إغراق غزة: تحقيقٌ لأمنية رابين؟

إغراق غزة: تحقيقٌ لأمنية رابين؟

(أولا): مقدمة

من بين التمنيات المشهورة لرئيس وزراء اسرائيل الأسبق، رابين، أنه كان يتمنى أن يستيقظ في الصباح ويجد أن مياه البحر الابيض المتوسط قد ابتلعت قطاع غزة. واغتيل رابين قبل أن تتحقق أمنيته هذه. ولكن هذا النوع من الامنيات لا يموت في اسرائيل بموت صاحبه. فغزة مشكلة لاسرائيل منذ قيامها، ولا بد من التخلص من هذه المشكلة، ولو بإغراق القطاع ماديا أو معنويا. فغزة المشكلة، على خلاف ما قد يتصور البعض، لم تبدأ بظهور حماس على ساحة المقاومة ، ورابين أطلق أمنيته هذه قبل أن تفوز حماس في الانتخابات عام 2006 وتتولى السلطة. ولكن نجاح حماس هذا وتوليها السلطة وتبنيها لمنهج المقاومة – كل هذا زاد من حرص اسرائيل على تنفيذ أمنية رابين بشكل أو بآخر بعد أن مرت بتجارب مختلفة في تعاملها مع القطاع. فقد حاولت السيطرة على القطاع واخضاعه بالقوة العسكرية المحتلة والمستوطنات وفشلت، وحاولت عن طريق الجنرال الامريكي كيث دايتون وأتباعه وأعوانه في السلطة الفلسطينية، وفشلت، وسحبت قواتها من القطاع وأزالت المستوطنات وفرضت حصارا بحريا وبريا وجويا، ومع ذلك لم يخضع القطاع، واخترق الارض وحفر الانفاق في مواجهة جريئة لهذا الحصار، ولم يستسلم أو ييأس. وشنت اسرائيل حربا عدوانية مدمرة استعملت فيها الاسلحة المحرمة وغير المحرمة وارتكبت الجرائم ، ومع ذلك صمد هذا الشعب الابي في أرضه وما زال صامدا، واستمر في محاولات الاعتماد على انفاق وعلى معبر مع مدينة رفخ المصرية، يُفتَحُ حينا ويظل مقفلا في معظم الاحيان. وصبر واحتمل. واستمر تحديه للحصار بالغوص في باطن الارض. هذا الملاذُ، الانفاقُ ، بقيَ الملاذََ الاخير الذي يخضع الى حد ما لسيطرته، وإذن يجب أن يُقْفَلَ ليكتمل الحصار، ويوضع الغزاويون أمام أحد خيارين: إما الرضوخ للاملاءات الاسرائيلية رضوخا كاملا في كل شيء، وإما الابادة الجماعية جوعا وعطشا ومرضا وغرقا. من هذا الواقع جاءت فكرة بناء جدار فولاذي في باطن الارض بعد أن سبق اقامة جدار فوق سطح الارض على طول امتداد الحدود المصرية الفلسطينية، بحيث لا يبقى من منافذ للقطاع، من الناحية النظرية، سوى البوابات الاسرائيلية ومعبر رفح المصري، وهذه لا سيطرة للفلسطينيين عليها. غير أن الحصار وحده لا يكفي، فقد ثبت أن الارادة الخلاقة لشعب غزة قد تحدته، ولذا لا بد من تحقيق أمنية رابين باغراق القطاع. ومن هنا جاء التصميم الخاص للجدار، كما سنرى.

(ثانيا) المرور من معبر رفح

لو أن معبر رفح المصري يبقى مفتوحا كنقطة حدود بين القطاع ومصر، كما تفتح نقاط الحدود الدولية، لما كان هناك أية ضرورة لحفر الانفاق، وبالتالي لما كانت هناك حاجة لاقامة جدار فولاذي أو ستار أو فاصل أو عازل أو انشاءات، كما يحلو لانصاره من الاخوة في مصر تسميته، تماما كما تتجنب اسرائيل تسمية جدارها الذي يطوق الضفة الغربية بالجدار وتفضل تسميته بالسياج. ولكن يبدو أن هناك التزامات ليست معلنة تحكم فتح معبر رفح المصري. فقد نشرت القدس العربي في عددها الصادر بتاريخ 13 يناير (كانون الثاني) 2010 في صفحتها الاولى تصريحا لأحمد أبو الغيط، وزير خارجية مصر، جاء فيه أن “فتح معبر رفح بشكل دائم وبصفة رسمية سيكون بمثابة اعتراف بحركة حماس كقوة مسيطرة على قطاع غزة، وهو ما سيعد كسرا لكل الالتزامات المصرية تجاه اسرائيل وتجاه المجتمع الدولي المتمثل في الاتحاد الاوروبي”.
الغريب في هذا التصريح أنه يتجاهل تماما أية التزامات مصرية تجاه القطاع وأهله، وهي التزامات قانونية قائمة في ذمة مصر وسابقة لأي التزام مصري تجاه اسرائيل أو الاتحاد الاوروبي ومستمرة الى أن يتحرر القطاع من الاحتلال. وقد نرتبت هذه الالتزامات على تولي مصر أمور القطاع بالكامل منذ عام 1948 وحتى الاحتلال الاسرائيلي عام 1967 الذي تَمَّ ومصرُ مسئولةٌ مسئوليةً كاملةً عن شئون القطاع. هذا أولا، وثانيا، لعل مصدر الالتزام الذي أشار اليه أبو الغيط هو اتفاقية المعابر التي أبرمتها السلطة الفلسطينية مع اسرائيل. غير أن اتفاقية المعابر هذه قاصرة حصرا على المعابر الفلسطينية، ومن بينها معبر رفح الفلسطيني، ولا علاقة لها بمعبر رفح المصري، وأطرافها هم السلطة الفلسطينية واسرائيل والاتحاد الاوروبي. أما مصر فليست طرفا فيها، على خلاف ما يدعيه البعض، ومعابرمصر لا تخضع لها ،وانما المفروض أن هذه المعابر ، ومن بينها معبر رفح، تخضع للسيادة المصرية فقط، ولا تًلْزِمُها اتفاقيةٌ مصر ليست طرفا فيها، كاتفاقية المعابر بين اسرائيل والسلطة الفلسطينية .

واذا كانت الحكومة المصرية قد الزمت نفسها تجاه اسرائيل والاتحاد الاوروبي بعدم فتح معبر رفح بصورة رسمية ويشكل دائم، فإن هذا الالتزام يكون قد نشأ، اذا كان قد نشأ أصلا، بعد ابرام اتفاقية المعابر وبعد أن تولت حماس السلطة في القطاع، وتمسكت بالسيطرة الفلسطينية على معبر رفح الفلسطيني، باعتباره معبرا محررا من الاحتلال الاسرائيلي. في هذه الحالة يكون من واجب الحكومة المصرية تجاه شعب غزة، الذي كانت مسئولة عنه وتتحمل مسئولية خاصة لتحريره من الاحتلال، دعمُ هذا الموقف لا الالتزام بما يناقضه. فاقامة الجدار الفولاذي الذي يغلق المنفذ الوحيد للقطاع على العالم الخارجي، وهو الانفاق بعد إغلاق معبر رفح، يتناقض مع المسئولية المصرية تجاه القطاع ويدخلها في اطار مساءلة قانونية محتملة عن المشاركة في اتفاق جنائي مع اسرائيل والانحاد الاوروبي لارتكاب عقوبات جماعية على المدنيين في غزة، لأغراض سياسية، يعاقب عليها القانون الدولي والقانون الدولي الانساني. فإغلاق الانفاق ومعبر رفح المصري مع الحصار الاسرائيلي يتسبب في انتهاك حقوق المدنيين الفلسطينيين في القطاع، وهي حقوق أساسية لا غنى عنها مثل الحق في الحياة والحق في العلاج الطبي والدواء والحق في المأكل والمأوى. هذه الحقوق يحرم منها، وقد حرم منها، المواطن الفلسطيني في القطاع بسبب الحصار الاسرائيلي والحصار المصري، وهذه مخالفات يعاقب عليها القانون الدولي الانساني.
لقد كان موقف مصر من الانفاق، حتى لوعَلِمَتْ بها ولم تغلقها، موقفا سليما في نظر القانون الدولي والقانون الدولي الانساني. فالحصار الذي تفرضه اسرائيل على قطاع غزة حصار غير شرعي، وتمكين مصر لفلسطينيي القطاع من التغلب عليه، ولو جزئيا، هو وفاء من جانب مصر بالتزاماتها وفقا لاتفاقية جنيف الرابعة، حيث أنها بذلك تبطل أثر الحصار الاسرائيلي الذي تدينه تلك الاتفاقية، وواجب كل دولة طرف في تلك الاتفاقية هو الحرص على تنفيذها من جميع الاطراف ومعاقبة من يخالفها. وفي هذا تكون مصر قائدة لفك حصار غير شرعي. أما الآن وبإقامة هذا الجدار الفولاذي وباحترام التزام غير شرعي تجاه اسرائيل والاتحاد الاوروبي فإن مصر نفسها تُجَر للمساءلة القانونية بصفة أنها أصبحت شريكا في حصار غير شرعي مع اسرائيل، ومسئولةً بصفة أساسية عن إغلاق منفذ شرعي يُمَكِّنُ أهل القطاع من ممارسة حقوقهم وحياتهم الطبيعية.
ويزداد الأمر خطورة بالنسبة لمصر حيث أن الاتحاد الاوروبي والمجتمع الدولي كله يطالب اسرائيل بفك الحصار ويعتبره غير شرعي، وبالتالي فان الاتحاد الاوروبي قد بدأ ينأى بنفسه عن الحصار الاسرائيلي للقطاع تخلصا من المسئولية القانونية والاخلاقية، خاصة بعد صدور تقرير القاضي جولدستون الذي اعتبر الحصار الاسرائيلي غير شرعي تترتب عليه مساءلة قانونية أمام المحاكم الدولية ومحاكم الدول التي تمارس اختصاصا عاما وفقا لاتفاقيات جنيف. وإذن فإن هذا التجاوب الرسمي المصري للطلبات الاسرائيلية يجر مصر تدريجيا لدائرة المساءلة القانونية فضلا عن المساءلة الاخلاقية والقومية، ويورط مصر في شراكة وانتهاكات اسرائيلية لا تستطيع النجاة منها ومن آثارها.

وليس جولدستون وحده هو صاحب الرأي في أن الحصار على القطاع غير شرعي. ذلك أن المقرر الدائم للامم المتحدة عن انتهاكات حقوق الشعب الفلسطيني، البروفسور رتشارد فالك، وهو يهودي مثل جولدستون، هو أيضا صاحب موقف مماثل. والفرق بين الاثنين أن تقرير جولدستون قد صدر قبل أن ينكشف سر الجدار الفولاذي، وبالتالي فإن جولدستون لم يشر اليه، في حين أن الخبير الاممي فالك تحدث بعد أن انكشف الأمر. فقد دعا هذا الخبير الاممي في تقاريره المتعددة التي قدمها للامم المتحدة ومجلس خقوق الانسان الى معاقبة المسئولين الاسرائيليين، وعندما تبين له أن المجتمع الدولي لم يتحرك كما يجب في هذا الاتجاه، بدأ يطالب بفرض عقوبات اقتصادية على اسرائيل لرفضها الاستجابة للمناشدات المتعددة لفك الحصار، وكرر مطالبته هذه في لقاء اذاعه راديو الامم المتحدة في 29 ديسمبر 2009 ووصف الحصار هذا بأنه “حصارلم يمر به أي شعب من الشعوب منذ الحرب العالمية الثانية في شدته واستمراره”، وهو حصار لم يٌعِدْ القطاع الى العصر الحجري، وانما أعاده الى عصر الطين”، على حد قول مدير وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا). في اشارة منه الى مواجهة الأهل في القطاع الى استعمال الطين للبناء في تَحَدٍّ للحظر المفروض على مواد البناء.

وانضم أعضاء من الكونغرس الامريكي لمناهضي الحصارين الاسرائيلي والرسمي المصري. فقد وجه أربعة وخمسون عضوا من أعضاء الكونغرس بتاريخ 21 يناير 2010 رسالة الى الرئيس الامريكي طالبوه فيها بأن يفك الحصار “الذي فرضته اسرائيل ومصر بعد الانقلاب الذي قامت به حماس، خاصة بعد عملية الرصاص المصبوب” . ففي نظر هؤلاء الأعضاء الاربعة والخمسين في الكونعرس الامريكي فإن الحصار لا تفرضه اسرائيل فقط وإنما تفرضه السلطات المصرية كذلك، وأن هذا الحصار من جانب اسرائيل ومصر قد جاء بعد “الانقلاب” الذي قامت به حماس. وأعضاء الكونغرس هؤلاء يطالبون برفع الحصارين، ولا يرون أن هذين الحصارين يبررهما “الانقلاب” الذي قامت به حماس. ويحدد أعضاء الكونغرس عشرة أمور تتطلب المعالجة الآنية، ومن بينها حرية الحركة للجميع، من والى غزة، وخاصة للطلبة والمرضى وعمال الاغاثة والصحفيين وأصحاب المشاكل العائلية، وتوفير المياه النقية، بما في ذلك مواد البنية التحتية لتوقير المياه النقية، وتوفير كميات كبيرة من أنواع المواد الغذائية والزراعية، وتوفير الدواء ومستلزمات الرعاية الصحية، وتوفير المواد الضرورية للبيئة الصحية، بما في ذلك ما تحتاج اليه من بنية تحتية،وتوفير مواد البناء ، وتوفير الوقود وقطع الغيار، والمرور الآني من غزة واليها للبضائع التجارية والزراعية، ونشر ومراجعة قوائم المواد المحظورة بحيث تكون معروفة لسكان غزة. إن هذه القائمة تدل على أن هذا العدد غير المسبوق في القضية الفلسطينية من أعضاء الكونغرس قد بدأوا يتابعون ما يجري في القطاع من مصادر غير المصادر الاسرائيلية وغير مصادر السلطة الفلسطينية في رام الله، كما بدأوا يسلكون طريقا مغايرا لسلوك ومواقف اسرائيل ومصر والسلطة الفلسطينية .

(ثالثا) تواطؤ مصري أمريكي اسرائيلي؟

صمود قطاع غزة حتى بعد الحرب القذرة التي شنتها اسرائيل ووقف فيها القطاع وحده، ونجاح أهل القطاع في مواجهة الحصار الاسرائيلي عن طريق الانفاق، أقنع الاطراف المعنية باخضاع القطاع وأهله وفرض الاستسلام عليه بانه لا بد من اللجوء الى الحل النهائي وهو خنق القطاع بقفل كل منافذ اتصاله مع العالم الخارجي. يقول الخبير الاممي ريتشارد فالك في ذلك وهو يستنكر الجدار لبفولاذي المصري: “”انني أشعر بالأسى لحصول ذلك، لأنه يعبر عن تواطؤ من جانب الحكومة المصرية مع الولايات المتحدة التي على ما يبدو تساعد عن طريق سلاح المهندسين (في الجيش الامريكي) في بناء هذا الجدار الفولاذي الذي لا يمكن اختراقه والذي صمم ليؤثر في الانفاق التي كانت تجلب شيئا من الطعام ومواد الاغاثة لسكان غزة”. أي أن الهدف منه هو غلق نافذة كان يمر منها قليل من الطعام ومواد الاغاثة لسكان غزة، وهذه النافذة كانت الانفاق، حيث أن معبر رفح كان مغلقا معطم الوقت للاسباب التي ذكرها وزير الخارجية المصري.

هذا التواطؤ بين الحكومة المصرية والولايات المتحدة من شِأنه، دون أدنى شك أو تساؤل،أن يؤدي الى مشاركة اسرائيلية في جميع مراحل التفكير والتخطيط والتنفيذ للجدار، ولا يستبعد أبدا أن تكون اسرائيل هي المُبادِرَةُ، فهي صاحبة المصلحة الاولى في خنق القطاع وفرض الاستسلام على أهله، وتحميل مصر المسئولية عما يصيبه. وقد أشار أيهود باراك ، مباشرة بعد الانسحاب الاسرائيلي من القطاع، الى تفاهم مع السلطات المصرية، دون أن يذكر تفاصيل، كما أن وزير الخارجية المصري صرح على فضائية مصرية بأن الإعداد للتنفيذ قد استغرق حوالي السنة، والسنة هي الفترة التي انقضت بين العدوان على غزة والبدء في بناء الجدار. وكذلك فإن أعضاء الكونغرس الذين سبقت الاشارة الى رسالتهم للرئيس الامريكي قد تحدثوا فيها عن “الحصار الذي تفرضه اسرائيل ومصر” على القطاع “خاصة بعد عملية الرصاص المسكوب”. وسواء صدق ايهود باراك أو لم يصدق، والظاهر أن السوابق تؤيد صدقه، فإنه لا يتصور أن أمريكا تقدم على فعل كهذا دون تفاهم مسبق مع اسرائيل على جميع التفاصيل، كما لا يتصور أن الحكومة المصرية تقدم على تنفيذ مشروع كهذا في منطقة مجاورة للحدود مع اسرائيل، بدون موافقة اسرائيل على جميع التفاصيل أيضا، وإن نُسِِبَ المشروع لمصررسميا لأنه ينفذ في اراض مصرية. وقد أشار وزير خارجية مصر في مقابلته مع الفضائية المصرية الى أن مصر طلبت من أمريكا مجسات الكترونية لنصبها على الجدار الارضي الذي طوقت به قطاع غزة بعد العدوان الأخير ليحل محل السياج الذي كان يفصل بين الرفحين المصرية والفلسطينية. وذكرت المصادر أن الولايات المتحدة اشترطت على مصر اقامة الجدار الفولاذي لكي تستجيب الولايات المتحدة للطلب. وبدخول أمريكا على الخط دخلت اسرائيل دون شك وبمعرفة السلطات المصرية. الموافقة الاسرائيلية شرط لا مهرب منه الا بالتمسك بالسيادة المصرية على الحدود مع القطاع. غير أن السيادة المصرية في هذه المناطق مقيدة جدا. وقد شهد العالم كله على ذلك عندما لم تسمح اسرائيل لمصر بزيادة عدد افراد حرس الحدود المصريين مع القطاع عندما طلبت مصر ذلك. ولا شك أنه اذا أرادت مصر مستقبلا ازالة الجدار أو إدخال أية تعديلات عليه فإنها ستحتاج الى موافقة اسرائيلية وأمريكية. أي أن مصر، اذا نفذت المشروع، ستظل في دائرة المخالفة للقانون ولواجبها القومي والانساني ولا تستطيع التخلص من هذه المخالفة، والحديث عن السيادة ، مع الأسف الشديد، حديث في غير محله في هذه المناسبة ويقصد منه الايهام بأن سيادة مصر معرضة للاعتداء عليها من فلسطينيي غزة، في حين أن الاعتداء على السيادة المصرية قائم منذ 1967 ولم يتغير حتى اليوم، والمعتدي هو اسرائيل.

(رابعا) تبريرات: كاد المريب أن يقول خذوني

بعد انفضاح الأمر عن طريق الصحافة الاسرائيلية ثم الناطق الرسمي الامريكي، لم يعد هناك مجال للإختفاء وراء العموميات والانكار. ولذا بدأت عملية اختراع المبررات، وجاء التركيز على التهريب عبر الانفاق من القطاع الى مصر وتضخيمه، مع أن المنطق والواقع يقولان إن القطاع في حاجة الى كل ما يهرب اليه وليس لديه ما يهربه الى مصر أو يستطيع الاستغناء عنه لاعادة تهريبه. واسهل على المهربين من اعادة التهريب أن يسلموا ما يريدون الى أعوانهم في سيناء. ولكن لا مجال للمنطق في مواجهة الاختلاق الذي أضاف ما راق له الى قائمة المهربات عبر الانفاق. فقد قالوا إن الاسلحة تهرب الى مصر من القطاع، وكذلك المخدرات، وأضاف سفير مصري في حوار مع منى الشاذلي، الاعلامية المصرية المتميزة، في فضائية دريم الثانية، الى هذه القائمة “الروسيات”، نعم الروسيات. الى هذه الدرجة بلغ اصطناع المبررات والاسفاف والاستخفاف بعقول الناس. وتجاهلوا جميعا أن سيناء كانت دائما مصدرا لتهريب السلاح والمخدرات قبل اختراع حماس أو ايران أو حتى قبل قيام اسرائيل، كما أن السلاح منتشر في سيناء وصعيد مصر على نطاق واسع. فهل الانفاق مع غزة هي المصدر؟ ومع ذلك يريدون أن يصدق الناس أن تهريبا يتم من القطاع يهدد سيادة مصر وأمنها القومي. ولقد أصاب أستاذ جامعي مصري عندما قال إن “السيادة” و “الأمن القومي” شماعة تعلق عليها الحكومات العربية كل ما لا يرضيها من نشاط.

لا يصدق عاقل أن فلسطينيي قطاع غزة، أوحماس أوغيرها من الفصائل الفلسطينية، يسعون للاخلال بالأمن القومي المصري أو انتهاك السيادة المصرية. نعم لقد عبروا الحدود بعشرات الالاف بعد العدوان عليهم من اسرائيل. ولكنهم لم يفعلوا ذلك انتهاكا لسيادة مصر أو تهديدا لأمنها القومي وانما تنفيذ للقاعدة الشرعية التي تقول “الحاجة تنزل منزلة الضرورة” و “الضرورات تبيح المحظورات”، وهل هناك حاجة أكبر من الحاجة الى الغذاء والدواء والمسكن بعد ما حل بهم ما حل؟ ولو أن بوابة الحدود فُتحت، كما كان يجب وكما كان يريد الشعب المصري الأبي، لكانت هناك قصة أخرى تتحدث عن الفرحة.

(خامسا) مشروعية الجدار

للحكم على الجدار من حيث مشروعيته من عدمها لا بد في البداية من عرض موجز لطبيعته ثم التعرض لآثاره، فليس كل جدار يقام على الحدود يعتبر غير مشروع لا لسبب الا لأن الطرف الآخر يعترض عليه. بداية، من المعروف في الشريعة الاسلامية وفي القانون الوضعي سواء في القانون الخاص أو القانون الدولي أنه لا يُمنَعُ أحدٌ من التصرف في ملكه أبدا الا اذا كان ضررذلك التصرف على غيره فاحشا (المادة 1198 مجلة الاحكام الشرعية). فالقضية إذن ليست قضية حق مصر في بناء الجدار في أراضيها، أي ليست قضية سيادة أو أمن قومي، فهذان أمران لا نقاش فيهما. فكل دولة لها الحق في ممارسة سيادتها واتخاذ ما تراه من اجراءات ملتزمة بالقانون لحماية أمنها القومي. وانما القضية تنحصر في طبيعة التصرف وآثاره، وفي حالتنا هذه تنحصر القضية في طبيعة الجدار وآثاره: فاذا كان يلحق ضررا بالجانب الفلسطيني فإنه يكون غير مشروع ويجب تعديله، اذا أمكن، لينتفي الضرر، واذا استحال ذلك فيجب ازالته والبحث عن حل آخر لا يترتب عليه ضرر. المشروعية موقف قانوني وليست موقفا سياسيا. قد يتغلب الموقف السياسي على القانوني أحيانا، ولكن ذلك لا يكسبه الشرعية التي يعتد بها، ولا يؤاخذ الطرف المتضرر اذا هو تمسك بحقه من وجوب ازالة الضرر، وتمسكه بهذا الحق لا يعتبر اعتداء على سيادة أو تهديدا للامن القومي.

الجدار، كما جاء في وسائل الاعلام، يتكون من عدة صفائح يصل طول الواحدة منها الى ثلاثين مترا وقد يكون أقل من ذلك، وسمك الصفيحة خمسون سنتيمترا، وقد صنعت من الفولاذ الذي لا يمكن اختراقه حتى بالقنابل، كما دلت التجارب التي أجريت عليه. وتغرس هذه الصفائح متلاصقة عموديا في الارض على امتداد الحدود بين مصر والقطاع. وفي الجانب الداخلي من الجدار في اتجاه القطاع انبوب ضخم يبدا من نقطة في البحر الابيض المتوسط ويمتد افقيا على طول الجدار، وتتفرع منه منظومة من الانابيب تمتد عموديا على طوله، وبها فتحات على الارض الفلسطينية تتصب منها المياه التي تمرر في الانبوب الافقي الرئيسي من البحر. وهكذا فان الانفاق التي سبق حفرها ستغرقها المياه المالحة كما انها ستغرق أي نفق جديد قد يفكر في شقه. كل هذا في باطن الارض والتحكم فيه من الجانب المصري. جدار بهذه الصفة لا يولد في ساعته، وهذا يدل على أن المشروع كان محل بحث ودراسة وتصميم بين الاطراف المعنية به، أي السلطات المصرية والولايات المتحدة واسرائيل، وأن هذا التصميم قد وضع آخذا في الاعتبار فقط مصلحة الاطراف الثلاثة، ومصلحة اسرائيل بشكل خاص لأنها الطرف الاقوى في هذه المعادلة، مهما قيل غير ذلك ذلك.

أما الجانب الفلسطيني ، حتى الرسمي منه، فقد أغفل تماما، ولم يسمع أحد شيئا منه سوى تصريح من الرئيس الفلسطيني المنتهي ولايته يؤكد فيه أن من جق مصر اقامة هذا الجدار، وأيده في ذلك وزير أوقافه معلنا أن بناء الجدار هذا حلال، مجاريا في ذلك فتوى مركز الأبحاث الاسلامية في الازهر ومخالفا باقي علماء المسلمين من مختلف الاقطار. وجاءت هذه التصريحات بعد أن افتضح أمر الجدار.أما المسئولون في القطاع فيبدو أنهم علموا بالمشروع من الصحافة الاسرائيلية، شأنهم في ذلك شأن باقي ابناء الأمة العربية، بما في ذلك الشعب المصري، ولم يُخْطَروا به أو يُستشاروا فيه أو يتم أي تنسيق معهم، ولو في مرحلة التنفيذ، حيث أن القانون الدولي يشترط الاتفاق على علامات الحدود سواء كانت على سطح الارض أو في باطنها. ولكن ذلك لم يحدث مع الجانب الفلسطيني، ولو لتجنب الضرر الذي يترتب على ضخ مياه البحر في الاراضي الفلسطينية.

(سادسا) هل هناك ضرر من إقامة هذا الجدار؟

هناك اتفاق لا جدال فيه بين الشريعة والقوانين الوضعية والقانون الدولي والقانون الدولي الانساني من أن الضرر يتنافى مع المشروعية. أي لا مشروعية لفعل يترتب عليه ضرر للغير. فهل يترتب ضرر من هذا الجدار الفولاذي ومنظومته المائية؟ بداية لا مفر من القول إن مجرد صب مياه البحر في الاراضي الفلسطينية هو اعتداء على هذه الاراضي، واعتداء كذلك على اصحاب الانفاق الذين سيغرق البحر أنفاقهم، واعتداء على السيادة الفلسطينية والأمن القومي الفلسطيني، حيث أن ذلك كله يقع في الاراضي الفلسطينية. والاعتداء في حد ذاته ضرر يجب ازالته.

ثم ان الضرر الذي سيلحق بالجانب الفلسطيني ضرر في غاية الخطورة ولا يمكن ازالته أو معالجته بعد وقوعه. فالجدار يتضمن منظومة مائية تصب ماء البحر الابيض المتوسط المالح في الانفاق التي سبق حفرها بحيث يملؤها، ومن الطبيعي أن يتسرب الى باطن التربة في كل اتجاه. هذه نتيجة طبيعية لوجود الماء واستمرار تدفقه. أرض غزة ستصبح تدريجيا أرضا مالحة تتشبع تدريجيا بالماء المالح في جميع ارجائها . وفي حركة الماء هذه وتغلغله في التربة فإنه لا يفسدها هي فقط ويجعلها غير صالحة للزراعة وانما لا مفر له من الوصول الى المياه الجوفية حيثما توجد. وهكذا فإن الضرر يلحق بالارض تربةً ، ويلحق بالمياه الجوفية وبما يكون في باطن الارض من ثروات، كالثروة المعدنية أو البنرولية. وهذا الضرر الذي يصيب باطن الارض ويأخذ في الانتشار سيلتقي بما صبته اسرائيل على سطح الارض من سموم ومواد كيماوية افسدت التربة وتسببت في تسميم المزروعات، وهو ما بدأت آثاره في الظهور على صحة أهل القطاع.

والاسرائيليون، الذين هم طرف اساسي في المشروع، ليسوا ابرياء من محاولات التخلص من الفلسطينيين بشكل أو بآخر، والقاء اللوم على طرف عربي. فقد وَثَّقَ المؤرخ الاسرائيلي ايلان باب في كتابه “التطهير العرقي لفلسطين” حادثتين على الاقل من هذا القبيل قام بهما رجال الحركة الصهيونية في فلسطين عام 1948 من أجل ابادة الفلسطينيين أو ارغامهم على الرحيل عن طريق الحرب الجرثومية ، أولاهما صب جراثيم مرض التيفوئيد في مصدر للمياه في مدينة عكا أثناء حصارها في 6 مايو 1948حين استعصت عليهم كما استعصت على نابليون من قبلهم. والمحاولة الثانية كانت محاولة تلويث أبار غزة بجراثيم مرضي التيفوئيد والدزنتاريا، وقد أفسد الجيش المصري تلك المحاولة وقبض على الفاعلين وأعدمهما. ونحن لا نشك لحظة في أنه كان لاسرائيل يد كبيرة في تصميم الجدار الفولاذي والمنظومة المائية لتحقيق أهدافها البعيدة، وهي القضاء التدريجي على فرص الحياة كلية في قطاع غزة وارغام أهله على الرحيل الى الاراضي المصرية باقتحام الحدود والبقاء في الاراضي المصرية، وفي هذا كله يجري تحميل المسئولية لمصر.

واذن فالضرر واقع لا محالة، وهو ضرر مؤكد ومستمرومتزايد و”فاحش”، اذا أردنا استعمال تعبير الفقهاء، ولا يمكن التخلص منه، وسينسى الموضوع لأن الانابيب كلها تحت الارض وتقع الكارثة المؤكدة بشكل تدريجي بأن يغرق القطاع أو يصبح غير صالح للعيش فيه أو الحياة من خيراته. وتأسيسا على هذا فإن اقامة الجدار تصبح فعلا غير مشروع ، وتنطبق عليه مبادئ القانون الدولي التي أرستها محكمة العدل الدولية في فتواها بشأن الجدار الاسرائيلي. ومن المؤكد أن الفتاوى التي صدرت بتحليل الجدار فتاوى سطحية لم تدرس طبيعة الجدار وجاءت مخالفة للشرع الشريف، ولا تأحذ بها أية محكمة تنظر في شرعية الجدار.

(سابعا) تداعيات بناء الجدار

إن تنفيذ الحكومة المصرية لهذا المشروع ستكون له نتائج بعيدة الاثر بالنسبة لمصر العزيزة وشعبها وتاريخها ومستقبلها، من أولها أن السلطات المصرية لا تستطيع، بعد تنفيذ هذا المشروع، ستصبح رهينة لدى المشروع الصهيوني واسرائيل التي ستبتزها في كل مناسبة، وتفرض عليها تحالفا غير متوازن، وتكمل ما حققته معاهدة السلام حين أخرجت مصر من اتفاقية الدفاع العربي المشترك، وتضيق مجال التحرك المصري في القضايا العربية والاقليمية والدولية وتوظفه لصالح اسرائيل. وستقف مصر، الى جانب اسرائيل، متهمة بالاخلال باتفاقية جنيف الرابعة، وهي الاتفاقية التي تقف اسرائيل وحدها حتى الآن متهمة بالاخلال بها. إن الامكانيات التي فتحت لابنزاز مصر من قبل اسرائيل لا يمكن حصرها، خاصة أمام وقائع مادية لا يمكن انكارها وهي هذا الجدار الفولاذي ومنظومته المائية وعدم فتح معبر رفح بطريفة رسمية دائمة والاثار الكارثية التي تترتب على اجتماع الحصارين المتفاهمين، الاسرائيلي والمصري.

ومن المؤسف جدا أن مباشرة بناء الجدار قد تصادفت مع ذكرى مرور عام على العدوان الاسرائيلي على غزة، وهي مناسبة جرى تذكرها في العديد من بلدان العالم، وكان من بين التحركات بهذه المناسبة قافلة شريان الحياة رقم 4 لغزة، وتظاهرة “الحرية لغزة” اللتين شار فيهما حوالي الف مخمسمائة ناشط من اربعين دولة أجنبية. وبدلا من التعامل معهما برحابة صدر وبعد نظر يعبران عن حضارة مصر وانسانيتها واحترامها لحقوق الانسان، فانهما فوبلا بعنجهية وقصر نظر غريبين، وبدلا من كسبهما حلفاء ودعاة لمصر، فقد نجح النظام المصري، مع الاسف الشديد، في نقل صورة اساءت الى سمعة مصر اساءة بالغة تنقلت عبر الانترنت الى جميع ارجاء العالم.

وتحركت منظمات حقوق الانسان. وكان من المؤلم أن تفوم مظاهرة في تل ابيب شارك فيها فلسطينيو الداخل واسرائيليون ضد الحصار الاسرائيلي لقطاع غزة وضد الجدار الفولاذي المصري، وهكذا اقترن اسم مصر باسم اسرائيل في المسئولية الجنائية، وقامت مظاهرات في القاهرة نظمها أوروبيون كانوا قد جاؤوا الى مصر للعبور الى غزة رافعين شعار الحرية لغزة، وكانت كذلك المصادمات الدامية في ميناء العريش بين ناشطين من متطوعي شريان الحياة لغزة، كما قامت مظاهرات تندد بالجدار الفولاذي المصري في عواصم اوروبية وبعض العواصم العربية حوصرت فيها السفارات والقنصليات المصرية. الى جانب هذا بدأت منظمات حقوق الانسان الاجنبية الداعمة لحقوق الشعب الفلسطيني حملة لمقاطعة البضائع والمنتجات المصرية ومقاطعة السياحة في مصر وسحب الاستثمارات الاجنبية من مصر وعدم الاستثمار فيها. هذه المنظمات هي نفسها التي تقود حملة دولية لمقاطعة البضائع والمنتجات الاسرائيلية وسحب الاستثمارات الاجنبية منها، وبدأت حملتها هذه تؤتي ثمارها. ونتيجة هذا التحرك من جانب منظمات الجتمع المدني في بلدان متعددة أن اسم مصر سينضم، مع الاسف الشديد، لاسم اسرائيل في انتهاك حقوق الانسان الفلسطيني وارتكاب جرائم ضد الانسانية وضد القانون الدولي يعاقب عليها القانون الدولي والقانون الدولي الانساني، وقد تكون من بين نتائج ذلك ملاحقة مسئولين مصريين أمام القضاء الجنائي الدولي أو القضاء المحلي في الدول التي يمارس قضاؤها اختصاصا عاما في هذه المسائل، تماما كما هو حاصل الآن مع المسئولين الاسرائيليين. واذا كان النفوذ الاسرائيلي قد حال حتى الآن دون مقاطعة اسرائيل مقاطعة مؤثرة، ودون محاكمة المسئولين الاسرائيليين، فإن النفوذ المصري في الاسواق الخارجية وعلى الحكومات الاجنبية أضعف من أن يوفر حماية مماثلة للبضائع المصرية أوللمسئولين المصريين.

إن الذين يتحدثون عن كرامة مصر يجب عليهم أن يتمعنوا كثيرا فيما قد مس هذه الكرامة وأساء اليها وفي ما يجب عمله لاستردادها. وأول ما يجب عمله هو وقف اقامة هذا الجدار وازالة ما أفيم منه، والتفاهم الجدي مع السلطة التي تسيطرعلى القطاع، وهي حماس التي لا يمكن لها أن تسيء الى مجالها الحيوي الوحيد، وهو مصر العربية، بحيث يتم فتح معبر رفح الحدودي بصورة دائمة ورسمية تؤدي الى الاستغناء عن الانفاق، والى مباشرة حركة طبيعية لتنقل الافراد والبضائع، وتساهم في فك الحصار الاسرائيلي وفي تحرير القطاع من الاحتلال وتقويته، حيث قدر له أن يكون القاعدة الامامية في كل مواجهة تفرضها الاطماع الاسرائيلية وطبيعة الحركة الصهيونية، في الماضي أو المستقبل، على مصر والوطن العربي كله. ونزجو من المسئولين في مصر أن يزيلوا من أذهانهم أي تصور بأن من ينتقدون الجدار هذا من أبناء الأمة العربية هم أعداء لمصر أو لا يحرصون على سيادتها وأمنها القومي أو الوطني، فلا يوجد ذلك العربي الذي يعادي مصر أو شعبها الأبي. إنه الحرص على مصر ومكانتها وسمعتها ودورها والحب لها ولشعبها هي المحركات الاساسية لهؤلاء، فمصر هي مصر في قلب كل عربي وفلسطيني ولا يتمنى لها سوى الخير والارتقاء والازدهار.