ واتباع في الضفة يمكن توظيفه بذكاء لرفض الطلبات والشروط الاسرائيلية والامريكية. المعارضة التي نصورها دائما على أنها نقمة أو نقطة ضعف، هي في القضايا المصيرية مصدر قوة اذا أُحسِنَ الاستفادة من وجودها. وفي الاوضاع الراهنة فان سيطرة حماس على قطاع غزة وهذا التحرك الشعبي القوي سواء في القطاع أو في مصر جديران بأن يوفرا قوة يستطيع النظامان المصري والفلسطيني الاستناد اليهما أولا لابقاء المعبر مفتوحا تحت رقابة مصرية فلسطينية خالصة، وثانيا لرفض العودة الى وضع المهانة السابق الذي كانت تسيطر فيه اسرائيل على كل تحرك بين القطاع ومصر، ذلك أن العودة الى ذلك النظام من شأنه أن يفجر الأوضاع من جديد لا لسبب الا لأن اسرائيل لا تستطيع التخلي عن سياسة القهر التي تنتهجها حيال الشعب الفلسطيني لاخضاعه لاملاءاتها. فسياسة القهر هذه، التي لم تعرف حدودا، ستعود اذا عاد التحكم الاسرائيلي، وهو تحكم فرضه النظام القديم وساهم فيه المراقبون الاوروبيون الذين كان الهدف الاساسي من وجودهم هو حماية المصالح الاسرائيلية في تثبيت الاحتلال وليس المصلحة الفلسطينية أو المصرية أو العربية. هذا هو المطلب الشعبي، فلسطينيا وعربيا، وعلى الجماهير أن تتحرك من جديد، سلميا وبانضباط، اذا حادت الترتيبات الجديدة عن هذا الهدف.

تُرى متى تتحقق الانتفاضات الشعبية العارمة الاخرى التي ما زالت في الانتظار والتي تتحرك فيها الألوف بشكل يتواصل الى أن ينهار جدار الفصل العنصري وتُزال الحواجز وتخلى المستوطنات؟ متى ستنطلق انتفاضة اللاجئين من كل مخيم نحو الحدود في الطريق الى العودة، فحق العودة لن يعترف به اختيارا وانما يُنال بالضغط الجماهيري الذي لا يتوقف والذي يؤكد للعدو أن هذا الحق وراءه مُطالِب ؟

متى؟؟
الدعوة هذه لانتفاضات ما زالت في الانتظار ليست دعوة للعنف أو للفوضى، فكلاهما يضر بالهدف من التحرك ويتيح الفرصة لتشويهه والانقضاض عليه. الاهداف الفلسطينية كلها مشروعة وطاهرة ونقية ولا يجوز السماح بالالتفاف عليها بتحركات غير ملتزمة أو منضبطة.

• * *

كنا قد كتبنا هذا المقال قبل أن تنزل بالنضال العربي فاجعة فقدان بطل نادر من أبطاله هو المرحوم الدكتور جورج حبش، مؤسس حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. كان رحمه الله شعلة من العطاء لا تخمد أو تنطفئ، وكان عظيما في خلقه وفي مواقفه وفي التزامه الذي لا يتزعزع بقضايا أمته العربية وشعبه الفلسطيني وبحق الشعوب جميعا في الحرية والكرامة. وضرب مثلا لم يسبق اليه في التنظيمات والحركات والاحزاب العربية، حين تخلى عن قيادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وسلم الراية لجيل جديد تربى على مُثُلِهِ في الاستقامة والوطنية وروح الفداء. واستلم الراية الشهيد أبو علي مصطفى الذي اغتاله في مكتبه صاروخ اسرائيلي. كان رحمه الله يقود المعارضة في المجلس الوطني الفلسطيني، معارضة بناءة موضوعية بعيدة كل البعد عن المهاترات أو النزعات أو المطامع الشخصية، وكان في هذه المعارضة يحظى باحترام الجميع، ممن وافقه وممن خالفه. ومن آخر مواقفه هذه كانت معارضته للبيان السياسي الذي أقره المجلس الوطني الفلسطيني بالاغلبية في دورة الجزائر عام 1988، بعد أن أقر بالاجماع وثيقة اعلان الاستقلال. لقد صوت الى جانب استقلال فلسطين ولكنه عارض البيان السياسي لأنه انطوى على اعتراف باسرائيل. فقد كان يرفض ذلك الاعتراف ويرفض ما تدعيه اسرائيل من حق في الوجود في فلسطين، وانتقل الى جوار ربه دون أن يحيد عن هذا الموقف. لقد قاد الفقيد مرحلة هامة من مراحل معركة التحرر العربي. جزاه الله عن نضاله خير الجزاء وتغمده بواسع رحمته، وانا لله وانا اليه راجعون.