مجلس الكنائس العالمي والمستوطنات الاسرائيلية

مجلس الكنائس العالمي والمستوطنات الاسرائيلية

‘إن الاستيطان المتواصل في الاراضي خارج حدود اسرائيل المعترف بها دوليا (حدود الخط الأخضر لعام 1949) مرفوض من قبل جميع العالم تقريبا ويلاقي عدم تصديق واسع الانتشار لأنه غير شرعي وغير عادل ويتعارض مع السلام ويتنافى مع المصالح المشروعة لدولة اسرائيل’. ‘نطالب الحكومة الاسرائيلية بأن تجمد بحسن نية وعلى وجه الاستعجال كافة أعمال البناء الاستيطاني والتوسع فيه، كخطوة أولى في اتجاه ازالة جميع المستوطنات’.

الكلام هذا ليس لمسؤول عربي أو فلسطيني، وليس جزءا من بيان أو قرار رسمي عربي أو فلسطيني، وإن كنا نسمع قريبا منه أحيانا للاستهلاك المحلي. إنه جزء من بيان صدر عن اللجنة المركزية لمجلس الكنائس العالمي في دورتها المنعقدة في مقرالمجلس بجنيف في الفترة ما بين 26 آب (أغسطس) و2 ايلول (سبتمبر ) 2009، وأُعْلِنَ على الملأ يوم انتهاء الاجتماعات أي في الثاني من هذا الشهر. البيان يقع في ست صفحات باللغة الانكليزية كلها مكرسة لموضوع الاستيطان الاسرائيلي في الضفة الغربية، والغاءِ الاستثمارات الكنسية وفرض المقاطعة. ومن المتوقع بطبيعة الحال أن يكون للبيان نص رسمي باللغة العربية، ولكن يبدو أنه غير متوفر على الموقع يوم كتابة هذا المقال. ويستطيع القارئ الاطلاع على النص الانكليزي وطباعته بزيارة موقع المجلس وهو: http://www.oikoumene.org/’id=7156 .

يُعَرِفُ المجلس نفسه بأنه يدعو الى الوحدة المسيحية في العقيدة وفي الشهادة والخدمة لعالم عادل يعم فيه السلام . وقد تأسس عام 1948 ويضم في عضويته 349 طائفة بروتستانتية وأرثوذوكسية وانجليكانية وغيرها من الطوائف، مما يمثل في مجموعه 560 مليون مسيحي في أكثر من 110 بلدان. ويعمل المجلس بالتعاون مع الكنيسة الكاثوليكية. من المؤسف أن الاعلام العربي والعديد من الكتاب العرب قلما يتنبهون بجدية لموقف الكنائس المسيحية في الغرب، وخاصة مجلس الكنائس العالمي، من القضية الفلسطينية، وبالتالي فانهم قلما يتفاعلون بايجابية مع هذه المواقف. وتكون النتيجة أن المواطن العربي العادي وكذلك معظم الحركات الاسلامية تظل تجهل مدى التأييد الذي تحظى به القضايا العربية/الاسلامية، وفي مقدمتها العراق والقضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني، من الكنائس والمجلس الذي يمثلها. من واجب المسلمين، وخاصة الحركات الاسلامية المتنورة والهيئات العلمية الاسلامية، التي تتفهم روح الاسلام وما يتميز به من تسامح وعقلانية، متابعة هذه التطورات واقامة علاقات حضارية متواصلة بناءة معها انطلاقا من قاعدتين اساسيتين أعلنهما الاسلام وهما: (أولا) ‘لا اكراه في الدين’ و ‘لكم دينكم ولي دين’ وثانيا ‘وجادلهم بالتي هي أحسن’ و ‘انما أنت مبشر لست عليهم بمسيطر’ والمبشر هو الذي يدعو بالكلمة الطيبة، لا بالكلمة التي تُنَفِرُ وتُباعِد، والكلمة الطيبة هي الفريضة الاسلامية. هؤلاء، وكثيرون من الأفراد والمؤسسات من غير المسلمين يختلفون مع حكوماتهم وسياساتها، ويتحملون من أجل ذلك ما يتحملون، وواجبنا الشد على أيديهم لا اهمالهم أو التنكر لهم أو مخاطبتهم بعبارات تحقير أو عداء.

البيان

لنعد الآن الى البيان. في مقدمته المكونة من أربع عشرة نقطة استعرض جوانب من القضية الفلسطينية وما كان المجلس قد اتخذه من قرارات في اجتماعات سابقة. في الفقرة الاولى أشار الى أن قرار التقسيم الذي تبنته الجمعية العامة للامم المتحدة عام 1947 بقيام دولتين في فلسطين قد نفذ في جانب واحد منه، وهو قيام اسرائيل، في حين أن الجانب الآخر، وهو قيام دولة فلسطينية ما زال في انتظار التنفيذ. ويصرح بأن ‘سياسة اسرائيل الاستيطانية في الاراضي التي احتلت عام 1967 هو عائق دون تحقيق هذا الوعد وعائق أمام قرار المجتمع الدولي بشأن دولة فلسطينية قابلة للحياة. إن الاستيطان المتواصل في الاراضي خارج حدود اسرائيل المعترف بها دوليا (حدود الخط الأخضر لعام 1949) مرفوض من قبل جميع العالم تقريبا ويلاقي عدم تصديق واسع الانتشار لأنه غير شرعي وغير عادل ويتعارض مع السلام ويتنافى مع المصالح المشروعة لدولة اسرائيل. ومع أن حق اسرائيل في أن تعيش في أمان يثير تعاطفا ودعما عالميا، الا أن سياساتها في التوسع والضم تولد استهجانا أو عداء لأنها تدل دلالة مباشرة على طبيعة الاحتلال’. النقطة التي ينطلق منها المجلس هي اذن قرار التقسيم ، مع أنه يشير الى حدود عام 1949، وهي ليست حدودا دولية وانما هي حدود هدنة، ولا يعترف بها كحدود بين الدولتين الا بالاتفاق بينهما. والأصل قانونا لمن يعترف بشرعية قرار التقسيم هي الحدود التي رسمها ذلك القرار.

في الفقرة الثانية يصرح البيان ‘بأنه توجد في الاراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، حوالي مائتي مستوطنة تضم 450000 مستوطن. وهذه المستوطنات تجعل محاولات المجتمع الدولي للوصول الى حل سلمي محاولات أشد هزالا ومستحيلة عمليا. وحتى فإن ‘تجميد الاستيطان’ الذي طلبه أهم حليف لاسرائيل، فانه ووجه بدوامة أحرى من التأخيرات المتعمدة والتنازلات المؤقتة والشروط المسبقة التكتيكية – أمور تؤدي الى تآكل حسن النية وتدمير الأمل وتقضي على مفاوضات ذات معنى، وهي مسائل يمكن أن يشملها تجميد يتم عن حسن نية. وهذا الرفض لتجميد التوسع يدل أيضا على رفض للتعامل مع القضية المركزية في الاحتلال والمستوطنات بهذه الصفة’. هذا التحليل للمناورات الاسرائيلية حول الطلب الامريكي لتجميد الاستيطان قلما تجده في أي مكان آخر، وهو يكشف جانبا لا تسمعه من أي مصدر رسمي عربي أو فلسطيني. وغياب حسن النية من المؤكد أنه لا يجرؤ على النطق به أي مصدر من هذه المصادر خوفا من ردود الفعل الاسرائيلية.

في الفقرة الثالثة يكشف البيان طبيعة الاحتلال الاسرائيلي ويركد مرة أخرى ما تضعه اسرائيل من عراقيل في طريق السلام. تقول هذه الفقرة ‘إنه لمما يسر أن الادارة الامريكية وحكومات دول أخرى كثيرة قد عبرت عن تصميمها على ازالة العقبات التي تقف في طريق السلام وأن تسوي الصراع الاسرائيلي الفلسطيني بمفاوضات موضوعية ونهائية. وهذا سيكون بداية لعلاقات جديدة في شرق أوسط أوسع. ولكن مما لايشجع على ذلك أن الأحداث في الاراضي الفلسطينية المحتلة والقدس الشرقية تكشف مرة أخرى طبيعة الاحتلال الاسرائيلي التي لا تهاون فيها والاسلوب المستمر لخلق عوائق جديدة في وجه السلام’. بهذا يؤكد مجلس الكنائس العالمي أن اسرائيل لا تريد السلام وأنها تصطنع العقبات المتوالية لمحاولة اجهاض المفاوضات الجادة التي تريدها الولايات المتحدة والعديد من دول العالم. وتؤكد هذه السنوات العديدة التي مرت على أوسلو وشهدت تضاعف عمليات الاستيطان والعراقيل التي وضعت في طريق مفاوضات جادة في انتظار استكمال المشروع الصهيوني وهو السيطرة الكاملة على فلسطين بموافقة تفرض على الشعب الفلسطيني في مفاوضات لا مجال فيها الا لقبول الامر الواقع الذي تكون اسرائيل قد فرضته سواء في الضفة أو في القدس. وهذا ما تسعى اسرائيل الآن الى تحقيقه بمناوراتها وتصرفاتها وادعائها في الوقت ذاته بأنها تريد السلام اما الفلسطينيون فهم الذين يماطلون أو لا يوجد بينهم من تتفاوض معه.

في الفقرة الرابعة يستعرض البيان التوسع في الاستيطان بدلا من وقفه وأثر ذلك على الشعب الفلسطيني، ويشير الى الوحدات السكنية التي ستبنى في القدس وبقية الضفة الغربية، والى تدمير المنازل الفلسطينية وطرد سكانها منها والى الخطر الذي تتعرض له الاملاك وذلك تمهيدا للفقرة الخامسة من البيان. في هذه الفقرة يقول البيان ‘إن وجود هذه المستوطنات غير الشرعية والبنى التحتية المرافقة لها بما في ذلك جدار الفصل، وما يسمى ‘بمناطق الأمن’ وشبكة الانفاق الواسعة الانتشار، وطرق التحوي ونقاط التفتيش، كل هذا يحول بين الفلسطينيين وبين أجزاء كبيرة من أراضيهم ومصادر مياههم. إنها تقيد حرية حركتهم وتنتقص من كرامتهم الانسانية الاساسية ويمس بحقهم في الحياة في الكثير من الحالات. كما لها تأثير خطير على حق الفلسطينيين في التعليم والوصول الى مراكز الرعاية الطبية. انها تدمر الاقتصاد الفلسطيني باعاقة حركة انتقال المنتجات، الأمر الذي يجعل وجود دولة فلسطينية قابلة للحياة شبه مستحيل التحقيق. وهذا يضاعف الشعور بالحرمان من الأرض واليأس في أوساط الشعب الفلسطيني ويساهم في اشعال التوترات في المنطقة ويشكل تهديدا لأمن اسرائيل’.

في الفقرة السادسة يتعرض البيان للقدس فيقول ‘إن المستوطنات غير الشرعية في القدس وحولها يهدد مستقبل المدينة المقدسة، هذا المستقبل الذي يجب التفاوض بشأنه كجزء من اتفاقية سلام شامل. إن المستوطنات تعزل القدس عن باقي الضفة الغربية الفلسطينية، فتفرق بين الاسر وتقطع العلاقات الاقتصادية والدينية والثقافية الجوهرية. ان السياسات الاسرائيلية التي تقيد حقوق الاقامة للمقدسيين بمصادرة بطاقات الاقامة وتضييق أذونات البناء ورفض لم شمل العائلات الخ. تهدف الى تغيير طبيعة المدينة المقدسة التي يجب أن تكون مفتوحة للجميع ومشتركة بين الشعبين والديانات الثلاث. ‘

عدم شرعية الاستيطان

بعد هذه المقدمات ، يسترجع المجلس قراراته في دورات سابقة حول الموضوع. فيشير الى قراره المتخذ في دورة 2002 والذي طالب الدول الاطراف في اتفاقية جنيف الرابعة بتنفيذ بيان هذه الاطراف الذي أكد على عدم شرعية المستوطنات وعدم شرعية تنميتها ويطالب دولة الاحتلال بأن تحترم تلك الاتفاقية احتراما كاملا وفعالا . كما أشار الى الموقف الثابت للمجلس منذ زمن طويل من أن الافعال الاحادية الجانب قد أحدثت تغييرا جوهريا في جغرافية القدس وطبيعتها السكانية وأن قرارات الامم المتحدة رقم 181و 194و303 والقرارات اللاحقة قد نصت على وضع خاص للقدس تحت نظام دولي وأن اتفاقيات جنيف تحظر اجراء تغييرات بالنسبة لسكان وطبيعة الاراضي المحتلة، بما فيها القدس. وموقف المجلس في دورته عام 2001 وقناعة المجلس بالحاجة الى مقاطعة البضائع التي تنتج في المستوطنات الاسرائيلية غير الشرعية والى ضرورة انضمام الطوائف الاعضاء، كنائس ومؤمنين، في أعمال المقاومة غير العنيفة لتدمير الممتلكات الفلسطينية وطرد الفلسطينيين بالقوة من بيوتهم واراضيهم. وقرار المجلس عام 2005 بأن الكنائس يجب ألا تكون متواطئة في النشاطات غير الشرعية في الاراضي المحتلة بما في ذلك تدمير بيوت واراضي الفلسطينيين واقامة المستوطنات والبنى التحتية المتعلقة بذلك والجدار الفاصل- وتكون لديها فرص اتخاذ اجراءات اقتصادية عادلة وشفافة وسلمية في مواجهة هذه النشاطات غير المشروعة وتأييدا لحلول سلمية للصراع. وقرار المجلس في دورة 2004 عن استهجانه لفرض حدود توسعية من جانب وتضييق متواصل على الجانب الآخرمما يوسع الحضور الاسرائيلي المدني والعسكري داخل الاراضي الفلسطينية، الامر الذي يقوض جميع جهود صنع السلام وكامل مفهوم دولة فلسطينية متواصلة وقابلة للحياة. ثم أشار البيان الى موقفه عام 1975 من أن الاماكن المقدسة المسيحية يجب أن تتوحد وتستجيب للمجتمعات المسيحية التي تتهدد حياتها وجذورها بشكل متزايد في القدس بسبب سياسات الاستيطان في المدينة. ثم أشار البيان الى النداء الذي وجهه المجلس للطوائف الاعضاء بخصوص مرافقة وتشجيع الانخراط الفاعل والسلمي في مفاوضات سلمية تؤدي الى سلام شامل وعادل يستطيع بموجبه أن تعيش أمتان في تجاور وأمن وداخل حدود معترف بها دوليا. وفي ختام البيان يعود المجلس للتأكيد على مواقفه السابقة بالتفصيل والدعوة الى احترامها.
هذا التذكير بالمواقف السابقة للمجلس والتاكيد على أنها ما زالت مواقفه، وهي مواقف مفصلة تشمل التزاما بعدم شرعية المستوطنات كلها وما طرأ عليها من توسعات، وكذلك ما أحدثته اسرائيل من تغييرات في القدس، ومناشدة الكنائس بدعم المقاومة السلمية للاستيطان ومطالبة الكنائس بمقاطعة البضائع التي يكون منشؤها المستوطنات وسحب جميع استثماراتها منها، وهذا التأكيد على أن ما تجريه اسرائيل في الاراضي الفلسطينية المحتلة من توسيع احادي الجانب لحدودها والتضييق على الفلسطينيين من جانب آخر، كل هذا يصعب أن نجده بهذه الدقة والتفصيل في أي بيان رسمي عربي، بل وفي أي بيان لمعظم الفصائل الفلسطينية. إنه يشرح اساس الصراع لاتباع هذه الكنائس ويدعوهم للانضمام لمقاومة ما يجري من غير عنف.

دور الحركات الاسلامية

والسؤال الذي لا بد من إثارته هو لماذا لا يكون هناك استجابة فعالة من جانب المؤسسات والحركات الاسلامية لهذه المواقف؟ لماذا لا يقوم تعاون مشترك منظم ومدروس بين هذه المؤسسات والحركات والمجلس لدعم هذه المواقف وتحريكها في المجتمع الدولي والأوساط الشعبية، اسلامية ومسيحية، في جميع ارجاء العالم حيث توجد هذه الطوائف على الأقل، أي في حوالي 110 بلدا؟ إن عكس ذلك هو ما يحدث في أحيان كثيرة. اننا في حاجة ماسة للتعلم مما يفعله العدو. وكمثال على ذلك نشير الى التعاون الكامل القائم بين العدو والمسيحيين الجدد في الولايات المتحدة. من المعروف أن هؤلاء يدعمون اسرائيل لأنهم يرون في ذلك طريقا لتحقيق إحدى النبوءات التي تقول بأن السيد المسيح سيعود وأن هذه العودة مرتبطة بقيام اسرائيل، وأنه عندما يعود سيصبح اليهود جميعا مسيحيين. أي أن هؤلاء يعملون من أجل انهاء الوجود اليهودي عند عودة المسيح. وفي حفل اقامته هذه الجماعة في امريكا لجمع التبرعات كان السفير الاسرائيلي من بين الموجودين. وعندما سأله أحد الحاضرين كيف يحضر احتفالا كهذا من منظمة هذه أهدافها، كان جوابه: ‘لا ضير في ذلك. عندما يعود المسيح سنرى.’ هذا هم. أما نحن؟

تغييب المجلس الوطني الفاسطيني

تغييب المجلس الوطني الفاسطيني

انعقاد المجلس بيد الأعضاء وليس فقط بيد الرئيس أو اللجنة التنفيذية

مقدمة

1- انتشرت في الوطن العربي ظاهرة استفتاء الشعوب من قبل الحكام، خاصة فيما يتعلق بالتعديلات الدستورية، وكان معظم هذه الاستفتاءات محل نقد لعدم استيفائها للشروط الموضوعية التي تحكم ممارسة حق الاستفتاء. ويجري الحديث هذه الأيام عن استفتاء الشعب الفلسطيني بشأن ما قد يتم التوصل اليه من اتفاق مع اسرائيل. إن الاستفتاء في حد ذاته أمر مرغوب فيه وتمارسه حكومات، بل وشعوب كثيرة، وفقا للأنظمة المتبعة فيها، ذلك أن الانظمة التي تهتم بأن تتتمشى مع تطلعات ومواقف شعوبها لا تكتفي بالاستفتاءات الرسمية التي تجريها بين الحين والآخر، وانما تتيح للشعب أن يكون هو المبادر الى ممارسة هذا الشأن ليتولى هو ابلاغ الجهات المختصة بما يراه في أي شأن من الشئون العامة. فتقوم المجموعات المختلفة بتنظيم الاستفتاء بمساعدة هذه الجهات، كما أن ما يجري من استطلاعات للرأي هو نوع من الاستفتاء، وإن كان الذي يقوم به مؤسسات تخصصت في الموضوع. ولذا فان الفقهاء يقسمون الاستفتاءات الى نوعين: نوع ملزم يجب اجراؤه والالتزام بنتائجه، ونوع غير ملزم لا باجرائه ولا بنتائجه. والنوع الملزم هو ما نصت القوانين أو الدساتير على وجوب اجرائه والالتزام بنتائجه، وتنص الدساتير والقوانين على الامور التي تخضع لهذا النوع من الاستفتاء. أما النوع غير الملزم فهو ما يجري من استفتاء في غير هذه الاحوال. ولا نريد التوسع في هذه المقدمة ، وسنقصر الحديث عن الشروط التي يجب أن تتوفر في الاستفتاء ليكون صحيحا وسليما من الناحية القانونية، سواء كان ملزما أو غير ملزم، خاصة في اطار الأوضاع الفلسطينية.

شروط صحة الاستفتاء

2- ليكون الاستفتاء صحيحا يجب أن يستوفي الشروط التالية على الأقل، ما لم تنص الدساتير أو القوانين على شروط اضافية أو شروط أخرى:

(أولا) أن يكون صادرا من الجهة المختصة قانونا باصداره. وهذا شرط له أهميته الخاصة في الاستفاءات الملزمة، لأنه لو جرى من قبل جهة غير مختصة فإنه يفقد صفة الالزام لصدوره من غير ذي صفة. فاذا كان الدستور مثلا يعطي حق الاستفتاء على تعديل الدستور لرئيس الدولة، فان صدوره مثلا من جانب الحكومة فقط أو السلطة التشريعية دون موافقة رئيس الدولة، فان الاستفتاء في هذه الحالة يكون باطلا وعديم الأثر.

(ثانيا) أن يسبق طرح الموضوع على الاستفتاء مراعاة ما تنص عليه القوانين أو الدساتير من اجراءات. فاذا كانت هناك نصوص تشترط مثلا موافقة السلطة التشريعية على اجراء الاستفتاء أو على موضوعه، فيجب الحصول على هذه الموافقة قبل طرح الموضوع للاستفتاء.

(ثالثا) أن يكون موضوع الاستفتاء محددا ودقيقا محصورا في نقطة واحدة معينة بحيث لا يجتمل سوى واحد من رأيين اما “نعم” واما “لا”. مثلا اذا كان الموضوع متعلقا بالمشروبات الروحية، يكون الاستفتاء بالصيغة التالية: ” هل توافق على السماح ببيع المشروبات الروحية؟” هذا سؤال لا يمكن الاجابة عليه الا بلا أو نعم. ولكن السؤال “هل توافق على بيع المشروبات الروحية وتقديمها للسياح فقط؟” لا يحتمل جوابا واحدا فقط بلا أو نعم لأنه ينطوي على موضوعين مختلفين: الاول البيع على اطلاقه والثاني حصر تقديم المشروبات بالسياح. ولذا يجب أن يكون هناك سؤالان منفصلين، الاول خاص بالبيع والثاني خاص بالتقديم للسيح فقط، وكل سؤال لا يحتمل سوى اجابة واحدة بلا أو نعم. ومعنى هذا أنه لا يجوز دمج موضوعين أو أكثر في رزمة استفتاء واحد يُطلب فيه جواب بنعم أو لا عن الرزمة مجتمعة. وهذه المسألة بالذات هي التي تقع فيها المناورات من قبل بعض الانظمة العربية وما جرى من بعض الاستفتاءات. فمثلا عندما يكون الاستفتاء مطلوبا في رزمة واحدة تضم تعديلات دستورية وقانونا خاصا بالاحزاب واتفاقية سلام مع اسرائيل، كيف يمكن الرد عليها مجتمعة بجواب واحد هو لا أو نعم؟ المواطن قد يكون موافقا على الواحد دون الآخر، وفي هذه الحالة لا تستقيم الاجابة على الرزمة بلا أو بنعم. ولذا يجب طرح هذه الموضوعات مستقلة عن بعضها البعض لابداء الرأي في كل منها على حدة. وحتى في التعديلات الدستورية عندما يتعرض التعديل لعدد من المواد. المفروض أن كل مادة تعالج موضوعا مستقلا، ولذا يجب الاستفتاء عنها مادة مادة، لا جمعها في رزمة واحدة يمتنع الرد عليها مجتمعة بلا أو نعم. فمثلا “هل توافق على تعديل المادة كذا من الدستور بحيث يأتي الرئيس بالانتخاب العام المباشر، وتعديل المادة مذا بحيث يشترط أن يكون المرشح للرئاسة رئيسا لحزب ممثل في مجلس الشعب؟” هذا لا يجوز لأن المواطن قد يؤيد الانتخاب المباشر ولا يؤيد القيد المفروض على المرشح، وقد يعترض على الاول ويوافق على الثاني. ولذا يجب طرح كل مادة يراد تعديلها على حدة ليقول المواطن رأيه فيها مادة مادة. أما دس السم في الدسم فير جائز.

(رابعا) أن تكون الفترة الزمنية بين الاعلان عن القرار باجراء الاستفتاء وموعد الاستفتاء الفعلي فترة معقولة تسمح للمؤيدين والمعارضين بعرض مواقفهم على الشعب ليأتي القرار عن وعي وادراك لمفهوم وأهمية ما هو مطروح للاستفتاء، فلا تسلق الامور سلقا سريعا، خاصة في قضايا جوهرية قد يصعب التخلص منها مستقبلا. وفي هذه الفترة الزمنية لا يجوز تقييد حرية الرأي أو ممارسة الضغوط أو الاعتقالات على المعارضين أو المخالفين، والا فقد الاستفتاء معناه.

وسنبحث الآن الوضع الفلسطيني ومدى توفر هذه الشروط فيه.

الاستفتاء الفلسطيني

الجهة المختصة بتقرير اجراء الاستفتاء

3 – موضوع الاستفتاء بشكل عام يتعلق باتفاقية تمس الشعب الفلسطيني كله وتؤثر في حاضره ومستقبله، وهو الى حد ما شكل من أشكال تقرير المصير. ولذا يجب الا يصدر الا عن الجهة التي تمثل الشعب الفلسطيني كله، وهذه الجهة هي منظمة التخرير الفلسطينية ممثلة بالمجلس الوطني الفلسطيني. اللجنة التنفيذية لجنة تنفيذية، أي أنها تنفذ السياسات التي يضعها المجلس الوطني، وليس لها الحق في تقرير هذه السياسات. فالمادة 15 من النظام الاساسي لمنظمة التحرير تنص على ما يأتي: ” اللجنة التنفيذية هي أعلى سلطة تنفيذية للمنظمة وتكون دائمة الانعقاد وأعضاؤها متفرغون للعمل، وتتولى تنفيذ السياسة والبرامج والمخططات التي يقررها المجلس الوطني وتكون مسؤولة أمامه مسؤولية تضامنية وفردية”. كما تنص الفقرة (د) من المادة 16 على أن تباشر ،على وجه العموم ” جميع مسؤوليات منظمة التحرير وفق الخطط العامة والقرارات التي يصدرها المجلس الوطني”. ومؤدى هذه النصوص أن اللجنة التنفيذية ليس لها الحق في أن تبدأ أوتباشر سياسات من جانبها الا في داخل الحدود التي رسمها المجلس الوطني، وأن المجلس هو صاحب القرار النهائي في هذه السياسات. صحيح أن المادة 16 (أ) من النظام الاساسي تنص على أن اللجنة التنفيذية تتولى “تمثيل الشعب الفلسطيني”. غير أن هذا التمثيل يمارس في حدود ما خولته الأداة المانحة له، وهو النظام الاساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، وورد النص عليه في المادتين 15 و16(د)، وليس للجنة التنفيذية صفة تمثيلية خارج هاتين المادتين، لاسيما في رسم السياسات واتخاذ القرارات أو ابرام الاتفاقيات. لها أن تتفاوض في حدود ما قرره المجلس الوطني، والمجلس الوطني، الذي هي مسئولة أمامه، هو صاحب القرار في مدى التزام اللجنة التنفيذية بما حدده المجلس وقرره من سياسات. وفي ضوء هذا فانه لا يحق للجنة التنفيذية أن تتخطى المجلس الوطني وتطرح للاستفتاء على اتفاقيات أبرمتها قبل أن يقول المجلس الوطني رأيه فيها، وعندئذ هو الذي يقرر الذهاب للاستفتاء من عدمه. ويصبح الموضوع ذا أهمية خاصة نظرا لأن المجلس الوطني لم ينعقد بجدية خلال العشرين سنة الماضية، وغيب تماما عما يجري، فضلا عن أن بعض أعضاء اللجنة التنقيذية لهم مواقف مسجلة عليهم تتعارض مع قرارات المجلس وما اصطلح على تسميته بالثوابت الفلسطينية.

3- قد يقال إن رئيس السلطة له الحق في ذلك بمفرده أو مع السلطة. وهذا قول لا سند له في النظام الاساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، ولا في القانون الاساسي للسلطة الفلسطينية في المرحلة الانتقالية. ومع احترامنا لرئيس السلطة، فانه من الخطأ تسميته بالرئيس الفلسطيني، حيث أن هذه التسمية قد تضلل البعض عن حقيقة الوضع القانوني، وبالتالي عما يملكه من صلاحيات. الأخ محمود عباس هو رئيس السلطة من جهة ورئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير،من جهة أخرى (وكان الأفضل الفلصل بين المنصبين) ولم ينتخب رئيسا لفلسطين. وانتخابه كرئيس للسلطة لم يشارك فيه سوى المواطنين الفلسطينيين في الضفة والقطاع، واختصاصاته، بهذه الصفة، هي ما أجازته اتفاقية أوسلو والقانون الاساسي للسلطة. أما اختصاصه كرئيس للجنة التنفيذية فقد حدده أيضا النظام الاساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، على الوجه الذي بيناه فيما تقدم. وداخل اللجنة التنفيذية فانه لا يتمتع باختصاص ينفرد به، خاصة في تقرير السياسات، وتستطيع اللجنة التنفيذية التي انتخبته رئيسا لها أن تعدل عن قرارها وتختار غيره من اعضائها لرئاستها. ولا يغيب عن البال أن المجلس الوطني ينتخب جميع أعضاء اللجنة التنفيذية، وأن اللجنة، لا المجلس الوطني، هي التي تنتخب رئيسا لها (المادة 13 من القانون الاساسي لمنظمة التحرير). وكانت هذه المادة تنص على أن يتولى المجلس الوطني نفسه انتخاب الرئيس، ثم عُدِّلَت بعد دخول المنظمات في المجلس الوطني للتأكيد على العمل الجماعي للجنة وعدم التمييز بين أعضائها، وتقرر أن تقوم اللجنة نفسها بانتخاب رئيسها، بدلا من أن ينتخبه المجلس الوطني، لأنه في هذه الحالة لا تستطيع اللجنة تنحيته، مما قد يؤدي الى احساسه بأنه في وضع متميز، ويستطيع التفرد في قرارات ومواقف، دون أن تستطيع اللجنة محاسبته عليها وتعاقبه بتنحيته عند الاقتضاء.

4- وليس في النظام الاساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية ولا في القانون الاساسي للسلطة الفلسطينية أي نص عن الاستفتاء. غير أن هذه الوثائق التأسيسية جاءت محددة بوضوح لصلاحيات كل من اللجنة التنفيذية للمنظمة ورئيس السلطة، ولا يجوز لهما تجاوز هذه الاختصاصات، بادعاء اختصاص لم تمنحه لهما هذه الوثائق التأسيسية التي هي مرجعيتهما. ويبقى الاختصاص في المجلس الوطني وحده بصفته المرجعية العليا فيما يتعلق بالقضية وصاحب الاختصاص الضمني في كل ما يتعلق بها وإن لم يرد نص صريح بذلك. ومما تجدر الاشارة اليه أن في المجلس الوطني لجان متخصصة تستطيع أن تنكب على دراسة الجوانب المختلفة للاتفاق بحيث ينكشف ما فيه من مزايا وعيوب تكون موضع حوار داخل المجلس، ومن بين هذه اللجان اللجنة السياسية واللجنة القانونية. وبناء عليه تستطيع اللجنة التنفيذية أن تتفاوض في حدود ما رسمه المجلس الوطني من سياسات، ولكن نتيجة هذه المفاوضات تخضع لموافقة المجلس قبل اجراء أي استفتاء، والمجلس نفسه هو الذي يقرر ذلك.

مشكلة انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني

5- المشكلة التي يواجهها الشعب الفلسطيني هو هذا التغييب الكامل للمجلس الوطني. لقد تفاوضت المنظمات بشأن هذا المجلس، واتفقت، ولكن اتفاقها لم ينفذ حتى الآن، ولا يصح أن يترك مصير المجلس الوطني بيد المنظمات. فالفصائل والمنظمات ليست هي كل الشعب الفلسطيني، في حين أن المجلس الوطني هو للشعب الفلسطيني كله، وليس للمنظمات. المنظمات لها أعضاؤها الذين يمثلونها داخل المجلس، ولكن وجود المجلس وانعقاده وقيامه بواجباته ليس مرهونا باتفاق الفصائل. وقد أفتت اللجنة القانونية في المجلس أيام أن تشرفت برئاستها بأن أية اتفاقيات تتم بين الفصائل لا تكون ملزمة للمجلس. من حقها أن تعرض على المجلس هذه الاتقاقيات، وللمجلس أن يرى رأيه فيها، حيث أن المجلس يضم مستقلين أيضا، وكنوا هم في معظم الاوقات الاغلبية. إن المسئولية عن تعطيل المجلس وتغييبه تقع على رئيس المجلس وعلى اللجنة التنفيذية وعلى الاعضاء أنفسهم الذين لم يطالبوا بشكل منظم بانعقاد المجلس. فالمادة 18 من اللائحة الداخلية للمجلس الوطني تنص على ما يلي: ” ينعقد المجلس دوريا بدعوة من رئيسه مرة كل سنة أو في دورات غير عادية بدعوة من رئيسه بناء على طلب من اللجنة التنفيذية أو من ربع أعضاء المجلس. فاذا لم يدع رئيس المجلس الى مثل هذا الاجتماع يعتبر الاجتماع منعقدا جكما بالمكان والزمان المحددين في طلب أعضائه أو طلب اللجنة التنفيذية”. الرئيس موجود، وكذلك اللجنة التنفيذية، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يكون قد مد في عمر ربع أعضاء المجلس بعد هذه المدة الطويلة على عدم انعقاده. والمجلس القائم لم يجر حله. أما الفصائل فلا دور لها في دعوة المجلس للانعقاد الا من خلال عضويتها في اللجنة التنفيذية أو الا اذا كان لها من عدد الاعضاء ما هو ربع أعضاء المجلس، أو تحالفت مع عدد كافٍ من أعضاء المجلس للوصول الى هذه النسبة. وقد تعمدت لجنة الميثاق والانظمة في المؤتمر التأسيسي لمنظمة التحرير الفلسطينية على ادراج هذا النص في النظام الاساسي للمنظمة لتقطع الطريق على امكانية تحكم رئيس المجلس الوطني أو اللجنة التنفيذية في دعوة المجلس الوطني للانعقاد، فأتاحت الفرصة للأعضاء أنفسهم لتوجيه هذه الدعوة، اذا توفرت النسبة المطلوبة واستطاعت توفير مكان للانعقاد. فاذا توفرت هذه النسبة عقد الاجتماع في المكان والزمان المحددين في الدعوة، سواء رضي رئيس المجلس أو اللجنة التنفيذية أم لم يرضيا. واذن فامكانية الدعوة للانعقاد موجودة، بعد اتخاذ الترتيبات اللازمة لذلك، وعلى الاعضاء والفصائل أن تنشط في هذا الاتجاه. المشكلة العملية هي في ايجاد الدولة التي تقبل أن تستضيف المجلس الذي بلغ عدد أعضائه في آخر اجتماع له حوالي أربعمائة. إن العدد الحالي لا شك أنه أقل من هذا بكثير، فقد توفي من توفي وأصبح عاجزا من أصبح بعد مضي حوالي عشرين سنة على آخر اجتماع جدي منتظم للمجلس. وعلى أية حال فقد كان المجلس ينعقد باعضائه وضيوفه، وبالامكان الاستغناء عن الضيوف والمراقبين، كما أن كثيرا من أعضاء المجلس كانوا يتحملون نفقات سفرهم واقامتهم، وعلى الفصائل أن تتحمل ذلك بالنسبة لممثليها.

ضم أعضاء جدد للمجلس الوطني وقضية الانتخابات

6- قد يقال إن المجلس الحالي لا يضم فصائل ظهرت على الساحة الفلسطينية ولا يجوز تجاوزها. هذا ضحيح، حيث أن المجلس يجب أن يضم ممثلين عن جميع القوى الفاعلة في المجتمع الفلسطيني. ولكن من الصحيح أيضا أنه لا يجوز فرض شروط مسبقة على من يجوز له أن يكون عضوا، وعلى وجه الخصوص لا يجوز أن يشترط عليه قبول جميع ما سبق للمجلس أن اتخذه من قرارات أو رسمه من سياسات. المجلس الوطني هو برلمان الشعب الفلسطيني، والبرلمانات تضم أعضاء من جميع الاتجاهات. وفي المجلس الحالي ذاته تم الاعتراف بوجود معارضة. وقد جرى ذلك في دورة الجزائر عام 1988، وهي آخر دورة فاعلة للمجلس. في تلك الدورة أقر المجلس وثيقتان، الاولى وثيقة اعلان الاستقلال، وجرى اعتمادها بالاجماع. أما الثانية فكانت البيان السياسي الذي حدد سياسة المنظمة للمرحلة القادمة. وهذه الوثيقة تمت الموافقة عليها بالاغلبية فقط، حيث كان هناك معارضة. وكان يقود المعارضة في ذلك الوقت المرحوم فقيد فلسطين الدكتور جورج حبش. وأقر المجلس مبدأ المعارضة كمعارضة معترف بها. هذه هي طبيعة العمل البرلماني السليم. أما محاولات فرض منظور معين على الجميع فذلك يتعارض تماما مع الديموقراطية البرلمانية التي تبناها الشعب الفلسطيني. وفي مسيرة المجلس الوطني لم يكن هناك اجماع الا على وثيقة اعلان الاستقلال. وأعضاء المجلس يذكرون أنه في دورة الجزائر بالذات نجح قرار عارضه الرئيس الراحل معارضة صريحة بالتكلم ضده أثناء مناقشته ثم اثناء التصويت عليه، وهو مشروع القرار الذي تقدمت به بصفتي رئيس اللجنة القانونية يطالب بوضع قانون اساسي للدولة العتيدة التي أعلن عن استقلالها في تلك الدورة. المجلس الوطني كان دائما سيد نفسه، كانت فيه معارضة وكان فيه حوار مسئول. ولذا لا يصح فرض شروط على عضوية المجلس تتعلق بالرأي أو الموقف السياسي، وها هي اسرائيل مثال بارز على ذلك حيث يضم الكنيسيت أعضاء من أقصى اليمين المتطرف غاية الطرف الى ما دون ذلك، ومجلس الوزراء كذلك، أم إن الحلال لهم حرام علينا؟.

7- ولكن كيف يمكن ضم أعضاء جدد للمجلس في ضوء التغيرات التي وقعت داخل المجتمع الفلسطيني بعد تشكيل المجلس الحالي؟ تعرضت لذلك المادة 32 من النظام الاساسي لمنظمة التحرير فنصت على ما يلي: “يحق للمجلس الوطني، وتعود له وحده صلاحية ضم أعضاء جدد اليه من حين لآخرن حسنما يرى ذلك ملائما، وبحسب ما تمليه متطلبات معركة التحرير، ومقتضيات تعميق الوحدة الوطنية، في ضوء أحكام الميثاق الوطني، وذلك وفق نظام تقدمه اللجنة التنفيذية في الدورة المقبلة”. ولا أذكر أن اللجنة التنفيذية تقدمت بهذا النظام، ومع ذلك يبقلى الأصل، وهو حق المجلس الوطني في ضم أعضاء جدد مراعاة للاعتبارات الواردة في المادة المذكورة. وبناء عليه يمكن للمجلس أن ينعقد بأعضائه الباقين الحاليين، وفي مقدوره في الجلسة الاولى أن يضم أعضاء جددا. وقد ضم المجلس أعضاء جدد، وهذا هو السبب في تضخم عدد الأعضاء. وهذا النص لا يترك ضم الاعضاء الجدد للمساومات بين الفصائل، وانما الذي يبت فيه نهائياً هو المجلس نفسه بقرار منه، بعد أن يستمع الى مبررات الضم. إن تطبيق هذه المادة يعين على عقد اجتماع للمجلس الوطني ليقوم بدوره من مراجعة السياسات السابقة التي اتخذها في ضوء تغير الظروف، ويكون مناسبة لانتخاب لجنة تنفيذية جديدة، ومساءلة اللجنة التنفيذية الحالية ومحاسبتها بطريقة دستورية سليمة، ويتيح في الوقت ذاته ضم أعضاء جدد لمشاركة القوى التي جدت على الساحة الفلسطينية، في انتظار انتخاب مجلس جديد. أنه لا يجوز أن يظل المجلس معطلا في انتظار اتفاق الفصائل أو في انتظار انتخابات جديدة، قد تقع أو لاتقع. ونود أن نُذَكِّرَ الإخوة بأن موضوع الانتخابات ليس جديدا، فقد تعرضت له المادة 5 من النظام الاساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية ونصت على أن يكون انتخاب الاعضاء “عن طريق الاقتراع المباشر من قبل الشعب الفلسطيني بموجب نظام تضعه اللجنة التنفيذية لهذه الغاية”. غير أن هذا النص قد تعذر تنفيذه تنفيذا كاملا، ذلك أنه، بعد اعلان قيام منظمة التحرير في القدس عام 1964 واقرار الميثاق الوطني والنظام الاساسي لمنظمة التحرير، تَقَدَّم المرحوم الاستاذ أحمد الشقيري (أبو مازن) بتقريره للقمة العربية وطلب أن يسمح له باجراء انتخابات للمجلس الوطني، فأحاله الرؤساء للتفاوض مع كل دولة عربية على حدة. وطاف أبو مازن بين هذه الدول، فلم توافق دولة واحدة على اجراء هذه الانتخابات من قبل الفلسطينيين المقيمين في أراضيها. ومن هنا جاء الاختيار بدلا من الانتخاب. فهل تغيرت الأوضاع؟ وهل سيسمح للفلسطينيين في الافطار العربية أن يجروا انتخابات حرة نزيهة، تحت مراقبة دولية كتلك التي أجروها عام 2006؟ وهل من مصلحة القضية أن يظل المجلس الوطني معطلا الى أن تتاح فرص الانتخاب؟ المجلس الحالي لا يزال قائما بالرغم من مضي المدة، ذلك لأن المادة 6(أ) من النظام الاساسي لمنظمة التحرير تنص على أنه “اذا تعذر اجراء الانتخابات الخاصة بالمجلس الوطني استمر المجلس الوطني قائما الى أن تتهيا ظروف الانتخابات.” كما أن الفقرة (ب) من نفس المادة تنص على أنه ” اذا شغر مقعد أو أكثر في المجلس الوطني لأي سبب من الاسباب، يعين المجلس العضو أو الأعضاء لملء المقاعد الشاغرة”.

8- نخلص من هذا الى أن المجلس الوطني هو صاحب القرار في اجراء الاستفتاء، وأنه بالامكان تفعيل هذا المجلس بحيث يضم كل القوى الفاعلة في الساحة الفلسطينية، وأن المماطلة في عقده لا مبرر لها، وانما تضر بالمصلحة الوطنية الفلسطينية.

مراعاة مسبقة لما تنص عليه الدساتير والقوانين

9- سبق أن ذكرنا أنه لم يرد بشأن الاستفتاء نصوص لا في النظام الاساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية ولا في القانون الاساسي للسلطة الوطنية. وفي هذه الحالة يراعى ما جرى عليه عرف الدول التي يشابه نظامها الدستوري النظام الفلسطيني، أي الدول ذات النظام البرلماني الديموقراطي وتعترف بالتعددية كأساس لهذا النظام.

موضوع الاستفتاء

10 – إن الإساءة الكبرى التي يتعرض لها الاستفتاء تكمن في نوعية طرح الاسئلة التي يراد الرد عليها إما بنعم وإما بلا. وقد سبق أن بَيَّنا أن موضوع الاستفتاء يجب أن يكون محددا في مسألة واحدة لا تحتمل سوى الرد بلا أو نعم، وقدمنا أمثلة على ذلك. وفي موضوع بخطورة استفتاء الشعب الفلسطيني على مصيره لا يجوز اطلاقاً التلاعب أو المناورة أو التعمية بالاستفتاء على رزمة واحدة هي الاتفاقية برمتها بحيث يطلب الموافقة عليها أو رفضها بالجملة. ومن المؤسف أصلا أن يصل الأمر الى الاستفتاء. الموضوع في الوقت الحاضر منحصر في انهاء الاحتلال الاسرائيلي للأراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1967 ، وما ترتب عليه من آثار. وهذا سؤال لا يحتاج الى استفتاء، واذا أُريد طرحه، فالسؤال في غاية البساطة: “هل توافق على انهاء الاجتلال الاسرائيلي للاراضي الفلسطينية التي احتلت في حرب عام 1967 وما ترتب عليه ما آثار؟” وهو سؤال يمكن الاجابة عليه بلا أو نعم. ولكن يبدو من مجريات الأمور أن المفاوضات تسير في اتجاهات أخرى تحت تأثير المناورات الاسرائيلية الامريكية. فهناك حديث عن اتفاق مبادئ جديد أو اتفاق حول إطار عام للحل. وهذه كلها عبارات مبهمة خالية من التفاصيل، والمشكة دائما في التفاصيل، في كل نص على حدة وفي كل مسألة على انفراد. ولذا فاننا لا نرى جدوى من استفتاء من هذا القبيل.

11 – لقد جربنا اتفاق مبادئ أوسلو، ولن يختلف عنه، من حيث المبدأ، اتفاق أصبح يسمى باتفاق اطار للحل. وكما مضى على اتفاق اوسلو خمس عشرة سنة حتى الآن للوصول الى اتفاق اطار ضاعفت اسرائيل خلالها المستوطنات اضعافا وهودت القدس أو كادت، فاننا لا ندري ما الذي سيكون عليه الحال بعد خمس عشرة سنة اخرى تنقضي في مفاوضات عبثية أخرى لتفسير معنى “الاطار” وتعيين حدود اضلاعه الأربعة أو الاربعين. لقد سمى المحلل الاسرائيلي هذه الاتفاقية ب”اتفاق الرف” ووصف الجهود الميذولة للوصول اليها بأنها جهود دبلوماسية شكلية فقط، وأنها لعبة مسرحية تثير الانطباع بأن هناك حوارا يجري، وأن هدفها من جانب أولمرت هو ابعاد الميل الآخذ في التعزز في الاسرة الدولية باقامة دولة ثنائية القومية فوق “ارض اسرائيل كلها”. هل سيجري استفتاء على “اطار” خالٍ من مضمون محدد المعالم بدقة بحيث يمكن معرفة ما فيه؟ قد تجري محاولات، وقد يصور الاطار على أنه حقيقة ثابتة، ولكننا نعلم ان الاتفاقيات مع اسرائيل هي كالرمال المتحركة تجرف الحقوق الفلسطينية بسبب ما تنطوي عليه هذه الاتفاقيات المبدئية من غموض واختمالات متناقضة.

12 – لا نريد أن نخوض في التكهنات والاحتمالات فيما ستنتهي اليه هذه المفاوضات اذا استمرت، وأغلب الظن أنها ستستمر ولو لإرضاء الرئيس الامريكي. ولكن لنتصور في حدود ما يتوقعه الفلسطينيون من نصوص تتعرض للثوابت الفلسطينية. قد ينص الاطار على “انسحاب اسرائيلي لحدود هدنة عام 1949 مع تعديلات طفيفة”. هذا اطار مطروح من جانب أحد وزراء الخارجية العرب. وقد يكون اطار بالنسبة الى القدس ينص على أن “تكون المدينة موحدة وعاصمة للدولتين وتمارس كل دولة السيادة على الاجزاء منها التي يقطنها مواطنوها”. أو أن “فلسطين من النهر الى البحر هي الوطن التاريخي والقومي للشعبين الفلسطيني واليهودي”. هذه الامثلة ليست فرضيات، وانما جرى طرحها من جانب اسرائيل وقيل إن الرئيس أبو مازن قد وافق عليها عام 2005 وأن الاتفاق كان جاهزا، ولكنه وضع على الرف لأن انتخابات المجلس التشريعي عام 2006 جاءت على خلاف التوقعات. غير أنها، من الجانب الاسرائيلي على الأقل، تصلح أن تكون جزءأً ما اتفاق الاطار للحل. فهل تصلح هذه، حتى ولو أستفي عنها واحدة واحدة، أن تكون موضوع استفتاء؟ المغريات للمفاوض الفلسطيني واضحة، والصياغة الاسرائيلية تعمدت هذا، وقد يقع المقاوض الفلسطيني في حبال الاغراء هذه، ويوافق على طرحها للاستفتاء، وقد وقع فعلا في هذه الحبال، ونشرنا في القدس العربي مقالين بشأنها، أوضحنا فيهما المخاطر والمزالق، وطالبنا بنفي الاتفاق الذي زعمته الصحافة الاسرائيلية. ولم يصدر هذا النفي.

13 – من الناحية الشكلية فقط لا يجوز الاستفتاء على اتفاق كهذا بحيث يكون المطلوب هو الجواب بلا أو بنعم على الاتفاق في مجمله لأن كل بند من هذه البنود غامض وغير محدد. ففي موضوع الحدود، ما معنى “التعديلات الطفيفة” التي يراد ادخالها على حدود الهدنة؟ ثم في ضوء المتغيرات الديموغرافية التي تجريها اسرائيل يوميا في القدس وما ستجريه فيما بعد هذا الاتفاق، حتى ولو نص على التزامها بالامتناع عن اجرائه، ما الذي تبقى من القدس فلسطينيا في أرض الواقع؟ وهل بقي منها ما تمارس الدولة الفلسطينية السيادة عليه، باستثناء سيادة رمزية في أحسن الأحوال؟ وكذلك الأمر بالنسبة لكون فلسطين وطنا تاريخيا وقوميا للشعبين الفلسطيني واليهودي. القصد من وراء هذه الصياغة واضح. لا أحد يطعن في أن فلسطين وطن تاريخي وقومي للشعب الفلسطيني، ولكن موضع التساؤل هو الفرصية الثانية. عندما يكون اطار الاتفاق بهذا الشكل ويطرح للاستفتاء فان المُستَفتَى من ابناء الشعب الفلسطيني يقع في حيرة من أمره بسبب الغموض من جهة وظاهر الاغراء من جهة ثانية والتسليم بما لايمكن التسليم به من جهة ثالثة. ولذا لا يمكن الجواب عليه بلا أو نعم.

14 – ولذا يجب أن يتحول كل موضوع منها الى عدد من الاسئلة تطرح موضوعا محددا. فمثلا في موضوع الحدود تكون الاسئلة كالاتي: (1) هل توافق على الانسحاب الاسرائيلي الى حدود هدنة 1949؟” (2) هل توافق على ادخال تعديلات طفيفة غير محددة الآن على تلك الحدود؟” (3) ” اذا أجبت بنعم على السؤال الثاني، هل يجب أن تكون التعديلات محددة ومعروفة لكي توافق عليها؟” كل سؤال من هذه الاسئلة يحتمل الجواب بلا أو نعم دون أن يكون في الموقف غموض. ويمكن صياغة الاسئلة بالنسبة للموضوعات الأخرى استنادا الى هذه القاعدة. وهذا ينصرف الى كل نص من نصوص الاتفاق. فما ينال الموافقة يكون مقبولا وغيره يكون مرفوضا. وهناك جهات متخصصة في اجراء الاستفتاءات يمكن الاستعانة بها.

15 – إن الامثلة السابقة تبين الأهمية القصوى لوجوب دراسة جميع الاقتراحات والطروحات الاسرائيلية والفلسطينية على حد سواء دراسة تحليلية واعية متأنية، واعادة دراستها وتحليلها، من جهات غير تلك التي تفاوضت بشأنها والتي لا تكون متأثرة بأجواء قد لا تكون ملائمة، كمثل وجود العائلات والاطفال من الجانبين معا والمعايشة، كما حصل عند التفاوض على اعلان مبادئ أوسلو. المفاوضات الجادة ليست مناسبة للتفسح أو لإنشاء علاقات اجتماعية وأسرية. والجهة التي تستطيع أن تدرس وتزن يجب أن تكون غير الجهة التي تفاوضت، وفي الحالة الفلسطينية هي المجلس الوطني الفلسطيني ومستشارون مستقلون أكفاء كأولئك المحامين الذين مثلوا فلسطين أمام محكمة العدل الدولية في قضية الجدار.

من الذي يُسْتَفتَى؟

16 – سُئِل أحد مستشاري رئيس اللجنة التنفيذية، وما أكثر من يتبرعون بالردود والحديث للفضائيات، عن الفلسطينيين الذين سيجري استفتاؤهم، فأجاب فلسطينيو الضفة والقطاع، ومن هم في الشتات قدر الامكان. وغاب عن السيد المستشار أن غالبية أبناء الشعب الفلسطيني هم في الشتات، ولا يكفي ابدا في قضية مصيرية أن تكون دورهم “بقدر الامكان” بما تتضمه هذه الكلمات من استخفاف متعمد أو غير متعمد. وفلسطينيو الشتات لا يهمهم فقط موضوع حق العودة، وانما يهمهم أيضا كل ما يهم الأهل في الداخل. والتات الفلسطيني يشمل اللاجئين المقيمين في المخيمات وغيرهم من ابناء فلسطين من يعيشون خارج أرض الوطن، وهم ممثلون في المجلس الوطني الفلسطيني، وهم القادرون على ترتيب الاستفتاء وتنظيم الاشراف عليه، ومعظمهم ينتمي للجالية الفلسطينية في البلد الذي يقيم فيه. ومن المؤسف أن اللجنة التنفيذية حاربت كل تجمع فلسطيني في الشتات واعتبرته اعتداء على سلطاتها وأن هدفه الاطاحة بمنظمة التحرير. ونسيت اللجنة أن سلطتها مستمدة من هذا الشعب، في الوطن والشتات، وأنه هو صاحب القضية ومن حقه أن يتلاقى وأن ينظم نفسه لحماية حقوقه في وطنه والدفاع عنها، خاصة عندما يرى ما يراه من اللجنة وأعضائها. الاستفتاء يجب أن يشملهم جميعا، والمجلس الوطني وحده هو الذي يضع القواعد ويحدد اسلوب ووسيلة الاستفتاء بصفته جامعا لممثلي الشعب في الارض وفي الشتات.

مصير الاستفتاء

17 – والسؤال الأخير هو متى يعتبر الاستفتاء ملزما؟ تختلف الأعراف في هذا الشأن. فهناك من يشترط نسبة معينة يجب توفرها في المشاركين فيه من بين مجموع من لهم الحق في المشاركة ثم أن ينال الاستفتاء أغلبية معينة من بين هؤلاء، كالاغلبية البسيطة أو أغلبية الثلثين. ويشترط هذا كله عادة عندما يكون موضوع الاستفتاء ذا اهمية خاصة. وثمة اعراف تكتفي بالاغلبية البسيطة للمشاركين بغض النظر عن نسبة المشاركين من بين من لهم الحق في المشاركة. وحيث أنه لم يرد نص خاص بالاستفتاء في النظام الاساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، فلعله من المفيد الاستهداء بالأغلبيات المطلوبة لصحة قرارات المجلس الوطني، حيث أن المجلس مخول باتخاذ اخطر القرارات بالنسبة للقضية. وقد نصت المادة 12 من النظام على:” يتكون النصاب القانوني للمجلس بحضور ثلثي أعضائه، وتتخذ القرارات بأغلبية أصوات الحاضرين.” والنسبة الثانية الواردة في النظام تتعلق بتعديله وهي المادة 55 والتي تشترط أن يفوز التعديل بأغلبية ثلثي أعضاء المجلس، وليس ثلثي الخاضرين. ونظرا لخطورة موضوع الاستفتاء وما ينطوي عليه من آثار فاننا نرجح أن ينال الاستفتاء في كل بند من بنوده التفصيلية موافقة ثلثي المشاركين فيه من المقيمين ومن هم في الشتات، أي ثلثي كل فئة على حدة بسبب اختلاف الظروف التي تحيط بكل فئة. وفي جميع الاحوال فان هذا الموضوع متروك ليرى المجليس الوطني رأيه فيه كعنصر من عناصر ترتيبات الاستفتاء.

حق العودة

حق العودة

مقدمة

1 – إن حق الانسان في العودة الى بلده اذا غادره لأي سبب من الأسباب هو من الحقوق الطبيعية البديهية التي لم تكن في حاجة الى تقنين أو نصوص دستورية أو اتفاقيات دولية. هو حق مستمد من انتماء الانسان الى ذلك البلد دون غيره من أقطار الكرة الأرضية، هذا الانتماء الذي يعبر عنه بالاقامة المستقرة المعتادة فيه نتيجة للانتماء له، ومشاركته في ارثه التاريخي وفي وتراثه عبر أجيال متعاقبة، وهو حق تتوارثه الاجيال جيلا بعد جيل بطريقة تلقائية لا تتطلب اجراءات أو معاملات. الانتماء هذا هو العلاقة العميقة في كيان الانسان ووجدانه التي تستقر ولا تنفصم بين الانسان ووطنه. وهذا الانتماء والارتباط بالوطن أعمق من أن تنتفصه أو تؤثر في وجوده واستمراره ظروف طارئة قد لا يكون للانسان يد في حدوثها أو في القدرة على منعها، كالاحتلال الاجنبي، كما لا يفصمها غياب اختياري كالانتقال لبلد أجنبي للعمل أو الدراسة. قالأصل يبقى: وهو هذا الأصل هو الحق في العودة بناء على ذلك الانتماء. وتفريعا على هذا فاننا نجد أن عددا من الدول لا تعترف باكتساب ابنائها لجنسيات أخرى. هي لا تعاقبه على ذلك وقد لا تحظره عليه، وانما تعتبر أن ارتباطه بها لا ينقطع وأنه في اللحظة الاولى التي يعود فيها يعتبر مواطنا كامل المواطنة. كما أن دولا أخرى تجيز العودة للوطن لكل من يثبت أن أصوله كانت فيه ويرغب هو في العودة الى أصوله. أي أن الانتماء لا ينقطع بمضي المدة. وهكذا نرى عودة المهاجرين الى وطن الآباء والأجداد، مهما تقادم العهد، اذا حنوا للعودة اليه، وزالت العقبات التي كانت تحول دون تحقيق هذه الرغبة، كالاحتلال الاجنبي. إن حق الانسان في العودة الى وطنه، حق ثابت له فيه، دون غيره من الاوطان، ولذلك فإن هذا الحق لاتقيده قيود، ويمارسه الانسان بصورة تلقائية، في حين أنه في حاجة الى موافقات وتأشيرات اذا اراد الدخول أو العودة الى أي قطر آخر أو الاقامة فيه. ان الانسان يستطيع العودة الى وطنه حتى لوكان جواز سفره قد انتهت مدته، دون أن يكون هناك نص قانوني يتعلق بالموضوع.

2 – وقد نشأت الحاجة لبحث هذا الحق والتأكيد عليه كحق من الحقوق الثابتة للانسان نتيجة للحروب، وخاصة الحربين العالميتين الاولى والثانية، والنزاعات التي ترتب عليها مغادرة المواطنين لأوطانهم باعداد كبيرة، الأمر الذي استوجب تثبيت حقهم في العودة لاوطانهم. كما ظهرت حركات التحرر من الاستعمار الاجنبي الذي يتنافى مع أبسط مشاعر الانسان في الحرية قي وطنه والسيادة عليه. أي أن الظروف قد تكاتفت للتأكيد على خقوق الانسان من جهة أنه انسان، والتأكيد على حقوقه من جهة أنه كائن في مجتمع ينتمي اليه في جزء من هذا العالم قد استقر فيه وأقام وجوده وتراثه وتاريخه. فكانت القفزة الهائلة في ظهور منظمة الامم المتحدة تعبيرا عن موقف الشعوب من جميع هذه الحقوق. ولهذا فقد صدر ميثاق المنظمة الجديدة باسم الشعوب، لا الحكومات، وكان ذلك في 26 يونيو 1945 ودخل الميثاق حيز التنفيذ في 24 أكتوبر 1945. ونصت ديباجته ، فيما نصت عليه، على أن شعوب الامم المتحدة قد عقدت العزم على اعادة التأكيد على ايمانها بالحقوق الاساسية للانسان، وجعلت من بين أهدافها اشاعة حقوق الانسان والتشجيع على احترامها بالنسبة للجميع دون تمييز بسبب العرق أو الجنس أو اللغة أو الدين. وبدأت تتهاوى قلاع الاستعمار أمام حركات التحرير الوطني التي بدأت تسترد للشعوب حريتها واستقلالها وحقوقها، فتغير وجه الامم المتحدة تغيرا جذريا، وأصبحت السيطرة في جمعيتها العمومية لدول تحرص على الحفاظ على حقوق الانسان والشعوب في مواجهة نزعة التسلط التي لم تتخلص منها دول كبرى ما زالت تحلم باقامة الامبراطوريات والسيطرة على الشعوب الأحرى، مما يتناقض كل التناقض مع الدوافع التي حركت قيام الامم المتحدة وأهدافها المدونة في ميثاقها.

3 – وبالرغم من هذه النزعة التسلطية لدى البعض، فقد استطاعت الجمعية العمومية للامم المتحدة أن تخرج الى الوجود العديد من الاعلانات والمواثيق الدولية والقرارت التي تُثَبِّتُ للانسان وللشعوب حقوقهما، بحيث أصبحت هذه الاعلانات والمواثيق والقرارات مرجعية يحتكم اليها. ويهمنا فيما نحن بصدده أن نشير الى عدد من القرارات والاعلانات والمواثيق التي تعرضت لحق العودة وحماية حقوق اللاجئين بشكل عام قبل أن ننتقل لحق عودة اللاجئين الفلسطينيين، وذلك للتأكيد على عمومية هذا الحق، وأن تمسك الفلسطينيين بحق العودة هو الأصل، حتى في النظام القانوني الدولي المعاصر، فضلا عن كونه حقا طبيعيا لا مجال للمماحكة فيه.

4 – ومن بين هذه الفرارات والاعلانات والمواثيق الاعلان العالمي لحقوق الانسان الصادرفي 10 ديسمبر 1948 ، واتفاقيات جنيف الاربعة التي تمت الموافقة عليها قي 12 أغسطس 1949 ، واتفاقية اللاجئين لعام 1951 ، والقرار بانشاء المفوضية العامة للاجئين لعام 1951 ، والاتفاقية الخاصة بعديمي الجنسية لعام 1954، والاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري لعام 1965، والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 ، والاتفاقية الدولية لمعاقبة مرتكبي جريمة الابارثيد لعام 1973 ، ثم جاءت الاتفاقية الدولية بعدم تطبيق التقادم على جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية لعام 1968. هذه أمثلة فقط لم نتعمد فيها التقصي لما يدخل في هذا الباب، وهي وحدها تكفي للتدليل على ما ذهبنا اليه من أن حق العودة حق ثابت ومستقر ومعترف به ولا مجال لانكاره أو التهرب منه. وسنشير في هذا البحث الى بعض ما ورد في هذه في القرارات والمواثيق والاعلانات حسب الحاجة. ويهمنا في هذه المقدمة أن نؤكد على المادة الثانية من الاعلان العالمي لحقوق الانسان، وهي تنص على حكم عام ينسحب على جميع الحقوق التي أكد عليها ذلك الاعلان، ومن بينها حق الانسان في مغادرة بلده والعودة اليه. تنص تلك المادة على ما يلي:

“لكل انسان الحق في كافة الخقوق والحريات الواردة في هذا الاعلان دون تمييز من أي نوع كالعرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الديانة أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر أو القومية أو الاصل الاجتماعي أو الملكية أو الولادة أو أي وضع آخر.

وفضلا عن ذلك، لا يجوز التمييز على أساس الوضع السياسي أو الولائي أو الدولي للبلد أو الأرض التي ينتمي اليها الانسان، سواء كانت مستقلة أو تحت الوصاية أو لا تتمتع بالحكم الذاتي أو تخضع لأي انتقاص آخر لسيادتها”.

وبموجب هذه المادة فان حق العودة حق مطلق لا يجوز أن يعيقه أو يعطله أي اعتبار يقوم على التمييز، مهما كان سببه ونوعه، كما أنه لا يتأثر بالوضع القانوني لبلد العائد أو الأرض التي ينتمي اليها. هو يعود اليه سواء كان محتلا أو مستقلا أو ناقص السيادة. حقه في العودة الى بلده، لا لغيره من البلدان، خق ثابت، ولا علاقة بينه وبين الوضع القانوني أو الدولي لبلده أو أرض انتمائه . العنصر الثابت الذي لا يتغير هو الانتماء للارض، للوطن، أما العناصر الاخرى التي قد تطرأ على هذه الارض فهي متغيرة ومتقلبة. ولأن هذه هي طبيعة حق العودة فقد اتصف بأنه من الحقوق غير القابلة للتصرف.

5 – ويترتب على هذه العلاقة بين الانسان وبلده أنه لا يجوز أن يطرد منه، لا في ظروف الحرب ولا ظروف الاحتلال، وهذا ما حظرته المادة 49(1) من اتفاقية جنيف الرابعة التي نصت على ما يلي:

” يحظر نقل الافراد أو الجماعات بالقوة وكذلك ابعاد الاشخاص المشمولين بالحماية (وفقا لهذه الاتفاقية) من الارض المحتلة الى أرض دولة الاحتلال أو الى أية أرض أخرى، محتلة أو غير محتلة، مهما كان الدافع وراء ذلك. “

ففي هذه الاحوال فان حق العودة يعتبر نصحيحا للوضع غير القانوني، الذي هو الطرد، بحيث لا تستمر المخالفة وما يرافقها من ضرر. هذا فضلا عن أن عملية النقل أو الابعاد تعتبر في خد ذاتها جريمة ضد الانسانية يعاقب عليها القانون الدولي الانساني.

وقد ذهبت اتفاقيات جنيف الاربعة الى أبعد من ذلك. ففي الوقت الذي أجازت فيه للدول الاطراف الانسحاب من الاتفاقية الا انها اعتبرت أن هذا الانسحاب لا يحدث أثره الا بعد أن يبرم السلام و”الا الى أن تنتهي العمليات المتعلقة بالافراج عن الاشخاص المحميين بالاتفاقية وعودتهم (الى بلدهم)”. (المادة 63(3) من الاتفاقية الاولى، والمادة 62(3) الاتفاقية الثانية، والمادة 142(3) من الاتفاقية الثالثة والمادة 158(3) من الاتفاقية الرابعة).

6 – نخلص من هذا العرض السريع الى أن جميع المواثيق الدولية والقرارات ذات العلاقة تؤكد على حق العودة ، عودة الانسان الى بلده. وهذا البلد قد يكون بلد جنسيته أيضا، ولكن لا يشترط أن يكون كذلك. وهذا التكرار المتعمد في جميع الاعلانات والمواثيق لعبارة “بلده” الذي يكون فيه مقر اقامته العادية قبل الخروج منه يؤكد الرابطة العضوية التلقائية بين الانسان ووطنه التي سبق أن أشرنا اليها. كما يؤكد أن هذا الحق لا يتأثر بالتغيرات التي قد تكون قد طرأت في الفترة التي يكون فيها المرء خارج وطنه. فقد يقع احتلال، وقد يقع تغير في النظام، وقد ينشأ كيان قانوني جديد، ولكن الحق في العودة يبقى ثابتا لأنه عودة الى البلد، الى الوطن، وهذا كيان يظل قائما. ومن باب أولى، فان هذا الحق لا يتأثر بأي تغير قد يطرأ على بيته أو قريته. هو يعود ليسترد ما يستطيع استرداده من حياته في وطنه، أو ليبدأ فيه من جديد، مع جبر الضرر الذي يكون قد أصابه.

النظام القانوني للاجئين الفلسطينيين

7 – وفي موضوع اللاجئين الفلسطينيين، فقد نشأت القضية مباشرة بعيد صدور قرار التقسيم، وهذا ما كشفت عنه دراسات حديثة لباحثين اسرائيليين أمثال (ايلان باب) في كتابه “التطهير العرقي لفلسطين”. هذه الدراسات التي جاءت مؤكدة لشهادات اللاجئين من أن الغالبية العظمى منهم لم يغادروا بيوتهم أو قراهم أو مدنهم مختارين، وانما طردوا بالقوة وفق خطط موضوعة نفذتها عصابات الارهاب الصهيونية بتوجيه مباشر من دافيد بن غوريون وزمرة من أعوانه. وكانت التعليمات صريحة في هذا الأمر: دمروا القرى وأماكن السكن، اقتلوا من هم في السن العسكرية وهي ما بين العاشرة والخمسين وفق التعليمات، واطردوا الباقين. هذه الحقائق التي كشفت عنها دراسة الوثائق الاسرائيلية تنفي عن الفلسطينيين تهمة ظالمة وجهت اليهم، وهي أنهم غادروا وطنهم مختارين في انتظار أن تعيدهم الجيوش العربية الى مدنهم وقراهم. لقد ارتكبت اسرائيل جريمة التطهير العرقي والقتل المتعمد وتدمير القرى والبيوت لهدف أساسي من أهداف الحركة الصهيونية وهو افراغ فلسطين من أبنائها ومحو كل أثر لوجودهم فيها بحيث يبدو وكأن فلسطين لم يقم فيها طوال تاريخها الطويل الا اسرائيليون.

8 – وقد اهتمت الجمعية العامة للامم المتحدة بقضية اللاجئين كموضوع مستقل منذ بداية بروز هذه الظاهرة. وانصب اهتمامها بادئ ذي بدء على محاولة الوساطة لمعالجة القضية الفلسطينية من أساسها بعد الاضطرابات التي تلت اقرار مشروع التقسيم، ولما يكن قد حان موعد تنفيذه بعد، وكان الانتداب البريطاني ما زال ساريا. فعقدت الجمعية العامة دورة خاصة، بناء على طلبمن مجلس الأمن، في الفترة ما بين 16 ابريل و14 مايو 1948، للنظر في الأمر، وقررت في 14 مايو انشاء منصب وسيط لها واختارت له في العشرين من مايو 1948 الكاونت برنادوت الذي كان رئيسا للصليب الأحمر السويدي. واهتم الوسيط الدولي بشكل خاص بموضوع اللاجئين فأنشأ مشروع الامم المتحدة للاغاثة من الكارثة UN Disaster Relief Project في يوليو 1948 للتنسيق بين الحكومات والمنظمات غير الحكومية التي كانت تقدم المساعدات الانسانية للاجئين. وهو المشروع الذي تولته فيما بعد لجنة التوفيق الخاصة بفلسطين، ثم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين. وانه لمن المهم أن نتذكر هذه التواريخ التي يتضح منها أن مشكلة اللاجئين قد نشأت قبل قيام اسرائيل، وقبل دخول الجيوش العربية لفلسطين، وأن الامم المتحدة اهتمت بالموضوع وسعت لمعالجته منذ البداية. وأهمية هذه التواريخ تظهر عند معالجة تعريف من هو اللاجئ.

9 – ولحل مشكلة اللاجئين حلا جذريا يتفق مع مبادئ القانون، فقد سعى الوسيط الدولي لدى النظام الاسرائيلي لاعادتهم الى بيوتهم التي أخرجوا منها. ورفضت السلطات الاسرائيلية طلبه. فقدم في أغسطس 1948 تقريره الاول عن مساعيه، ثم قدم تقريره الثاني في 16 سبتمبر 1948 . وفي هذا التقرير الثاني تعرض لمحاولاته الفاشلة لاقناع السلطات الاسرائيلية بالسماح للاجئين الفلسطينيين بالعودة الى ديارهم، وازاء هذا الفشل، حدد الوسيط ما يتوجب على الامم المتحدة من التأكيد عليه. فكانت التوصية التالية:

” إن حق اللاجئين العرب في العودة الى بيوتهم في الاراضي الخاضعة للسيطرة اليهودية في أقرب وقت ممكن، يجب التأكيد عليه من قبل الامم المتحدة، كما أن عودتهم واعادة توطينهم وتأهيلهم اقتصاديا واجتماعيا، ودفع التعويض الملائم عن أموال أولئك الذين لا يرغبون في العودة، يجب أن الاشراف عليه والمساعدة فيه من قبل لجنة التوفيق التابعة للامم المتحدة ” .

في اليوم التالي لتقديم هذا التقرير وفيه هذه التوصية، أي في 17 سبتمبر 1948، قامت عصابة شتيرن الصهيونية باغتيال الوسيط الدولي ، الكاونت برنادوت، هذا الرجل ألذي انقذ حياة عشرات الالوف من اليهود من المحرقة النازية اثناء الحرب العالمية الثانية عندما كان رئيسا للصليب الاحمر الدولي.

10 – من المهم أن نلاحظ في هذه التوصية أن الوسيط الدولي قد طلب من الامم المتحدة أن تؤكد حق العودة، باعتبار أن هذا الحق حق ثابت ومستقر، لا يحتاج الى انشاء. ونلاحظ أن هذه التوصية جاءت سابقة للاعلان العالمي لحقوق الانسان الذي صدر في 10 ديسمبر 1948 والذي أكد على حق الانسان قي العودة الى بلده. ونلاحظ ثانية أن الوسيط الدولي يرى أن عودة اللاجئ هذه تكون الى بيته في الاراضي الخاضعة للسيطرة اليهودية، وليس الى غيرها. وهذا تأكيد منه بأن اللاجئين ينتمون الى هذه المناطق التي أصبحت تحت السيطرة اليهودية، وأن هذه السيطرة لا تمس بهذا الحق وهذا ينسجم تماما مع ما سبق أن اشرنا اليه من أن حق العودة لا يتأثر بالوضع السياسي أو القانوني الذي يطرأ على البلد الذي يتعلق به هذا الحق.

القرار رقم 194 (3)

11 – وانسجاما مع هذه التوصية واستجابة لها اتخذت الجمعية العامة للامم المتحدة قرارها رقم 194 (3) بتاريخ 11 ديسمبر 1948. وجاء فيه فيما يتعلق باللاجئين :

“اللاجئون الذين يرغبون في العودة الى بيوتهم والعيش قي سلام مع جيرانهم يجب أن يسمح لهم بذلك في أقرب وقت عملي ، كما يجب أن يدفع تعويض عن أموال أولئك الذين لا يرغبون في العودة وعن الخسارة أو الضرر للاموال التي يجب اجراؤها وفقا للقانون الدولي والعدالة من قبل الحكومات أو السلطات المسئولة. ”

12 – ويلاحظ بالنسبة لهذا القرار:

(أولا) أنه لم ينشئ حق العودة، وانما اعتبره حقا قائما وثابتا ولا يحتاج الا الى التنفيذ. ولذا قال “يجب أن يسمح لهم بالعودة في أقرب وقت عملي”. فالمسألة مسألة توقيت التنفيذ فقط، بدون أية مفاوضات بشأن أصل الحق.

(ثانيا) لم يُعَرِّفْ القرار من هو اللاجئ بشكل مباشر، ولكن النص على أن عودة اللاجئ تكون الى بيته، فان اللاجئ يكون من هو خارج بيته، قيكون له الحق في العودة اليه. وعلى هذا فقد يكون الفلسطيني خارج فلسطين أو داخلها، ويعتبر لاجئا، ما دام ليس في بيته.

(ثالثا) ميز القرار بين فئتين من اللاجئين : فئة “نرغب في العودة” وفئة “تختار الا تعود”. وممارسة حق العودة من عدمها خيار فردي.

(رابعا) تكون عودة اللاجئين الذين يرغبون في العودة “الى بيوتهم”، وهذه البيوت لها مواقعها الجغرافية المحددة في مدن أو قرى أو بوادٍ. وهذه المواقع قد تكون خاضعة للاحتلال أو لا تكون، في المناطق التي تخضع للسيطرة اليهودية، كما قال برنادوت في توصيته، وقد لا تكون، من الناحية النظرية. المهم هو العودة الى المكان نفسه.

(خامسا) اللاجئ العائد يجب أن يكون على استعداد لأن “يعيش في سلام مع جيرانه”. ويستشم من هذا النص أن العودة المقصودة بالقرار هي عودة الى الاراضي التي تخضع للسيطرة اليهودية، حسب توصية بيرنادوت. اذ لا معنى لهذا الشرط لوكانت العودة من لاجئ فلسطيني الى محيطه الفلسطيني. ولم يتعرض القرار بطبيعة الحال الى كيفية التأكد من تحقق هذا الشرط، اذ أن حقيقته لا تتضح الا بعد التنفيذ. ولهذا يكفي في بداية الأمر تعهد بذلك من فبل العائد. واذا أخل بذلك التعهد فيما بعد بأن أخل بالنظام العام فانه يكون من حق السلطات ذات العلاقة التعامل معه على هذا الاساس، فتحاسبه على اخلاله. انما لا يجوز طرده، لأن هذا الشرط ليس من شروط اقامة أي انسان في وطنه. هو يعاقب اذا أخل بالنظام العام، ولكنه لا يطرد ليصبح لاجئا من جديد.

(سادسا) إن القرار لم يحدد مدة زمنية لممارسة هذا الحق، واكتفى بالقول بأن يكون ذلك في أقرب وقت من الناحية العملية. وهذا ينسجم مع طبيعة هذا الحق، اذ لا يجوز تحديد مدة يجبر المرء على الالتزام بها والا فقد حقه الطبيعي والتلقائي في العودة الى دياره. ولهذا فانه لا يسقط بمضي المدة، وللاجئ ممارسته في أي وقت تسنح فيه فرصة العودة .

الحق في التعويض

13 – نص القرار على التعويض، وقامت لجنة التوفيق التي شكلتها الجمعية العمومية للامم المتحدة من كل من الولايات المتحدة وفرنسا وتركيا، باعطاء التفسير التالي للحق في التعويض. قالت اللجنة:

” وضعت الجمعية العامة مبدا حق اللاجئين في ممارسة خيارهم بجرية بين العودة الى بيوتهم والتعويض عن الخسارة أو الضرر الذي لحق بممتلكاتهم من جهة وبين عدم العودة الى بيوتهم مع تعيضهم تعويضا ملائما عن قيمة الممتلكات التي تركوها”.

هذا هو تفسير اللجنة، وهو تفسير سليم من ناحية استحقاق اللاجئين للتعويض، سواء منهم من اختار العودة أو لم يخترها. كل منهم له الحق في التعويض. أما عناصر هذا التعويض فيقررها القانون، لا لجنة التوفيق هذه. والتعويض في القانون لا يقتصر على خسارة أو ضرر مادي فقط، وانما هناك اضرر الذي ترتب على حالة اللجوء في حد ذاتها والحرمان الطويل من ممارسة حق العودة والمعاناة التي ترتبت على ذلك. وهذه مسألة لم يحن الوقت بعد لعرضها بالتفصيل، ونكتفي بالاشارة اليها فقط هذه الاشارة المقتضبة.

خصائص حق العودة

14 – سبق أن ذكرنا أن حق العودة حق طبيعي تلقائي يتمتع به الانسان بحكم انتمائه لوطن معين. والحقوق الطبيعية التلقائية من هذا النوع هي ما أصبخ يعرف بالحقوق غير القابلة للتصرف. وقد اهتمت الجمعية العامة للامم المتحدة بتحديد هذه الحقوق بالنسبة للشعب الفلسطيني وذلك في القرار الصادر منها في 22 نوفمبر 1974 برقم 3236. والحقوق التي أشار اليها ذلك القرار هي “حق تقرير المصير وحق الاستقلال والسيادة وحق الفلسطينيين في العودة الى بيوتهم التي أخرجوا واقتلعوا منها” . فحق العودة اذن من بين الحقوق غير القابلة للتصرف ويقف على نفس مستوى حق تقرير المصير. ويحاول البعض دمج حق العودة في حق تقرير المصير، غير أن الجمعية العامة تعاملت معهما كحقين، الواحد منهما مستقل عن الآخر. وهذا موقف سليم حيث أن حق العودة يدخل فيه عنصر شخصي مباشر يقرره الفرد، ولكنه في تصرفه هذا لا يمس الارض والوطن، ولذا جاء حقه في التعويض عن الضرر الشخصي الذي لحق به. غير أنه بقراره في العودة من عدمها لا يقرر التخلي عن سيادة الشعب على الجزء من الوطن الذي هو محل اقامته المعتادة، اذ لا يملك أي فرد حق التخلي عن أي جزء من أرض الوطن. ولهذا فان حق العودة هو من بين الحقوق التي يتلازم فيها الحق الشخصي مع الحق العام دون أن يلغي أحدهما الآخر أو يندمج فيه بالضرورة. ثم إن الرابطة القائمة بين الانسان ووطنه هي علاقة متوارثة بين الاجيال ولا يملك جيل أن يفصم هذه العلاقة ويحرم الاجيال القادمة منها بتصرفه الشخصي. ولهذا فان التصرف الشخصي ينصرف الى شخصه فقط، فيعود أو لا يعود، ويتقاضى التعويض في الحالتين. واذا انقضى جيل دون ممارسة هذا الحق فان الحق يبقى قائما للاجيال التالية، حتى ولو مارس جيل حقه في تقرير المصير إن حق العودة يبقى قائما الى أن يتحقق بشقيه الشخصي والعام.

15 – والحقوق غير القابلة للتصرف لا تخضع بطبيعتها للاستفتاء. فهذه الحقوق لا يفصل فيها جيل بالاضرار بحق الاجيال القادمة. وقد عالجنا موضوع الاستفتاء، خاصة ما يستفتى عليه، في مقالين نشرناهما في القدس العربي .

من هو اللاجئ

16 – لممارسة حق العودة لا بد من تعريف من هو صاحب هذا الحق. وقد أصبح هذا التعريف مهما بشكل خاص نظرا لتطوره على مدى السنوات الماضية من وجود وكالة غوث اللاجئين وتشغيلهم، ونظرا كذلك لأن حالات اللجوء لم تتوقف. فهناك أولا حالتان من اللجوء الجماعي ، الاولى عاما 1947-1948، والثانية عام 1967. ثم هناك ظاهرة ابعاد الفلسطينيين من القدس بهدم بيوتهم أو بطردهم لسبب أو لآخر. ثم هنالك من يتلقى العون من وكالة الغوث ومن لا يتلقاها، وهناك من هم في سجلاتها ومن هم غير ذلك أصلا أو شطبوا من السجلات. وهناك من كانوا خارج فلسطين في الاعوام المذكورة وبالتالي فانهم لم يطردوا ولكنهم لا يستطيعون العودة. ثم لقد ظهرت أجيال خارج فلسطين في أماكن اللجوء ولم تطأ أقدامهم أرض فلسطين، ناهيك أن تكون لهم بيوت فيها باسمائهم يعودون اليها. وفضلا عن هذا فقد حرصت اسرائيل منذ البداية على تدمير القرى والبيوت الفلسطينية، وغيرت الاسماء، وأقامت المستوطنات والمنتزهات والحدائق العامة فيها، أي أن اسرائيل تعمدت محو التاريخ الفلسطيني كله والوجود الفلسطيني كله في المواقع التي استولت عليها.

17 – يضاف الى هذا كله أن القرار رقم 242 الصادر من مجلس الأمن لم يتبن الصيغة التي اعتمدتها الجمعية العامة للامم المتحدة عندما أشار الى موضوع اللاجئين، حيث تحدث القرار المذكور عن “ضرورة ايجاد تسوية عادلة لمشكلة اللاجئين”. وجاء اتفاق اعلان المبادئ بين منظمة التحرير واسرائيل ليشير فقط الى القرارين رقم 242 و 338 كأساس للحل، ولم يشر الى قرار الجمعية العامة رقم 194 ، يضاف الى ذلك الشعار الذي تبنته الدول العربية للحل العادل والدائم وهو “الأرض مقابل السلام”. والارض تتمثل في العودة الى حدود عام 1967. وبان التآكل الذي بدأ يشق طريقه في تفسيرات لحق العودة ومن يملكونه تتعارض تماما مع هذا الحق. فهناك اتفاقيات أبرمها مسئولون فلسطينيون مع غير مسئولين اسرائيليين جرى فيها التنازل الكامل عن هذا الحق، وهناك اتفاقيات أخرى حصرت هذا الحق في العودة الى الضفة والقطاع، واستبعدت بالتالي حق العودة الى الى ما وراء الخط الأخضر. ثم جاءت تصريحات بأن تنفيذ هذا الحق يتم بالاتفاق ، بمعنى أن يكون لاشرائيل حق الفيتو على من يعود ومن لا يعود. وجاءت مبادرة الدول العربية فكانت في صيغتها الاولى خالية من الاشارة الى حق العودة، ثم عدلت في قمة بيروت باضافة هذا الحق. ومؤدى هذا كله أن المحاولات لم تتوقف للانتقاص من هذا الحق أو للتخلي عنه كلية. وهذا كله تستنتج منه اسرائيل ما تستنتجه.

18 – لم يعرف القرار رقم 194 من هو اللاجئ، ولكن نص القرار ينبئ عن هذا التعريف ومن هم المقصودون بالقرار حينما طالب بالسماح لهم بالعودة الى بيوتهم وأشار الى أن يكون العائدون على استعداد للعيش بسلام مع جيرانهم. وبالتالي فان هذا الحق يشمل كل من ليس في بيته ويرغب في العودة اليه، أينما كان. وعندما قررت الجمعية العامة للامم المتحدة انشاء وكالة الغوث في 8 ديسمبر 1949 بالقرار رقم 302 (4)، حصرت اختصاص هذه الوكالة اقليميا في منطقة “الشرق الادنى”. أما الاختصاص الميداني للوكالة فقد تحدد في أمرين اثنين: (الاول) القيام ببرامج اغاثة وتشغيل بشكل مباشر وفقا لما توصي به بعثة المسح الاقتصادي، وذلك بالتعاون مع الحكومات المحلية. و (الثاني) التشاور مع حكومات الشرق الادنى المعنية حول الاجراءات التي يجري اتخاذها من جانب هذه الحكومات استعادا للوقت الذي تصبح فيه المساعدة الدولية لمشروعات الاغاثة والتشغيل غير متوفرة. وبناء على هذا القرار فإنه يخرج عن اختصاص الوكالة اللاجئون الفلسطينيون الذين لجأوا الى اقطار خارج الشرق الادنى. وكذلك فان دور الوكالة انحصر في الاغاثة والتشغيل، وبالتالي فان أولئك الذين كانوا أو أصبحوا فيما بعد في غنى عن الاغاثة أو التشغيل لا يدرجون في سجلات الوكالة. واذن فانه لا يصح الاعتماد على سجلات الوكالة لتحديد من هم اللاجئون الذين يحق لهم ممارسة حق العودة، خاصة وأن الوكالة تراجع سجلاتها بشكل متواصل تحت ضغط الول المانحة لانقاص عدد المستحقين للاغاثة أو التشغيل. ولكن المدرجين في سجلاتها يعتبرون من أصحاب هذا الحق.

19 – في ضوء ما تقدم فان تعريف اللاجئ الفلسطيني الذي له حق العودة هو الذي تنطبق عليه المواصفات الواردة في القرار رقم 194 حيث أنه لا يقيد المكان الموجود فيه بعد خروجه من بيته، ولكنه يحدد المكان الذي له خق العودة اليه. الشرط الوحيد هو أن يكون خارج محل اقامته المعتاد وأن البلد الذي يرغب أو لا يرغب في العودة اليه هو البلد الذي كان فيه محل اقامته المعتاد.

20 – ومما يجب التذكير به خوفا من احتمال الخطأ في المرجعية القانونية لتعريف اللاجئ الفلسطيني أو لمن له حق العودة، أن اتفاقية اللاجئين لعام 1951، كما عدلت ببروتوكول 1967 الخاص بوضع اللاجئين، وهي اتفاقية عامة، وكذلك قرار الجمعية العامة الخاص بالمفوض العام للاجئين التابع للامم المتحدة لعام 1951.، وكذلك الاتفاقية الدولية الخاصة بالاشخاص عديمي الجنسية لعام 1954 – جميع هذه الاتفاقيات والقرارات لا تطبق بالنسبة لفئات معينة من اللاجئين الفلسطينيين، وهذه هي الفئات هي تلك الداخلة في النطاق الاقليمي لوكالة الغوث. فمثلا تنص المادة 7 من نظام مفوض الامم المتحدة العام للاجئين على ما يلي :

“لا يشمل اختصاص المفوض العام أي شخص …..(ج) يستمر في تلقي الحماية أو المساعدة من أجهزة أو وكالات أخرى تابعة للامم التحدة”

وتنص المادة 1 (د) من اتفاقية اللاجئين لعام 1951 على ما يلي:


” لا تطبق هذه الاتفاقية على من يتلقى في الوقت الحاضر حماية أو مساعدة من أجهزة أو وكالات الامم التمحدة، باستثناء المفوض العام للاجئين التابع للامم التحدة. واذا توقفت تلك الحماية أو المساعدة لأي سبب كان دون أن يكون وضع هؤلاء الاشخاص قد سوي تسوية نهائية وفقا لقرارات الجمعية العامة للامم المتحدة فان هؤلاء الاشخاص يستحقون حكما ما في هذه الاتفاقية من منافع”

لقد ورد الاستثناء في هذه الاتفاقيات والقرارات بشكل عام دون الاشارة للاجئين الفلسطينيين. غير أنهم هم المقصودون به، حيث أن الدول العربية هي التي طالبت به وتمسكت بالنص عليه. ولكن يجب أن نلاحظ أنه استثناء قاصر فقط على من يتلقون اغاثة من وكالة غوث وتشغيل اللاجئين. أما الذين لم يتلقوا أصلا اغاثة أو تشغيلا أو توفقوا عن تلقيهما فان الاستثناء قد لا يطبق عليهم.

حماية حق العودة

21 – سبق أن أشرنا الى مناورات أو محاولات للمساس بهذا الحق. وكذلك فان اسرائيل ترفض الاعتراف به، وفي أحسن مواقفها فانها ابدت استعدادا لقبول عدد بسيط بناء على الرغبة في لَمِّ الشمل، وليس تطبيقا لخق العودة. وتأكيدا لهذا الموقف الرافض فان اسرائيل لا تسمح حتى للاجئين داخل الخط الأخضر بالعودة الى بيوتهم وقراهم ، مع أن بعض هذه القرى والبيوت ما زالت قائمة. وسبب الرفض هو الخوف من أن يكون ذلك سابقة يحتج بها عليها.

22- وكذلك لا يمكن الاعتماد على وكالة الغوث لحماية هذا الحق أو لتنفيذه. فالوكالة هي وكالة غوث وتشغيل، أي المساعدة في تسيير أمور الحياة اليومية، ولا يدخل في اختصاصها حماية حقوق اللاجئين. هي وكالة مساعدة لا وكالة حماية. الحماية، ويدخل فيها حماية حق العودة وتنفيذه، يختص بها المفوض العام للاجئين التابع للامم المتحدة، والاتفاقية الخاصة باللاجئين. وقد سبق أن ذكرنا أن اللاجئين الفلسطينيين الذين يتلقون الاغاثة أو المساعدة من وكالة الغوث، وهم معظم اللاجئين الفلسطينيين، قد جرى اساثناؤهم من اختصاص هاتين الجهتين. أي أنه لا توجد جهة دولية مختصة أو اتفاقية دولية خاصة باللاجئين يدخل في ضمن اختصاصها حماية حقوق اللاجئين الفلسطينيين، وبالتالي حماية حق العودة.

معايير الحل التفاوضي لانهاء الاحتلال الاسرائيلي-3

معايير الحل التفاوضي لانهاء الاحتلال الاسرائيلي

ثالثا: التزامات الدول الاخرى والامم المتحدة

1 – بعد أن نظرت محكمة العدل الدولية في مشروعية الجدار الذي أقامته وتقيمه اسرائيل في الاراضي الفلسطينية المحتلة وقررت أنه غير شرعي ويجب ازالته والتعويض عن الاضرار التي تسبب فيها، انتقلت المحكمة لبحث التزامات الدول الاخرى والتزامات الامم المتحدة في هذا الخصوص ومسئوليتها عن حل القضية الفلسطينية. ووجهت المحكمة اللوم للامم المتحدة لفشلها بسبب ممارسة أحد الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن لحق النقض. وفي هذا البحث نتحدث بايجاز عن هذا الجانب من جوانب الفتوى، ونُذَكِّر بما قلناه سابقا من أن هذه الفتوى لها صفة الالزام نظرا لأن المبادئ التي قررتها هي مبادئ عامة من مبادئ القانون الدولي والقانون الدولي الانساني الملزمة للجميع وأن الجمعية العامة للامم المتحدة قد اعتبرتها كذلك.

التزامات الدول الأخرى

2 – نعني بالدول الأخرى باقي دول العالم، بما فيها بطبيعة الحال الدول العربية والولايات المتحدة الامريكية ودول الاتحاد الاوروبي. وقد خاطبتها المحكمة اولا بصفتها دولا،ثم خاطبتها بصفتها أعضاء في الامم المتحدة، ونتعرض لذلك في القسم الثاني من هذا المقال. أما التزاماتها بصفتها دولا فقد حددتها المحكمة فيما يلي:

أولا: التزامات يفرضها القانون الدولي والقانون الدولي الانساني على جميع الدول.

ثانيا: الالتزام بعدم الاعتراف بمشروعية الجدار.

ثالثا: الالتزام بعدم تقديم المساعدة أو العون للمحافظة عليه.

رابعا: الالتزام بضمان احترام اتفاقية جنيف الرابعة المتعلقة بمعاملة المدنيين اثناء النزاعات المسلحة.

أولا: الالتزامات التي يفرضها القانون الدولي والقانون الدولي الانساني

3 – حددت المحكمة الالتزامات التي يفرضها القانون الدولي والقانون الدولي الانساني بخصوص الاحتلال الاسرائيلي، وقررت أنها ملزمة لجميع الدول، وليس لاسرائيل فقط لما لها من العمومية. ومعنى هذا أن الدول ملزمة باحترامها في تعاملها مع النزاع الفلسطيني الاسرائيلي فيما يتعلق بالاحتلال وآثاره والحل الذي يجب التوصل اليه، بحيث لا تقع مخالفة لاحكام أي من القانونين. فموافقة دولة من الدول مثلا على بقاء المستوطنات أو على ضم أراض فلسطينية محتلة، كالقدس، يضعها في موقف المخالف. وكذلك بطبيعة الحال تقديم الدعم العسكري أو المالي أو السياسي للابقاء على الاحتلال أو لبناء المستوطنات أو لانتهاك حقوق الانسان الفلسطيني. ويترتب على اخلال اسرائيل بمبادئ القانون الدولي والقانون الدولي الانساني الملزمة للجمييع حقٌّ لكل دولة في اتخاذ اجراءات من جانبها لمحاولة انهاء هذه المخالفة. ومؤدى ذلك أن مقاطعة أية دولة لاسرائيل بهذا الهدف أو لحملها على احترام حقوق الانسان الفلسطيني هي مقاطعة مشروعة، وكذلك قطع العلاقات الدبلوماسية معها، لأن من واجب كل دولة حماية الشرعية الدولية. بل وربما يحق لها أن تقاضي اسرائيل أمام محمكة العدل الدولية أو أية جهة قضائية أخرى مناسبة لأن لها مصلحة في احترام القانون الدولي، وهذا ينطبق بشكل خاص على الدول العربية والاسلامية التي لها، فضلا عن المصلحة العامة في احترام القانون الدولي، مصلحةٌ خاصةٌ بحكم تأثرها المباشر نتيجة للانتهاكات الاسرائيلية.

ثانيا: الالتزام بعدم الاعتراف بالجدار

4– حيث أن المحكمة قد قررت أن الجدار غير شرعي، فقد كان من الطبيعي أن تقرر التزام الجميع بعدم الاعتراف به. وهذا الالتزام موجه للدول كافة، وتلتزم به الدول العربية والسلطة الفلسطينية بوجه خاص. فالدول العربية والسلطة الفلسطينية اعتادت على تقبل معظم ما تدعيه اسرائيل بأنه ضروري لأمنها. فمصرمثلا تقلصت سيادتها على سيناء لهذا السبب. والسلطة الفلسطينية طاردت وسجنت النشطاء الفلسطينيين لهذا السبب أيضا. وفي أية مفاوضات قد تجري، فإن اسرائيل ستتمسك حتما بأن الجدار ضروري لأمنها، ونخشى أن تتكرر المواقف، فتوافق الانظمة العربية على ذلك وتبدأ الضغوط على الفلسطينيين للموافقة على بقاء الجدار، خاصة وأن اسرائيل ماهرة في تقديم المُسَكِّنات، مثل ايجاد معابر تتعهد بإبقائها مفتوحة، أو أنها ستصدر التصاريح لأصحاب الاراضي الواقعة خلف الجدار للوصول اليها. ووجه الخطورة هو قبول هذه المسكنات. الجدار غير شرعي ويجب التمسك بازالته كما قررت المحكمة، مهما كلف الأمر، لأنه سيكون هو الحل النهائي للقضية الفلسطينية الذي يحقق لاسرائيل هدفها بأن تمتد حدودها هي من النهر الى البحر.

ثالثا: الالتزام بعدم تقديم عون أومساعدة للحفاظ على الجدار

5– وهذا التزام طبيعي ينتج عن القرار بأن الجدار غير شرعي ويجب ازالته. وفي رأينا أن هذا الالتزام لا يقف عند حدود الدعم المادي وانما يتعداه الى الدعم السياسي أو الدبلوماسي. فهو لا يشمل فقط ما تقدمه أمريكا من مساعدات عسكرية لاسرائيل أو من قروض أو تسهيلات قروض، وإنما يشمل أيضا دعمها لها في مجلس الأمن، باستعمال حق النقض مثلا للحيلولة دون اتخاذ اجراءات جماعية من المجتمع الدولي لارغام اسرائيل على ازالة المخالفة، وهي بناء الجدار. ومن رأينا أنه يجوز مقاضاة أمريكا ليس فقط بسبب دعمها للاحتلال ولكن بسبب ممارستها غير المشروعة لحق النقض للابقاء على أوضاع غير شرعية.ويفرض هذا الالتزام على الدول منع شركاتها من المساهمة في بناء الجدار، ومن هنا تأتي سلامة القرارات التي اتختها كنائس امريكية وبريطانية بانهاء مساهمتها في شركة كاتربلر الامريكية التي تستعمل معداتها في بناء الجدار وتجريف الاراضي الفلسطينية.

رابعا: الالتزام بما تفرضه اتفاقية جنيف الرابعة

6- خلافا لما ادعته اسرائيل، فقد قررت محكمة العدل الدولية أن اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين مُلزِمةٌ لها. وبالتالي فقد رتبت المحكمة التزاما على الدول الاخرى بالعمل على تأمين احترام اسرائيل لهذه الاتفاقية، وذلك وفاء بالالتزام بذلك وفقا للاتفاقية ذاتها. فاتفاقيات جنيف الاربعة نصت ليس فقط على احترام الاطراف لها وانما أيضا على التزامهم بتأمين احترام الاطراف الآخرين لها. هذا التزام على كل دولة طرف في الاتفاقية، وهو التزام تعاقدي فردي وجماعي، بمعنى أنه يحق لكل دولة أن تتخذ ما تراه من اجراءات ضد اسرائيل لحملها على احترام أحكام الاتفاقية، كما أنه من حق الدول الاطراف مجتمعة أن تقرر هذه الاجراءات. الدول العربية والاسلامية جميعا أطراف في هذه الاتفاقية، ومن حقها أن تتخذ قرارات واجراءات ضد اسرائيل لكي توقف انتهاكاتها لها، كوقف التطبيع والمقاطعة وتعليق العلاقات الدبلوماسية. واذا أقدمت هذه الدول على هذه الاجراءات فإنها تُذَكِّرُ الاطراف الأخرى بالتزامها وتتمكن من الدعوة من موقف فاعل لاتخاذ اجراءات. أما العمل الجماعي فيأتي عن طريق دعوة المؤتمر العام للدول الاطراف. وقد سبق لهذا المؤتمر أن عُقِد وطالب اسرائيل بالالتزام بالاتفاقية، الا أن الوقت قد حان لتحريك هذه الاداة الدولية التي ليس فيها لأحد حق النقض لتتخذ اجراءات ضد اسرائيل غير مناشدتها باحترام الاتفاقية. والظروف الحالية مواتية لذلك نظرا لتنوع الانتهاكات الاسرائيلية وتعددها، واستنادا الى فتوى محكمة العدل الدولية. غير أننا نعود ونكرر أن حقوقنا تضيع وتهدر لأن انظمتنا لا تتمسك بها أو تتهاون في ذلك.

التزامات الامم المتحدة

7- في نظر محكمة العدل الدولية أن الامم المتحدة، وخاصة مجلس الأمن والجمعية العامة، قد قصرت تقصيرا كبيرا في حلها للقضية الفلسطينية، وانحت باللوم في ذلك على استعمال حق النقض من دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن. وطلبت المحكمة من الامم المتحدة أن تنشط في الموضوع باتخاذ اجراءات لضمان احترام القانون الدولي والقانون الدولي الانساني كما حددتهما المحكمة. وقد بدأت الجمعية العامة في تنفيذ دلك بمطالبة اسرائيل الالتزام بفتوى المحكمة. غير أن الأمر توقف حتى الآن عند هذا الحد وذلك لأن الجمعية العامة لا تنعقد من تلقاء ذاتها، وانما تنعقد بناء على طلب الاعضاء. ولم تتقدم الدول العربية والاسلامية حتى الآن بطلب لعقد اجتماع للجمعية العامة لاتخاذ اجراءات محددة ضد اسرائيل لإرغامها على الامتثال لفتوى المحكمة. ولا نشك بأن ذلك راجع للضغوط الامريكية وللوعود بالبدئ في مفاوضات. وفي رأينا أن هذا موقف غير سليم من جانب الانظمة العربية والاسلامية لأنه علق الموضوع كله على أمل مشكوك جدا في تحققه، ومن المؤكد أنه لن يحقق ما يريده الفلسطينيون والعرب ولن يلتزم بالمبادئ والقواعد التي حددتها المحكمة. فاسرائيل استمرت في تنفيذ بناء الجدار ولم توقفه، حتى ولو لاظهار حسن النية. واذن المطلوب من الدول العربية والاسلامية أن تباشر لدعوة الجمعية العامة لاتخاذ اجراءات ضد اسرائيل.

8 – ونظرا لأن الامم المتحدة مشاركة في اللجنة الرباعية التي تعهد تنفيذ خارطة الطريق، فقد نبهت المحكمةُ الامم المتحدةَ بأن عضويتها في هذه اللجنة توجب عليها أن لا تسلم القياد للولايات المتحدة الامريكية، وانما عليها أن تتخذ مواقف تهدف الى تنفيذ مبادئ وقواعد القانون الدولي والقانون الدولي الانساني الملزمة للمجتمع الدولي كما قررتهما المحكمة.

9 – وخطت محكمة العدل الدولية خطوة في غاية الأهمية لتعزيز دور الجمعية العامة. فقد كان الاعتقاد السائد بأن مجلس الأمن وحده هو المختص ببحث النزاعات التي تهدد الأمن والسلام الدوليين، أو أنه لا يجوز للجمعية العامة أن تتعرض لنزاع من هذا النوع يكون على جدول أعمال مجلس الأمن. وجاءت فتوى المحكمة لتفسر أحكام ميثاق الامم المتحدة في هذا الشأن، فأفتت بأن هذا الحق ليس مقصورا على مجلس الأمن وانما للجمعية العامة أن تبحث وتقرر فيما يتعلق بهذا النوع من النزاعات الدولية حتى ولو كان الموضوع مطروحا على مجلس الأمن. وفيما يتعلق بالقضية الفلسطينية بالذات، لاحظت المحكمة أن الجمعية العامة للامم المتحدة هي الأكثر اختصاصا في النظر فيها.

10- وبناء على هذه الفتوى من محكمة العدل الدولية وتأنيبها لمجلس الأمن وخاصة الدولة التي مارست حق النقض لحماية الانتهاكات الاسرائيلية فقد أصبحت الأبواب مشرعة أمام الجمعية العامة للامم المتحدة لتجاوز مجلس الأمن فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية واتخاذ ما تراه من اجراءات، كما أصبحت الفرص كلها متاحة للدول العربية والاسلامية للعمل من خلال الجمعية العامة وتجنب الاصطدام بالفيتو الامريكي. والجمعية العامة تستطيع أن تفعل الكثير اذا تحركت الدول العربية والاسلامية بجدية، وما فعلته الجمعية العامة بخصوص جنوبي افريقيا العنصرية مؤشر على ذلك، حتى قبل هذه الفتوى من محكمة العدل الدولية التي عززت من مكانة الجمعية العامة في اتخاذ الاجراءات للمحافظة على الأمن والسلام الدوليين.

11– بعد صدور هذه الفتوى من محكمة العدل الدولية واعتماد الجمعية العامة لها بأغلبية ساحقة لم يعارض فيها دولة ذات شأن سوى أمريكا، لم يعد هناك أي مبرر للعرب للتخوف من الفيتو الامريكي في مجلس الأمن. فالدول التي وافقت على فتوى محكمة العدل الدولية، ومن بينها دول الاتحاد الاوروبي، يصعب عليها أن تقف أمام المطالبة بتنفيذ هذه الفتوى بالمبادئ والقواعد التي وردت فيها، وستقف امريكا عندئذ وحدها في مواجهة محكمة العدل الدولية والمجتمع الدولي في دعمها لانتهاك مبادئ وقواعد عامة وملزمة للمجتمع الدولي كله. إن مراعاة الدول العربية لامريكا في مواقف جادة بالنسبة لقضايانا تزيد من المصائب ولا تخففها ولا تساعد في حلها. والفرصة الآن متاحة، ونرجو أن تغتنمها دولنا بدلا من أن تظل أسيرة للخوف من أمريكا أو اسرائيل أو تمني نفسها بآمال لن تتحقق فتضيع حقوقنا.

رسالة مفتوحة لجامعة الدول العربية

رسالة مفتوحة لجامعة الدول العربية

ومنظمة دول العالم الاسلامي

بعد التحية،

لا شك أن القارئ يدرك أنني قد ترددت كثيرا قبل كتابة هذه الرسالة، فهو يعلم عدم جدوى مخاطبة هاتين المنظمتين فيما يتعلق بحماية الحقوق العربية والاسلامية والدفاع عنها. بل إن ما يميز نشاط أعضاء هاتين المنظمتين من دول عربية وإسلامية هو تثبيط همم العاملين، باتباع سياسات ومواقف تجهض محاولاتهم لحماية هذه الحقوق والدفاع عنها.

ففي الوقت الذي تقوم فيه 160 منظمة حقوق إنسان فلسطينية وعربية وأجنبية بحملة دولية لفرض مقاطعة اسرائيل، كما كان الحال مع النظام العنصري في جنوب أفريقيا، تتبارى الدول الأعضاء في المنظمتين في انشاء العلاقات مع اسرائيل وتعميقها.

وفي الوقت الذي تبادر فيه منظمات حقوق انسان بريطانية وأوروبية وعربية الى اتخاذ اجراءات قضائية ضد الاتحاد الاوروبي لحمله على إلغاء أو تعليق اتفاقية الشراكة الاوروبية الاسرائيلية، تتسارع الدول الاعضاء في المنظمتين لتمتين العلاقات الاقتصادية مع اسرائيل وابرام اتفاقيات شراكة ومناطق حرة واقامة مشروعات مشتركة ومقاومة التحرك الشعبي ضد التطبيع.

وفي الوقت الذي تطارد فيه منظمات حقوق الانسان الفلسطينية والاجنبية والمحامون الشرفاء، المتهمين الاسرائيليين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية أمام القضاء الاجنبي وتحاصرهم بحيث تصبح اسرائيل سجنا كبيرا لهم جميعا خوفا من الملاحقة القانونية والقصاص العادل، في هذا الوقت بالذات تتعامل الدول الاعضاء في المنظمتين مع هؤلاء المتهمين وتستقبلهم استقبالا رسميا وتمنحهم الحماية، بدلا من أن تتحرك لمقاضاتهم على جرائمهم. وأظن أن دول جامعة الدول العربية ليست في حاجة للتذكير بقرار اتخذته قمة عربية، في لحظة شجاعة نادرة، بملاحقة المتهمين الاسرائيليين على جرائمهم، فهذه الدول تعلم مصير ذلك القرار، ولعله شطب من قرارات تلك القمة كي لا تسجل عليها بادرة لا ترضى عنها اسرائيل. ولعل هذه الدول قلقة من شجاعة منظمة من منظمات المجتمع المدني العربي ومحامين بريطانيين وقاض بريطاني في ملاحقة جنرال اسرائيلي ومحاولة القبض عليه لمحاكمته.

لقد انزعجت اسرائيل كثيرا من قرار القاضي البريطاني بالقبض على الجنرال الاسرائيلي المتقاعد دورون أموج للتحقيق معه في ارتكابه جرائم ضد الانسانية بصفته كان القائد العسكري الاسرائيلي الذي اصدر أوامره بهدم بيوت فلسطينية في قطاع غزة، وربما التحقيق معه في جرائم أخرى ارتكبها وهو قائد للمنطقة الجنوبية. لقد فر الجنرال من لندن، حيث بقي حبيس الطائرة في المطار بعد أن صعد اليها أحد رجال السفارة الاسرائيلية في لندن وأبلغه بأن الشرطة البريطانية مكلفة بالقبض عليه. وبقي حبيس الطائرة الى أن عادت ادراجها الى اسرائيل. بعد هذه الحادثة ألغى الجنرال الاسرائيلي ألون زيارة كان يعتزم القيام بها للندن لجمع تبرعات خوفا من القبض عليه، كما صدرت التعليمات للجنرالات الاسرائيليين الآخرين بعدم السفر الى الخارج.

جاء قرار القاضي البريطاني بالقبض على الجنرال أموج تنفيذا للقانون البريطاني الذي يعاقب كل من يرتكب جريمة من الجرائم التي حددتها اتفاقية جنيف الرابعة بخصوص معاملة المدنيين الخاضعين للاحتلال. وكما تعلم دول المنظمتين، فان الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية قد قرر أن اسرائيل ملزمة بهذه الاتفاقية وبنظام لاهاي السابق لها. وقد بدأت اسرائيل بالتحرك لحماية المتهمين الاسرائيليين من مواجهة القضاء في الدول الاطراف في هذه الاتفاقية، وهي فيما أظن جميع دول العالم، ومن بينها الدول العربية والاسلامية الاعضاء في المنظمتين.

وكذلك فإن دول جامعة الدول العربية ومنظمة الدول الاسلامية كانت من بين المائة وخمسين عضوا في الجمعية العامة للامم المتحدة التي صوتت في الجمعية العامة للامم التحدة، بعد صدور الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية بعدم شرعية الجدار الذي أقامته، وتقيمه، اسرائيل في الاراضي الفلسطينية المحتلة، لصالح الأخذ بالعلم بذلك الرأي، ومطالبة جميع الدول، وليس اسرائيل فقط، بالامتثال للقانون الدولي الانساني والقانون الدولي لحقوق الانسان، كما عبر عنه ذلك الرأي. أي أن الجمعية العامة أقرت بأن ذلك الرأي يعبر عن القانون الملزم لكافة الاعضاء. فما الذي قامت به دول المنظمتين تنفيذا لالتزامها الذي وافقت عليه بالتصويت لصالح القرار المذكور وفاء بتلك الالتزامات وبالتزاماتها بموجب اتفاقية جنيف الرابعة أولا، ولحمل اسرائيل على الامتثال له ثانيا؟

لقد كان الوضع قبل صدور الرأي الاستشاري دون سند قانوني من جهة قضائية عليا. أما الآن فقد تغير، بعد الرأي الاستشاري وقرار الجمعية العامة. لقد أصبح لدى الدول العربية والاسلامية أقوى سند للتحرك لفرض الشرعية الدولية على اسرائيل، دون أن تتهم بأنها تتحرك من منطلق سياسي فقط. ولذا فالمطلوب من دول المنظمتين أن تتحرك بحزم في جميع الاتجاهات لتفويت الفرصة على اسرائيل للنجاة من قبضة القضاء. إن اسرائيل ستحاول حمل الدول على تعديل قوانينها بحيث تسحب من اختصاص محاكمها محاكمة من ينتهكون اتفاقية جنيف الرابعة، التي هي أساس القانون الدولي الانساني. هذا تطور في غاية الخطورة على الانسانية، وليس على حقوق الشعب الفلسطيني فقط.

مطلوب من دول المنظمتين أن تعمل على عقد المؤتمر العام للدول الاطراف في اتفاقية جنيف الرابعة، هذا المؤتمر الذي سبق له في مناسبات عديدة أن ندد بانتهاكات اسرائيل لتلك الاتفاقية وطالبها بالكف عنها. والآن وبعد الرأي الاستشاري وقرار الجمعية العامة للامم المتحدة، وقرار القاضي البريطاني بالقبض على أموج، أصبح الباب مفتوحا أولا لدعم مواقف الدول التي تعاقب قوانينها على انتهاك تلك الاتفاقية، وثانيا للطلب من المؤتمر بفرض عقوبات على اسرائيل وفاء بالالتزام الذي نصت عليه المادة الثانية من أن الدول الاطراف تلتزم بضمان احترام الاتفاقية وليس فقط تنفيذها من جانبها.

وخطوة ثانية يجب القيام بها، وهي أن تعمل هذه الدول من خلال الجمعية العمومية للامم المتحدة لطلب رأي استشاري ثانٍ من محكمة العدل الدولية عن الآثار القانونية التي تترتب على عدم احترام اسرائيل للمبادئ القانونية التي نص عليها الرأي الاستشاري وثبتتها الجمعية العامة للامم المتحدة على أنها ملزمة كجزء من القانون الدولي الانساني والقانون الدولي لحقوق الانسان. لطلب هذا الرأي الثاني سوابق لدى الجمعية العامة للامم المتحدة، وكان الرأيان اللذان ابدتهما المحكمة جزءأ مهما من معركة تخليص ناميبيا من براثن جنوبي افريقيا العنصرية، ونيلها استقلالها.

وخطوة ثالثة وهي أن تنشط الدول العربية والاسلامية والسلطة الوطنية الفلسطينية بوجه خاص لدى جميع الدول للتأكيد على خطورة إضعاف القانون الدولي الانساني والقانون الدولي لحقوق الانسان مجاراة لدولة تنتهكهما كل يوم. هذا التحرك يجب أن يتم دون ابطاء أو تردد، اذ لا تستطيع دولة تحترم نفسها وتحاسب الغير على مخالفة هذين القانونين أن تستجيب لضغوط تتناقض تماما مع هذا التوجه العالمي. إن اتفاقية جنيف الرابعة هي من أهم مكاسب الانسانية، ولا يصح اجهاضها مراعاة لدولة تنتهكها كل يوم..

ولكي يكون موقف الدول العربية والاسلامية له مصداقيته، فانه يجب عليها أن تبدأ بنفسها، فتتوقف عن التعامل مع اسرائيل ما دامت لم تلتزم بتنفيذ الرأي الاستشاري وقرار الجمعية العامة للامم المتحدة التي شاركت هذه الدول في التصويت عليه.

تُرى هل ستتحرك الدول العربية والاسلامية أم إنها ستخشى استعمال سلاح القانون بعد أن أصبح بين يديها، وستظل تطالب باحترام الشرعية الدولية ولا تفعل شيئا لضمان هذا الاحترام؟ إن الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية وقرار الجمعية العامة للامم المتحدة بتبني المبادئ التي وردت فيه يمثل نقطة تحول في غاية الأهمية في مسيرة القانون الدولي ومسيرة القضية الفلسطينية بالذات، ويجب الاستفادة منه والتعويل عليه بصورة مستمرة وفي جميع المناسبات، وفي المفاوضات بالذات خاصة وأنه لا يجيز إضفاء الشرعية على ما هو ليس شرعيا.

معايير الحل التفاوضي لانهاء الاحتلال الاسرائيلي-2

معايير الحل التفاوضي لانهاء الاحتلال الاسرائيلي

ثانيا: مرجعية الحل التفاوضي

مقدمة

1 – أغفلت اتفاقية أوسلو وما تلاها من اتفاقيات المرجعية التي يُحتَكَمُ اليها في مفاوضات الحل النهائي أو عند حدوث خلاف حول تطبيق أو تفسير ما قد تم الاتفاق عليه، هذا فضلا عن الخطايا الأخرى الخطيرة التي ارتكبها المفاوض الفلسطيني، والتي ليس هذا هو مناسبة بحثها. ومع الأسف،فإنه لا يزال بعض من ساهموا في ابرام هذه الاتفاقيات في موقع المسئولية في النظام الفلسطيني. وانعدام المرجعية، عندما يكون مقترنا بنفسية الاستعداد للتنازل عن الحقوق الثابتة،أو التهاون بشأن بعضها، على أمل الوصول الى حل، يفتح المجال واسعا أمام الطرف الآخر لفرض الحلول التي يراها أكثر ملاءمة له. وهذا ما وقع بالفعل أيضاً مع اطراف عربية تفاوضت مع اسرائيل وأبرمت اتفاقيات سلام.

2 – وفي الجانب العربي الرسمي كان الحديث دائما عن مرجعية الأرض مقابل السلام، ثم اختفت هذه المرجعية من التصريحات العربية الرسمية وحل محلها ما سمي بالمبادرة العربية التي أقرها القادة العرب في مؤتمر قمة، أي على أعلى مستوى رسمي عربي. وعندما رفضتها اسرائيل، بدأ العَدُّ التنازلي للتخلي عنها، واختفت لجنة المتابعة التي كان من المفروض أن تُسَوِّقها دولياً، وأخذ عدد من كبار القادة العرب يتهربون علناً من الافصاح بتمسكهم بها في مؤتمراتهم الصحفية مع القادة الاسرائيليين، ويتحدثون فقط عن المفاوضات دون مرجعية محددة، مع أن الأنظمة العربية ربطت اعترافها بحكومة حماس بشروطٍ من بينها الاعتراف يالمبادرة العربية. وإذن فقد أسقط العرب أنفسهم المرجعية هذه، وبقيت فقط خارطة الطريق التي أقرها مجلس الأمن والتي نصت على قيام دولتين فلسطينية واسرائيلية، وتحفظت اسرائيل عليها بأربعة عشر تحفظاً أفقدتها دورها في أي حل تفاوضي كمرجعية، وسيكون مصيرها الموت البطيء، كمصير قرارات مجلس الأمن الأخرى، ليحل محلها الحل أحادي الجانب الذي تعمل اسرائيل جاهدة وبانتظام لفرضه.

فتوى محكمة العدل الدولية كمرجعية

3 – غير أنه من حسن الحظ أنْ جاءت فتوى محكمة العدل الدولية، التي صدرت في التاسع من يوليو 2004 في موضوع الجدار الذي أقامته وتقيمه اسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فحسمت المرجعية لأي حل تفاوضي بعبارات محددة لا غموض فيها ولا محل للمناورة عليها. وهذه المرجعية هي مبادئ وقواعد القانون الدولي والقانون الدولي الانساني كما أعلنتها المحكمة في فتواها. أي أن المحكمة لم تقتصر على القول بأن مبادئ وقواعد هذين النظامين القانونيين هي المرجعية، وانما زادت الموضوع دقة وتحديدا بأن هذه المبادئ والقواعد هي تلك التي أوردتها المحكمة في فتواها، فأزالت بذلك الغموض واحتمال تضارب الاراء. ومع أن كل الدلائل تشير الى إهمال عربي لهذه الفتوى، ولا نريد أن نقول أكثر من هذا، الا أننا سنوجز هذه المبادئ والقواعد ولو لفائدة من يتحدثون عن الشرعية الدولية لايضاح المقصود منها كما اعتمدتها محكمة العدل الدولية والجمعية العامة للامم المتحدة في قرارها الذي اعتمد فتوى المحكمة. فما هي هذه المبادئ والقواعد التي اعتمدتها المحكمة واعتبرتها ملزمة للجميع؟

أولا : مبدأ الحق في تقرير المصير لجميع الشعوب، لا سيما تلك الخاضعة للاستعمار أو السيطرة الاجنبية، وهو، في نظر المحكمة، مبدأ عام من مبادئ القانون الدولي والقانون الدولي الانساني، ولأنه مبدأ عام، فإنه يتعين على الجميع احترامه . وأعلنت المحكمة أن هذا الحق هو من حقوق الشعب الفلسطيني، وأن وجود هذا الشعب كشعب لم يعد محل تساؤل أو جدل، وأن اسرائيل قد انتهكت هذا الحق، وعليها احترامه.

ثانياً: مبدأ عدم جواز الاستيلاء على أراض الغير بالقوة. وبإعلان المحكمة لهذا المبدأ العام وبإشارتها في هذا الشأن الى وروده في القرار رقم 242، فإن المحكمة تكون قد حسمت جدلا أثارته اسرائيل حول النص الانكليزي لهذا القرار والذي وردت فيه عبارة “اراض محتلة” وليس “الاراضي المحتلة” كما جاء في النص الافرنسي. فالعبرة ليس في هذه الكلمات ولا في استعمال أو عدم استعمال أداة التعريف. وانما العبرة بالمبدأ، وهذا المبدأ لا يجيز الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة. وبناء على هذا فإن تطبيق هذا المبدأ في اطار القرار رقم 242 لا يعني سوى الانسحاب من جميع الاراضي التي احتلت في حرب عام 1967، وهذه الاراضي في رأي المحكمة (والجمعية العامة للامم المتحدة) هي الواقعة الى شرق ما يُعرف بالخط الأخضر، وهو الخط الذي حددته الهدنة الدائمة ما بين الاردن واسرائيل عام 1949. فحسمت المحكمة بذلك أن هذه الاراضي، بما فيها القدس الشرقية وما حولها، هي أراض محتلة، وحسمت أنها ليست متنازعا عليها، كما ادعت اسرائيل، وكما جاء في اتفاقية أوسلو نتيجة لجهل المفاوض الفلسطيني وتهاونه.

ثالثاً: حسمت المحكمة وضع القدس الشرقية وما حولها من القرى والاراضي، فقضت بأنها جميعها أرض محتلة، مؤيدة بذلك قرارات مجلس الأمن بعدم شرعية ضمها أو تغيير معالمها الجغرافية أو السكانية، وذلك تطبيقا لمبدأ عدم جواز الاستيلاء على أرض الغير بالقوة والمبادئ التي أرستها اتفاقية جنيف الرابعة الملزمة للجميع حول عدم حق دولة الاحتلال في احداث تغييرات في أوضاع البلد الذي يخضع للاحتلال.

رابعاً: وحيث أنه ترتب على النزاع المسلح عام 1967 وجود احتلال للاراضي الفلسطينية، بما فيها القدس الشرقية وما حولها، فقد قضت المحكمة بأن اسرائيل، وهي طرف في اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 الخاصة بحماية المدنيين زمن الحرب، ملزمة باحترام أحكام تلك الاتفاقية، ومن بينها ذلك الحكم الذي يحظر على دولة الاحتلال نقل مواطنيها للاستيطان في الاراضي المحتلة، وبالتالي قررت المحكمة بالإجماع، نتيجة لانضمام القاضي الامريكي لها في رأيه الانفرادي، أن المستوطنات التي أقامتها اسرائيل في الاراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية وما حولها، هي مخالفات جسيمة لتلك الاتفاقية، مستندة في جزء من قضائها في هذا الخصوص على أحكام محكمة نيونمبرج في قضية الزعماء النازيين الذين أدينوا جزائيا لارتكابهم مخالفات مماثلة باقامة مستوطنات المانية في اراض احتلتها ألمانيا في الحرب العالمية الثانية. أي أن عدم شرعية اقامة المستوطنات هو مبدأ عام من مبادئ القانون الدولي الانساني أقرته المحكمة بإجماع القضاة، وهو ما لم يحدث في تاريخ المحكمة من قبل.

خامسا: قضت المحكمة بأن قانون حقوق الانسان قانون عام التطبيق تلتزم الدول باحترامه ليس فقط بالنسبة لمواطنيها، كما ادعت اسرائيل، وانما ايضا بالنسبة لجميع من يقعون ضمن اختصاصها، ولذا فهو واجب الاحترام بالنسبة للفلسطينيين الخاضعين للاحتلال الاسرائيلي.

سادساً: أعلنت المحكمة أن مبدأ التعويض عن الفعل الضار هو مبدأ عام من مبادئ القانون الدولي، وبالتالي قضت، فيما يتعلق بالجدار، بأنه يجب تعويض الفلسطينيين الذين تضرروا من اقامته، وهذا المبدأ، لكونه مبدأً عاماً، يطبق بالنسبة لجميع الاضرار التي لحقت بالفلسطينيين، سواء كانوا اشخاصا طبيعيين أو معنويين، نتيجة لتصرفات اسرائيل اللاشرعية في الاراضي الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس الشرقية وما حولها.

سابعا: إن الأمر الواقع لا يضفي شرعية على ما هو غير شرعي، ولا يعتبر مؤقتا ما دامت خصائصه والأهداف من ورائه تدل على دوامه. واستنادا الى هذا رفضت المحكمة الدفع الاسرائيلي بأن الجدار صار أمرا واقعا وأنه ذو صفة مؤقتة. واستندت المحكمة الى طبيعة الجدار التي لا تنبئ بأنه مؤقت أو أن مقتضيات الدفاع عن النفس تبرره.

ثامناً: إن مقتضيات الأمن بما فيها ما يسمى بحق الدفاع عن النفس تخضع لمعايير حددها القانون الدولي وميثاق الامم المتحدة، وأن بناء الجدار، الذي هو أصلا غير شرعي وتجب ازالته وفقا لقرار المحكمة، لا يستوفي هذه المعايير، فضلا عن أنه أسلوب لضم اراض فلسطينية بصورة غير شرعية وينتهك الحقوق الانسانية للشعب الفلسطيني وحقه في تقرير مصيره.

4 – هذه هي أهم المبادئ والقواعد التي قضت محكمة العدل الدولية بوجوب الالتزام بها في أي حل تفاوضي للمشاكل العالقة. ومؤدى هذا كله أن ما هو غير شرعي لا يكتسب شرعية بوجوده، وأنه يجب أن يُزال. وغني عن القول أن المحكمة لم يكن مطروحا عليها مشروعية قرار التقسيم وحق العودة. غير أننا نلاحظ أنه ما دامت المحكمة قد قضت بأن اسرائيل، والمجتمع الدولي، ملزمان باحترام اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، فانها تكون قد قضت ضمنا بحق اللاجئين في العودة، حيث أن تلك الاتفاقية قد نصت صراحة على حماية هذا الحق، وعلى التزام أطراف الاتفاقية به حتى ولو انسحبوا من الاتفاقية. ومعنى هذا أنه حق لا يزول ولا ينقضي. كما نلاحظ أن اتفاقية جنيف هذه كانت سابقة على قرار الجمعية العامة بشأن عودة اللاجئين الفلسطينيين، ومؤدى هذا أن حق العودة هو من الحقوق الثابتة في القانون الدولي الانساني قبل صدور قرار الجمعية العامة وأن هذا القرار لم يكن سوى تطبيق لهذا القانون.

5 – إن اسرائيل تعرف طبعا ما قررته المحكمة من مبادئ وقواعد تحكم الحل التفاوضي، وتدرك أن الالتزام بها سيؤدي الى تقويض كل ما أقامته في الاراضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك القدس الشرقية وما حولها. وهي تعرف كذلك أن المجتمع الدولي قد اعترف بهذه القواعد والمبادئ وذلك بالتصويت عليها في الجمعية العامة للامم المتحدة بأغلبية ساحقة لم يعارضها من الدول ذات الشأن سوى الولايات المتحدة الامريكية. وحتى الولايات المتحدة فانها ستجد نفسها في موقف حرج اذا هي مارست حق النقض ضد قرار يرتكز على هذه المبادئ والقواعد.

المخرج الاسرائيلي

6 – والمخرج الذي ولا شك تبنته اسرائيل هو العمل على تجاهل فتوى محكمة العدل الدولية وتعطيل أية محاولة لتفعيلها، والتركيز، بدلا من ذلك، على التمسك بالمفاوضات، دون الدخول فيها أو الوصول الى نتيجة، بافتعال شتى الادعاءات والحجج للمماطلة، كالادعاء الحالي بعدم وجود شريك فلسطيني تتفاوض معه، وكأن من حق اسرائيل أن تقرر من يمثل الفلسطينيين في المفاوضات. ولا يهم اطلاقا أن الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات كان شريكا مقبولا في مفاوضات أوسلو وما تلاها من مفاوضات، كما لا يهم أن من خلفه بعد وفاته، الرئيس الحالي محمود عباس ورئيس الوزراء الأسبق أحمد قريع، كانا مهندسي اتفاقية أوسلو، وأن الرئيس الحالي، حتى بعد مجيئ حماس للحكومة، قد عمل على استرداد اختصاصات كان يعترض على أن تكون للرئيس عندما كان رئيسا للوزراء أيام الرئيس الراحل واستقال بسبب الخلاف على هذه الاختصاصات، ولا يهم أن اسرائيل نفسها وأمريكا والاتحاد الاوروبي قد قررت دعمه والتعامل معه، ولا يهم أنه والبقية الباقية من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية التي وافقت على اتفاقيات أوسلو وما بعدها، يتمسكون بأن المفاوضات هي من حقهم. كل هذا لم يجعل اسرائيل تقرر أنه يوجد شريك للمفاوضات، والسبب هو أن المخطط الاسرائيلي ما زال لم يكتمل.

7 – والذريعة الاسرائيلية الثانية للمماطلة هي الاصرارعلى وقف المقاومة الفلسطينية للاحتلال قبل الخوض في مفاوضات. وهذه ذريعة هدفها المماطلة لا غير. ومما يؤكد ذلك أن المقاومة الفلسطينية المسلحة توقفت أكثر من سنة، ومع ذلك لم تبادر اسرائيل للدخول في مفاوضات، كما أن وقف العمليات العسكرية لم يكن يوما من الايام شرطا لبدء المفاوضات لانهاء النزاع.. كما أنه ليس مقبولا على الاطلاق أن تواصل اسرائيل انتهاك الحقوق الفلسطينية يوميا، ويقف الفلسطينيون مكتوفي الايدي في انتظار انتهاكات جديدة.

8 – نخلص من هذا الى القول بأن الدعوة الى المفاوضات ليست دعوة صادرة عن حسن نية، وانما هدفها الحقيقي هو تأجيل الدخول فيها الى أن تنهي أسرائيل تنفيذ مخطاتها على الأرض، وخاصة إقامة الجدار وفقا لمخططاتها، ومواجهة الطرف الفلسطيني بالواقع الجديد الذي يحقق لاسرائيل كل ما تريد وهو الاستيلاء الفعلي وبصورة دائمة على فلسطين كلها، واحتجاز الفلسطينيين داخل سجن كبير يحيط به جدار حصين شاهق من كل جانب، لا يُرون ولا يَرون من ورائه، يصول فيه المستوطنون والاسرائيليون ويجولون كما يشاؤون، فضلا عن تجزئة الداخل الى قطاعات منفصلة لا يتلاقى سكانها الا بموافقة السجان الاسرائيلي عبر الحواجز، ولا يستطيعون الاتصال بالعالم الخارجي أو يتصل هو بهم الا عبر بوابات يسيطر عليها هذا السجان. أي أن اسرائيل لن تدخل المفاوضات الا بعد أن تستكمل مخططها في التحكم الكامل في حياة الفلسطينيين باجراءات ثابتة على الارض، وتصبح المفاوضات محصورة في الخدمات الانسانية التي يمكن أن تقدم للفلسطينيين، كما هو الحال الآن في قطاع غزة، كفتح المعابر في أوقات معينة للسماح للادوية والمواد الغذائية بالدخول، وستقفل هذه المعابر، كما تقفل الآن في غزة، في كل لحظة يتذمر فيها الفلسطينيون، ولكنها ستكون دائما مفتوحة أمام من يُرْغَمُ على الهجرة للتخلص من السجن الكبير، أو لأن مستوطنين استولوا على بيته أو أرضه، أو لأنه لا يجد مجالا للرزق، أو لغير ذلك من الاسباب التي تتفنن اسرائيل والمستوطنون في ابتكارها. وللفلسطينيين أن يقيموا دولتهم في هذا السجن، ولكن اذا بدرت منهم بادرة تمرد فإن العصا الغليظة ستنزل بهم بذريعة الدفاع عن النفس من اعتداءات “الدولة الفلسطينية”. وطبعا ستدعي اسرائيل في المفاوضات، خلافا لما قضت به محكمة العدل الدولية، أن اجراءاتها هذه هي اجراءات مؤقتة، هدفها الوحيد الدفاع عن الأمن الاسرائيلي، وهو مبرر سبق لدول عربية أن قبلته مع أنه انتقص من سيادتها على اراضيها، فلماذا لا يقبله الفلسطينيون خاصة وأنه ستكون لهم دولة قد أقيمت فوق ترابهم الوطني؟ فاذا رفض الفلسطينيون هذا العرض الاسرائيلي فإن اسرائيل ستعلن عندئذ أنها أوفت بما عليها في خارطة الطريق من اقامة دولة فلسطينية الى جانب دولة اسرائيل، وأنها ستسحب قواتها من أراضي هذه “الدولة”، منهية بذلك احتلالها للاراضي الفلسطينية. وستجد من يؤيدها في ذلك، ليس من الدول الاجنبية فقط.

9 – هذا هو المخطط الاسرائيلي والهدف الاساسي من اقامة الجدار وملحقاته والسبب الحقيقي وراء المماطلة في اجراء مفاوضات، مع التمسك بها في الظاهر. والمطلوب هو إفشال هذا المخطط الذي قاربت حلقاته على الاكتمال. ومن أهم أدوات المقاومة له هوتفعيل فتوى محكمة العدل الدولية بقوة، كسلاح من أسلحة المعركة، تماما كما فعلت الدول الافريقية عندما فَعَّلَت فتوى مماثلة لصالح ما أصبح يعرف بناميبيا ضد جنوبي افريقيا العنصرية في ذلك الحين، ونجحت في فرض عقوبات ومقاطعة على جنوبي افريقيا، كما نجحت بالمثابرة والعمل الدؤوب في انتزاع استقلال ناميبيا بعد أحد عشر عاما من صدور تلك الفتوى، وكان ذلك كله بالعمل من خلال الجمعية العامة للامم المتحدة. والمفروض أن الدول العربية والاسلامية أقوى تأثيرا في الجمعية العامة للامم المتحدة مما كانت عليه الدول الافريقية. ونود أن نُذَكِّر بأن المحكمة قد فسرت ميثاق الامم المتحدة في قضية الجدار تفسيرا يعطي للجمعية العامة سلطة واسعة في التأثير لحل القضية حلا يتفق والمبادئ والقواعد التي أرستها . وبموجب هذا التفسير فإن سلطة الجمعية العامة في اتخاذ القرارات لضمان السلم والأمن الدوليين هي كسلطة مجلس الأمن، وأن كون الموضوع مطروحا على مجلس الأمن لا يمنع الجمعية العامة من النظر فيه في نفس الوقت واتخاذ ما تراه من اجراءات. وفي الجمعية العامة لا يملك أحد حق الفيتو.

10- واخيرا لا مفر من تكرار القول بأن التهاون الرسمي العربي هو المسئول الأول والأخير عن ضياع الحقوق العربية. ويقيناً لو أن حكامنا الأشاوس تجرأوا مرة واحدة وفي هذه اللحظة الحاسمة في تاريخ الصراع العربي الاسرائيلي، على توحيد كلمتهم بالاصرار على تنفيذ فتوى محكمة العدل الدولية، ونشطوا في ذلك والتزموا به، فان مجرى الاحداث سيتغير، دون أن يتحرك جندي عربي من ثكنته. أما سياسة التطبيع والمجاملة والتضييق على الفلسطينيين أو الضغط عليهم على أمل أن ترتدع اسرائيل ومَنْ يساندها، فقد ثبت بالواقع المعاش أنها تؤدي الى نتيجة عكسية وتزيد في تأجيج المطامع الاسرائيلية. وندعو السلطة الوطنية الفلسطينية، رئيسا وحكومة وفصائل ومنظمات حقوق انسان، الى التنبه لهذا المخطط الاسرائيلي والى ضم الصفوف والتوقف عن المهاترات حول السلطة والاختصاصات، والتوجه بكل الجهود للعمل على إفشال هذا المخطط الخطير، وبسلاح الشرعية الدولية في أعلى وأوضح صورها، وهو حكم محكمة العدل الدولية. كما ندعو الأمين العام لجامعة الدول العربية، وهو الرجل القانوني البارع، والذي شارك بممثليه أمام المحكمة في الوصول الى هذه النتيجة، أن يضاعف من تحركاته في هذا الاتجاه نفسه، الذي يجب الا يُحرج أية دولة من دول الجامعة، حيث أن الفتوى مُلزمة لجميع الدول، بما فيها دول الجامعة العربية.

معايير الحل التفاوضي لانهاء الاحتلال الاسرائيلي-1

معايير الحل التفاوضي لانهاء الاحتلال الاسرائيلي

أولاً: تبادل الاسرى

1 – يصادف التاسع من هذا الشهر الذكرى السنوية الثانية لصدور فتوى محكمة العدل الدولية في قضية الجدار الذي أقامته وتقيمه اسرائيل في الاراضي الفلسطينية المحتلة، تلك الفتوى التي حددت المبادئ والقواعد التي تحكم النزاع الحالي وفقا للقانون الدولي والقانون الدولي الانساني. وقد قضت المحكمة بأن الحل التفاوضي يجب أن يلتزم بهذه القواعد والمبادئ التي أعلنتها. وسنحاول في هذه العجالة وما يليها من أبحاث أن نطبق المبادئ والقواعد التي حددتها المحكمة على عدد من جوانب النزاع مبتدئين بالنزاع الحالي حول مصير الجندي الاسرائيلي الأسير.

2 – بداية نترحم على أرواح الشهداء الذين يقعوا ضحية لعدوان غاشم متواصل، ونحيي صمود أهلنا الاسطوري في وجه الحصار الظالم الذي فُرِضَ عليه لا لشيئ الا لأنه طبق الديموقراطية التي تتبجح أمريكا بأنها تخوض الحروب لنشرها بين الشعوب، وتتباهى اسرائيل بأنها هي الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي تطبقها. والغريب في هذا الحصار هو أن سببه المعلن هو رفض حماس الاعتراف باسرائيل أو بحقها في الوجود في الوطن الفلسطيني، في حين أن دول العالم، بما فيها الدول العربية التي تعترف باسرائيل وتتعامل معها، ترضى بنتائج الانتخابات الاسرائيلية، ولا تشترط للاعتراف بالحكومة التي تشكل بعدها أن تعترف هذه الحكومة بحقوق الشعب الفلسطيني. وكل ما تشير اليه هذه الدول هو التفاوضن وكأن حقوق الشعب الفلسطيني الثابتة حقوق تخضع للتفاوض أو لارادة دولة الاحتلال. هذا وضع في غاية الغرابة تشارك فيه دول عربية وللاسف.

3 – الجندي الاسرائيلي الأسير هو أسير حرب، أُسِرَ في معركة، وليس مدنيا اختطف من منزله أو من الشارع، كما تختطف اسرائيل الفلسطينيين من نساء وأطفال وشباب. ومع ذلك فأن الدنيا قامت ولم تقعد من أجل اطلاق سراح هذا الأسير، الذي من حق المقاومة، وفقا للقانون الدولي، الاحتفاظ به في الأسر الى أن يقع تبادل للأسرى. لم تدع اسرائيل أو غيرها أن أسره ينتهك القانون الدولي أو أي قانون آخر، في حين أن آلالاف العشرة الذين اعتقلتهم وتحتجزهم اسرائيل قد جرى اعتقالهم واحتجازهم بالمخالفة للقانون الدولي والقانون الدولي الانساني، فهم لم يعتقلوا في ميدان المعركة، ويجري احتجازهم بالمخالفة لهذين النظامين القانونيين، ويجب الافراج عنهم دون شروط. إن الاعتداء على حريتهم الشخصية وانتهاك بقية حقوقهم هو اعتداء على هذين النظامين اللذين أعلنت محكمة العدل الدولية بصراحة ووضوح أن اسرائيل ملزمة باحترامهما. إن الالتزام الواجب على المقاومة الفلسطينية هو الحفاظ على حياته وتقديم الخدمات الطبية له اذا كان في حاجة اليها، ومعاملته معاملة انسانية، بغض النظر عن معاملة اسرائيل للمعتقلين الفلسطينيين والعرب. هذا هو الموقف القانوني السليم الذي يتمشى مع التزامات الجانبين وفقا للقانون الدولي والقانون الدولي الانساني. المعتقلون الفلسطينيون والعرب يجب اطلاق سراحهم دون قيد أو شرط، في حين أن الأسير الاسرائيلي يجري اطلاق سراحه عند انتهاء النزاع المسلح أو وفقا لمفاوضات تجري قبل ذلك وبمراعاة الشروط التي يشترطها الجانب الفلسطيني.

4 – نقلت وكالات الأنباء أن الوساطة المصرية ربما تكون قد توصلت الى اتفاق يقضي بأن تقوم المقاومة أولا باطلاق سراح الجندي الاسير، ثم تقرر اسرائيل من ترى الإفراج عنه من المعتقلين الفلسطينيين فضلا عن اطلاق سراح النساء والأطفال. ويبدو أن الرئيس الفلسطيني راض عن هذه “الصفقة”. فاذا صحت الانباء هذه، فان هذه الصفقة هي في غاية الغرابة. فمن العجيب أن يتم الافراج عن الأسير أولا، مع أن اسره لا يخالف القانون في شيئ، في حين يَُترَكُ اطلاق سراح المعتقلين الفلسطينيين خاضعا لارادة دولة الاحتلال، مع أن اعتقالهم واحتجازهم هو أصلا مخالف للقانون . فاذا كان هناك من أولويات، فالأولوية هي انهاء الوضع غير الشرعي لا تأخيره وتركه معلقا، وذلك بالافراج عن المعتقلين الفلسطينيين أولا، هذا فضلا عن أن التجربة مع اسرائيل هي أنها لا تلتزم بما توافق أو توقع عليه، وانما تتصرف حسب رأيها بغض النظر عن أي اتفاق سابق، ولو كان مضمونا من وسيط.

5 – وفتوى محكمة العدل الدولية التي قررت مبادئ وقواعد القانون الدولي والقانون الدولي الانساني وأعلنت أنها ملزمة للفلسطينيين والاسرائيليين على حد سواء، أعلنت أيضا أنها ملزمة للدول الأخرى. وحذرت هذه الدول من تقديم العون أو المساعدة لاسرائيل لمواصلة انتهاكاتها لتلك المبادئ والقواعد. هذا الالتزام الذي قررته المحكمة.

6 – وتناقلت وكالات الأنباء أن هناك شرطا آخر تشترطه اسرائيل، وهو أن تتوقف المقاومة الفلسطينية عن اطلاق صواريخ القسام على أهداف اسرائيلية. إن هذا الشرط أحادي الجانب، واذا أصرت عليه اسرائيل، ويبدو أنها ستصر عليه لأن الصواريخ هذه، على بدائيتها، يبدو أنها مقلقة لدرجة أنها بدأت ابحاثها العلمية للوصول الى صواريخ تعترضها قبل أن تتفجر، نقول اذا أصرت اسرائيل على هذا الشرط فيجب أن يكون له مقابل من نوعه، ويجب ألا يقدم مجانا. فاذا أصرت اسرائيل على حماية نفسها ومواطنيها ومنشآتها من هذه الصواريخ، فإن من حق الفلسطينيين أن يصروا على حماية أرضهم وحقوقهم ومواطنيهم من الانتهاكات الاسرائيلية، وعلى اسرائيل في المقابل أن تتوقف عن هذه الانتهاكات. فانتهاك هذه الحقوق هو السبب الذي يؤدي الى اطلاق الصواريخ. ومعنى هذا أن على اسرائيل أن تلتزم باحترام هذه الحقوق، وهذا الالتزام يتحقق بتنفيذ الالتزامات التي حددتها المحكمة. فلا يجوز لاسرائيل أن تواصل بناء الجدار مثلا في حين أن المحكمة قضت بوجوب ازالته وتعويض من تضرروا بسببه، ويجب عليها اعادة الأوضاع الى ما كانت عليه في القدس حيث أن المحكمة قضت بأن هذه الاوضاع غير شرعية. وهكذا، أي أنه لا يجوز فرض قيود على المقاومة في حين يستمر الاحتلال في ممارسة مخالفاته للقانون الدولي والقانون الدولي الانساني وتستمر الآثار غير الشرعية المترتبة على هذه المخالفات قائمة، ولا يصح اطلاقاً تجريد شعب محتل حتى من وسائله البدائية للدفاع عن نفسه، في حين تبقى دولة الاحتلال مدججة بأسلحة دمار شامل لا تتردد في استخدامها بكثافة حتى ضد أهداف مدنية حيوية كمحطات توليد الكهرباء ولقطع مياه الشرب، ولا يردعها عن ذلك أنظمة عربية أو مجتمع دولي أو مجلس الأمن ولا النداءات الخجولة لضبط النفس.

7 – وغني عن القول، وهذا ما تخشاه اسرائيل، أنه من حق المقاومة الفلسطينية أن تأسر الجنود الاسرائيليين اذا واصلت اسرائيل انتهاكاتها. هذا حق معترف به دوليا، في حالات النزاع المسلح، وبالتالي فإن من حقها أن تأسر جنودا آخرين، وأن تستعملهم أداة ضغط على اسرائيل للافراج عن من لا يفرج عنهم، ولحمل اسرائيل على التوقف عن الاعتقالات والانتهاكات التي ترتكبها يوميا، اذ أن هذا قد يكون رادعا لها عن ارتكاب هذه الانتهاكات للقانون الدولي والقانون الدولي الانساني في حالة العجز أو التعاجز التي نشهدها ممن بيدهم التاثير. المعلقون الاسرائيليون بدأوا يتحدثون في هذا الشأن ويحسبون له حسابا، بعد أن أثبتت المقاومة الفلسطينية قدرتها على اقتحام المواقع العسكرية الاسرائيلية وأسر الجنود من هذه المواقع.

8 – قد يستغرب البعض، وخاصة دعاة الواقعية، هذا التمسك من جانبنا بالشرعية الدولية كما حددتها أعلى جهة قضائية دولية وباجماع لم تعهده في تاريخها. وردنا على هذا هو أن المحكمة نفسها رفضت الاعتراف بالامر الواقع مُبَرِّرًا للإبقاء على المخالفة. لقد ادعت اسرائيل أن الجدار إجراء مؤقت فرضته مقتضيات الأمن، ورفضت المحكمة هذا الادعاء كله، واعتبرت أن الواقع المادي على الأرض يدل على أن الجدار ليس اجراء وقتيا، حتى لو صح أنه ضروري لمقتضيات الأمن، وهو ما قضت المحكمة بخلافه، ولهذا قضت المحكمة بوجوب ازالته. فلا يجوز اعطاء الشرعية لما هو غير شرعي بحجة الواقعية. وهذه الواقعية التي يدعيها البعض كانت من بين الاسباب التي أدت الى التفريط ببعض الحقوق الاساسية، والتهاون في البعض الآخر، والهرولة العربية الرسمية للتطبيع والتخلي الفعلي عن دعم الشعب الفلسطيني في مقاومته للاحتلال، ناهيك عن الحصار العربي الرسمي المفروض عليه، خاصة من دول الطوق. والغريب في الأمر أن هؤلاء لا يتمسكون بالأمر الواقع بالنسبة للوجود الفلسطيني والحقوق الفلسطينية، في حين يبادرون لقبول أمر واقع مستحدث لا سند له سوى الرغبة في اختلاس المزيد من الحقوق الفلسطينية وتغيير الواقع الفلسطيني ومحاولة احلال واقع اسرائيلي محله.

9 – إن فتوى محكمة العدل الدولية من أقوى الأسلحة في يد القضية الفلسطينية. ومع الأسف فإن السلطة الوطنية الفلسطينية، سواء كانت الرئاسة، أو الحكومة لم تعرها ما تستحقه من اهتمام، كما أن الدول العربية تجاهلتها تماما واستمرت في علاقاتها مع اسرائيل وكأن هذه الفتوى لم تصدر. ولعل السبب في ذلك هو الاستخفاف بالقانون من جانب الأنظمة العربية بوجه عام، أو التخوف من الغضب الامريكي والاسرائيلي من تفعيل هذه الفتوى وما تضمنته من مبادئ وقواعد. ولكننا نأمل في أن توجد حكومة فلسطينية تكون لديها الشجاعة لمواجهة الدول العربية والاسلامية أولا والمجتمع الدولي ثانيا والامم المتحدة ثالثا بمسئولياتها وفقا لما قررته المحكمة، وهي مسئوليات تجعلها شريكة فيما ترتكبه اسرائيل من جرائم اذا هي لم تَفِ بها..

رئيس أركان اسرائيلي يُطارَدُ في نيوزيلندا

رئيس أركان اسرائيلي يُطارَدُ في نيوزيلندا

وصلت سلسلة ملاحقة مجرمي الحرب الاسرائيليين مناطق توهموا أنها آمنة لبعدها عن الأنظار والأحداث، وكانت المحطة الأخيرة في نيوزيلندا. ففي 28 من نوفمبر 2006، أي قبل أيام ، نجا رئيس أركان الجيش الاسرائيلي السابق، موشي يالون، من الاعتقال بالرغم من صدور قرار في اليوم السابق من القاضي النيوزيلندي أفيناش ديوبهاكتا Avinash Deobhakta بالقبض عليه للتحقيق معه بتهمة ارتكاب مخالفات جسيمة لاتفاقية جنيف الرابعة ضد فلسطينيين. وقد ساعد على تسهيل فراره تدخلٌ من نائب رئيس الوزراء النائب العام مايكل كولين Michael Cullen الذي أوقف تنفيذ أمر القبض بشكل نهائي، وأتاح بذلك الفرصة ليالون للفرار من البلاد قبل الطعن في قرار النائب العام. والجنرال يالون رئيس أركان الجيش الاسرائيلي قي الفترة ما بين 9 يوليو 2002 وأول يونيو 2005، وتحت قيادته ارتكب الجيش الاسرائيلي العديد من الافعال التي قد تطالها اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين، بحيث، اذا ثبتت، تُعتَبَرُ جرائم ضد الانسانية يُعاقَبُ عليها وفقا للقانون الدولي الانساني .

وقد أثار قرار النائب العام، الذي لم يكن من رجال القانون، زوبعة من الانتقادات، حيث اعتبر قراره تدخلا سافرا في سير العدالة، وبدأت التساؤلات حول مدى اختصاصه قانونا في اتخاذ قرار كهذا وتنصيب نفسه جهة قضائية تراجع أحكام القضاء وتعطلها. وما زالت المعركة دائرة حول هذا الموضوع، مع العلم بأن القاضي الذي نظر في الطلب قد درس الأدلة وقرر أن هناك “اسبابا جدية وكافية” تبرر أصدار أمر القبض، في حين رأى النائب العام، عندما أعلن فيما بعد أسباب ايقاف تنفيذ أمر القبض، أن البينات التي قدمها المحامون ” كان لا يصح الاعتماد عليها”، وبناء على ذلك اتخذ قراره، متجاوزا بذلك، في نظر الكثيرين من رجال القانون، اختصاصاته ومعتديا على سيادة القانون.

وليست هذه هي المرة الاولى التي يفلت فيها جنرالات اسرائيليون من الملاحقة القضائية. فقد نجا من تلك الملاحقة جنرال آخر بقي محجوزا في طائرة العال الاسرائيلية في مطار لندن حتى لا يستلم أمر القبض عليه، وبعد ذلك صدرت تعليمات المستشار القانوني للجيش الاسرائيلي للقادة العسكريين بعدم السفر الى لندن، وبالفعل ألغى عدد منهم زيارات كانت مقررة اما لجمع التبرعات لصالح الجيش الاسرائيلي واما للالتحاق بالمعاهد العسكرية العليا في بريطانيا.

من الواضح أن هناك تآمرا على العدالة في البلدان التي نجا فيها هؤلاء من الملاحقة، كما أنه من الواضح أيضا أن القضاء يمارس اختصاصه القضائي بعيدا عن أية اعتبارات سياسية. وهذا يقلق المسئولين الاسرائيليين لدرجة كبيرة. فما دام القضاء في منأى عن المؤثرات السياسية فان الخطر يظل قائما وتبقى امكانية ملاحقة مجرمي الحرب الاسرائيليين ماثلة في جميع الدول الاطراف في اتفاقية جنيف الرابعة، وهي جميع دول العالم. وهذه المحاولة الأخيرة في نيو زيلندا تزيد من إحكام الحصار على تحركات القادة العسكريين الاسرائيليين (والساسة أيضا) بحيث أصبحوا لا يعرفون أين ينتظرهم احتمال صدور أوامر قضائية بالقبض عليهم لمحاسبتهم على جرائمهم.

البلدان الوحيدة التي يستطيعون حتى الآن زيارتها وهم مطمئنون هي مع الأسف الشديد تلك الدول العربية التي تقيم مع اسرائيل علاقات رسمية أو شبه رسمية، وكأنما بريطانيا أو نيوزيلندا أو كندا أو أمريكا، حيث يُلاحَقُ المجرمون الاسرائيليون، لا تقيم مع اسرائيل علاقات رسمية قوية، فجميع هذه الدول ينظر قضاؤها في انتهاكات اسرائيل لاتفاقية جنيف الرابعة ومخالفتها للقانون الدولي الانساني، والدول العربية جميعا أطراف في هذه الاتفاقية ويملك قضاؤها اختصاصا في ملاحقة من ينتهكون أحكامها. وباستثناء حالة نيوزيلندا الاخيرة هذه، فان السلطات التنفيذية لم تتدخل لاحباط أوامر القضاء، وانما استطاع الجنرالات الاسرائيليون الفرار خلسة، أوتجنبوا الحضور بعد أن بلغتهم أخبار صدور قرارات القبض والملاحقة، أو تجنبوا الحضور كلية خوفا من أن تكون قرارات في انتظارهم. ولا شك في أن النائب العام النيوزيلندي سيحاسب حسابا عسيرا على تدخله.

ان هذا الحصار العالمي الذي أصبح يشتد يوما بعد يوم على مجرمي الحرب الاسرائيليين قد جاء نتيجة لجهد واع متواصل تقوم به منظمة فلسطينية من منظمات المجتمع المدني، وهي مركز حقوق الانسان في غزة، بقيادة القانوني الفلسطيني المتميز راجي الصوراني، وشبكة دولية من المحامين الاجانب، ومن بينهم عدد من المحامين اليهود الشرفاء، أخذت على عاتقها هذه المهمة الانسانية الصعبة، بالرغم مما تجلبه لهم من متاعب وتتسبب لهم من مشاكل. ومع ذلك فانهم لا يتلقون دعما عربيا، رسميا أو شعبيا، الا من القليل. ولو أنهم وجدوا هذا الدعم لاستطاعوا تطوير العمل وتكثيف النشاط القانوني على نطاق أوسع بحيث يدخل القانون المعركة بصورة جدية بعد أن تعذر خوضه للمعركة بالطرق المألوفة في مثل هذه الحالات. ولقد ناشدنا أهل الخير في أمتنا ليتقدموا، فما تقدم الا القليل مع الأسف، في حين أن العدو يجد دائما الدعم لفتح آفاق جديدة لنيل ما يدعيه من حقوق. هذه مشكلة تمس صميم العمل العربي على جميع المستويات. الكلام كثير وما أقل ما يعقبه من فعل.

على أي حال، فان الفئة المؤمنة بالقضية ما زالت تعمل قدر استطاعتها. وكما يتضح من مجرى الأمور، فإن هذه الشبكة من المحامين في دول العالم المختلفة لديها ملفات جاهزة ضد عسكريين وسياسيين اسرائيليين بحيث لا تطأ أقدامهم بلدا إلا والأمر بالقبض عليهم يكون في معظم الحالات جاهزا. إن هؤلاء القادة والساسة الاسرائيليين أصبحوا يعيشون الآن في سجن كبير اسمه اسرائيل ، مطاردين من العدالة بالرغم من عدم تشكيل محكمة دولية خاصة تلاحقهم وتحاكمهم. إن المهمة صعبة وطويلة وتعتمد حتى الآن على جهد فردي يقوم به محامون ومنظمات حقوق انسان فلسطينية وأجنبية دون دعم من حكومات وما تستطيع أن توفره مؤسساتها من امكانيات وتسهيلات ومراقبة تحركات. ومع ذلك فقد حققت هذه الشبكة من الانجازات ما لم تجرؤ الدول العربية مجتمعة على مجرد التفكير فيه. ولا ننسى أن مؤتمر قمة عربي قرر ملاحقة مجرمي الحرب الاسرائيليين، الا أن هذا القرار قد نسِيَ، ولا نستبعد أن يكون قد شطب من محاضر الجلسة التي اتخذ فيها. ليس هذا فحسب، بل إن دولا عربية يعتدى عليها ويقتل جنودها، وتتستر على الجريمة، بل وتشارك في المؤامرة لتبرئة اسرائيل منها، حتى بعد اعترافها بارتكاب جنودها لها.

حالة مزرية لا مثيل لها. ومع ذلك فان ما تقوم به منظمات المجتمع المدني في هذا الخصوص هو مثال لما يمكن للشعوب أن تقوم به بحيث يتوقف الاعتماد على الحكومات والنظم لحماية الحقوق والدفاع عنها. الأنظمة العربية ميئوس منها، وعلى الشعوب أن تتحرك، ومجالات تحركها كثيرة، وفي طليعتها المقاطعة الكاملة ورفض التطبيع.

حملة دولية لانشاء محكمة خاصة لمحاكمة مجرمي الحرب

حملة دولية لانشاء محكمة خاصة لمحاكمة مجرمي الحرب الاسرائيليين

صرح الدكتور أنيس مصطفى القاسم ، الامين العام للمنظمة الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري (ايفورد)، أن المنظمة تقوم بحملة دولية عن طريق الانترنت لانشاء محكمة خاصة لمحاكمة مجرمي الحرب الاسرائيليين على غرار المحكمة الخاصة التي أنشئت لمحاكمة مجرمي الحرب في يوغوسلافيا السابقة ورواندا. والحملة موجهة لرئيس الجمعية العامة للامم المتحدة ولاعضاء الامم المتحدة لتتخذ الجمعية العامة قرارا بانشاء هذه المحكمة استنادا الى اختصاصها بموجب ميثاق الامم المتحدة ولأن الجمعية العامة هي المسئولة أصلا عن القضية الفلسطينية، كما قررت ذلك محكمة العدل الدولية في فتواها الخاصة بالجدار العنصري الذي تقيمه اسرائيل في الاراضي الفلسطينية المحتلة. وقد استشهدت المنظمة بالقرار الذي اتخذه مجلس حقوق الانسان في يناير الماضي والذي أدان الجرائم التي ارتكبتها اسرائيل مؤخرا في قطاع غزة المحتل وقرر تشكيل لجنة دولية محايدة لتقصي الحقائق في هذا الشأن. وقد وقع على الطلب حتى الآن حوالي ثمانية وعشرين ألفا من مختلف أنحاء العالم، والعدد ما زال في الارتفاع بشكل يومي، مع أنه لم يمض على بدء الحملة سوى أيام. وايفورد ،المنظمة التي تتبنت هذه الحملة، منظمة غير حكومية تتمتع بالصفة الاستشارية لدى للامم المتحدة، ونالت جائزة الامين العام للامم المتحدة كرسول للسلام. ويمكن الاطلاع على العريضة والتوقيع عليها لمن يشاء على الموقع التالي:

http://www.petitiononline.com/EAFORD09/petition.html وعلى موقع (ايفورد) http://www.eaford.org .

وهذه الحملة لا تنتقص من الجهود المبذولة أمام محكمة الجنايات الدولية وأمام المحاكم الوطنية لمحاكمة مجرمي الحرب هؤلاء، وهي جهود تؤيدها أيفورد، بل هي دعم لهذه الجهود واحتياط لما قد يواجه هذه المحاولات من صعاب. واستنادا الى اتصالات أجراها مؤيدو هذه الحملة فقد تبنتها بعض الدول في الجمعية العامة وهي محل بحث في أوساط المنظمة الدولية.

عودة الى صلاح الدين

عودة الى صلاح الدين

جزا الله الأستاذ الدكتور خالد الكركي خيرا عن أبحاثه عن صلاح الدين، وجزا القدس العربي خيرا جزيلا على نشرها لتلك الأبحاث القيمة. فصلاح الدين في الذاكرة العربية مرتبط أوثق ارتباط بتحرير القدس من الصليبيين، ولكن قلما نجد فيما كتب عنه بالعربية تحليلا لتلك الشخصية الفذة تكشف عن المنهج الذي سار عليه وأدى ليس فقط الى انتصاره وانما أيضا الى توحيد الأمة والتفافها حوله بحيث استطاع أن يجند للمعركة قواها التي كانت مبعثرة ويحشد الى جانبه أمراء عصره الذين كانوا لا يترددون في التحالف مع العدو الصليبي، بل وكان يهون عليهم تسليم أراض عربية مسلمة للصليبيين تأمينا لرضا هؤلاء، ولبقائهم هم في السلطة. فدراسة صلاح الدين كفاعل في التاريخ، وليس كقائد عسكري فقط، تفيد في هذه المرحلة التي نمر بها والتي تواجه فيها الأمة العربية أوضاعا ليست غريبة كثيرا عن الأوضاع التي واجهها صلاح الدين وانتهج منهجه لتحويل ما كان ضعفا واستسلاما وخيانة الى قوة دافقة استطاعت أن تحقق النصر في مواجهة تحالف أوروبي شمل دول اوروبا الفاعلة في عصره.

ونحن اليوم نواجه، كما واجه صلاح الدين، احتلالا للقدس وبقية فلسطين، ونواجه معه تخاذلا عربيا واسلاميا رسميا واعترافا بالعدو المحتل، بل وتعاونا معه لتحقيق ما لم يحققه حتى الآن من أهداف، وتطبيعا من جانب عدد من الأنظمة العربية والاسلامية، واستسلاما أمام القوى الخارجية التي تؤيده، وتشرذما في الوضع العربي والاسلامي يحول دون حشد طاقات هذه الأمة لمواجهة هذا الخطر الجاثم، وهو وضع لا يختلف عما كان عليه الحال قبيل ظهور صلاح الدين على مسرح الأحداث. والشمعة الوحيدة المضيئة هي المقاومة الفلسطينية الباسلة التي ترفض قبول الأمر الواقع وتقدم التضحيات اليومية دفاعا عن القدس والوطن، يساندها في ذلك رفض الجماهير العربية للتطبيع مع العدو.

من هنا تأتي أهمية تحليل منهج صلاح الدين للوصول الى الهدف المرجو. وقد نسمع من يقول بأن الأيام قد تغيرت، ولم تعد دروس الماضي تفيد في المواجهة الحالية. غير أننا نرى أن درس صلاح الدين مفيد للغاية، ذلك أن صلاح الدين قد نهج منهجا يمكن تكراره اذا صدقت النوايا،وهدفنا من هذا الحديث هو التركيز على ذلك المنهج الذي اعتمد اساسا على اعتراف بالواقع ورفض له، اعترافا به لتقدير خطورته لا للاستسلام له، ورفض له باعداد العدة لمواجهته.

لقد سبق لي في كتابي “تأملات في الاحتلالين الصليبي والصهيوني” الذي صدر عام 1975 عن دار نشر ليبية تونسية أن حاولت الخروج عن المألوف في الكتابات العربية عن صلاح الدين بدراسة هذا البطل من منطلق تفكيره وأسلوبه في الحكم، على أساس أنه قد أدرك منذ البداية ضرورة مواجهة الاحتلال الصليبي وأنه لا بد أولا من التمهيد لهذه المواجهة بسياسة داخلية تؤمن لها أقوى الفرص لتحقيق النصر. ويبدو من المراجع التي أشار اليها الدكتور الكركي، وكلها مراجع قيمة، أن كتابي الذي نشر في المغرب العربي لم يصل اليه، والا لوجد أننا طائران نسير في سرب واحد، وأرجو أن يأذن لي باضافة قصيرة الى ما كتبه وتركيز على بعض ما أشار اليه من المنظور الذي تحدثت عنه آنفا.

ان السؤال الذي يطرح نفسه على الباحث بالنسبة لظروف عصر صلاح الدين والذي هو في حاجة الى جواب، هو لماذا قرر صلاح الدين أن يخوض حربا كانت في ظاهرها غيرمتكافئة في الظروف التي كانت سائدة في عصره مع أنه كان يستطيع أن يكون حاكما ينعم بخيرات مصر وما كانت توفره له من استقرار، ومع أن الخلافة الفاطمية التي ورثها، كانت على علاقة طيبة بالصليبيين وكان وزراؤها الواحد بعد الآخر يستعين بهم في صراعه الداخلي للاستيلاء على السلطة أو البقاء فيها ؟ ان الجواب على هذا السؤال يصلح أن يكون من أهم المداخل لفهم تحركاته.

لقد وصل صلاح الدين لحكم مصر، أغنى الاقطار الاسلامية في عصره وأكثرها تماسكا، وكان في استطاعته أن ينعم بخيراتها كما نعم بها من قبله ومن بعده، من دون أن يجازف بحرب نهايتها غير مأمونة، وهو يعلم أنه لن يحارب فقط ملوك وأمراء الصليبيين في القدس وديار الشام وحدهم وانما سيحارب من وراءهم من ملوك وامراء أوروبا، الذين كانوا يوفرون الحماية والمدد للوجود الصليبي ويقاتلون فعلا بجيوشهم لتحقيق هذه الحماية. .وازاء هذا كان في استطاعته أن يقنع نفسه بأنه لا قدرة له على مواجهة الصليبيين، وأن الحكمة والسياسة السليمة هي الاعتراف بهذا الواقع والتعايش معهم كما كان يتعايش غيره من أمراء المسلمين، وكما تعايشت معهم الخلافة الفاطمية.

ان الذي لا نشك فيه هو أن صلاح الدين، بحكم تجربته في بلاط نور الدين زنكي في دمشق، وتجربته المباشرة في مصر،قد أدرك أنه لا استقرار له في مصر ولا استقرار في ديار الشام ولا أمن للمسلمين وسيادة في ديارهم الا بالتخلص من الخطر المقيم في تلك الديار، وهو الخطر الصليبي الذي كانت الامارات الصليبية ومملكة القدس الصليبية هي القاعدة المتقدمة له. فالخطر عليه وعلى مصر، فضلا عن الخطر على بقية ديار الاسلام، قائم وماثل، ولم يخدع نفسه بما كان في مصر من ثراء وقوة وتماسك وما كان لها من مكانة في العالم الاسلامي في أيامه. كما أنه لمس بالتجربة المريرة وهو في دمشق ثم في مصر أخطار الشرذمة، وعانى من استعداد عدد من الأمراء المسلمين للتحالف مع الصليبيين ضد أمراء مسلمين آخرين اما للانقلاب عليهم واما للتوسع على حسابهم أو رد عدوانهم. فما دامت هذه الشرذمة قائمة وما دام الحليف المتأهب للتدخل موجودا فانه أيضا لا استقرار ولا أمن. ولا بد أنه لاحظ، وهو في بلاط نور الدين، رحمه الله، كيف أن الرعاية السليمة للرعية والاستقامة في الحكم كفيلتان بحشد قوى الشعب في المعارك التي بدأ نور الدين في خوضها في مواجهة الأمراء المسلمين من جهة والأمراء الصليبيين من جهة أخرى. من هذه الخلفية، خلفية الخطر الذي كان يحس به، بالاضافة الى الوازع الديني الذي كان متمكنا فيه، انطلق في منهجه، وحقق ما حقق.

وعندما تنابع هذا المنهج، نجد أن أول ما توجه اليه كان بناء جبهته الداخلية المتمثلة في الجبهة الاسلامية العامة من جهة، وجبهته المحلية في مصر وشعب مصر، من جهة أخرى. فما أن استقر به المقام في مصر حتى قضى على ازدواجية كانت سببا في الكثير من المآسي، وهي ازدواجية وجود خلافتين: الخلافة العباسية في بغداد والفاطمية في مصر، فألغى الخلافة الفاطمية ووضع نفسه تحت الخلافة العباسية، معلنا ولاءه لها، وموحدا بذلك المرجعية الاسلامية. ولقد كان بامكانه الاستقلال بمصربالابقاء على خلافة فاطمية صورية يستقل بها في مصر دون خوف من خلافة عباسية كانت قد أصبحت صورية منذ زمن. ولكنه أعرض عن ذلك من أجل توحيد كلمة المسلمين في سائر أقطارهم تمهيدا لخوض المعركة.

وبعد هذه الخطوة الجبارة ذات المغزى البعيد في النفوس شعبيا، التفت لجبهته الداخلية في مصر. فقبل أن يقدم على فرض الضرائب على الشعب لتموين الحرب، وقبل أن يطلب التطوع للجهاد، بل وقبل أن يعلن عن نواياه، باشر بالجهاد في نفسه ليضرب المثل لرعيته، فباع آلاف الجواري التي وجدها في قصور الخلفاء الفاطميين وورثها عنهم، وباع القناطير المقنطرة من الذهب والفضة التي ورثها أيضا في تلك القصور، ورصد ذلك كله للحرب، وباشر في بناء اسطوله البحري مستعينا بالخشب المحلي من حهة ثم بالخشب المستورد من ايطاليا من جهة أخرى. وهذه أعمال كان يلمسها الشعب، فما كان من الممكن بيع الآف الجواري وقناطير الذهب والفضة وبناء الأسطول والشعب لا يشعر بما يفعله صلاح الدين ويقارن بين اليوم والأمس. كل هذا قبل أن يطلب من الشعب مساهمة في مجهوده الحربي، وانما مما كان يعتبر ملكا خاصا للسلطان.

وفي نفس الوقت التفت الى الشعب ليقيم العدل ويرفع الظلم ويحقق “الرفاه” ، على حد تعبير الرحالة الاندلسي ابن جبير. فوجد أن الفاطميين قد فرضوا ضرائب تقصم الظهر لاشباع شهواتهم، حتى ماء النيل كان عليه ضريبة. فأزاح أعباء هذه الضرائب. وهذا أمر يلمسه الشعب دون شك. ووجد أن أموال الزكاة، وهي الضريبة التي لا يستطيع الغاءها، ويدفعها الناس وفاء بواجبهم الديني، لا تنفق في وجهها الصحيح، فأعاد الأمور الى نصابها وأعطى الزكاة لمستحقيها في كل بلد بحيث تعم فائدتها ويطمئن المزكي والمستفيد على أنها تنفق في وجهها الشرعي.

والتفت الى أوضاع الحجيج الذين كانوا يمرون بمصر، فرفع المعاناة عنهم بأن أقام المستشفيات والخانات، لرهايتهم. ويروي ابن جبير أن صلاح الدين كان في جولة في صحراء مصر الغربية فصادف فريقا من الحجاج المغاربة قد انقطعت بهم السبل فحمد الله على أنه لم يستمع لنصيحة بعض مستشاريه الذين كانوا يعارضون في انفاق أموال الزكاة على المارستانات والتكايا لابناء السبيل من الحجاج. وأكمل رعايته للحجاج جميعا بأن تعهد لأمير مكة الذي كان يفرض ضريبة على كل حاج قبل أن يسمح له بالهبوط من ناقلته، تعهد له بأن يؤدي له ما كان يأخذه ضريبة من الحجاج بشرط أن لا يتعرض لهم في أداء فريضتهم. ويروي ابن جبير أنه صدف أن تأخر عطاء صلاح الدين لأمير مكة عندما كان مشغولا بحروبه ضد الصليبيين، ووصل الحجيج، وأراد أمير مكة أن يفرض عليهم، الا أنم تراجع ولم يتعرض لهم، والسبب في ذلك، كما يقول ابن جبير، هو ثقته في أن صلاح الدين لا يخلف وعده. وبالفعل وصل عطاء صلاح الدين بعد أيام. فصلاح الدين، بالرغم من انشغاله بالحرب، لم ينس راحة الحجيج ولم يحتج بالحرب للخروج من وعده، وانما أوفى، ونستطيع أن نتصور أثر ذلك في جموع الحجيج القادمين من كافة أنحاء ديار الاسلام. ونرى أن ابن جبير لا يجد خيرا يقوله في حكام المسلمين في ايامه، وكلما جاء على ذكرهم نجده يسارع باستثناء “ذلك السلطان العادل” صلاح الدين الذي كان يحرص على رفاه جميع المسلمين. وما أكثر ما يستعمل ابن جبير كلمة “الرفاه” هذه.

والتفت الى موضوع أمراء المسلمين المتناحرين المتآمرين المتخاذلين، ورأى أن يوحدهم في مواجهة العدو، فتحرك بجيش صغير من مصر للشام، ومن المؤكد أن ذلك الجيش الصغير ما كان يستطيع القضاء على أمراء الشام بالقوة، خاصة وأنهم قد اعتادوا على التحالف مع الصليبيين. ولكن سمعته كانت قد سبقته الى ديار الشام، وعرف عنه أنه لا يخل بعهد يقطعه، كما عرف عنه حدبه على الرعية. وعندما تحرك كانت شروطه واضحة للتعامل مع هؤلاء الأمراء، فقد تعهد لهم بأن يبقي كل أمير على امارته بشرطين اثنين لا ثالث لهما: الشرط الأول أن يعينوه في حربه على الصليبيين والشرط الثاني أن يعدلوا في الرعية. ولأنه اشتهر بالوفاء بالعهد، فقد اطمأن الأمراء اليه، ولأنه كذلك اشتهر بحدبه على الرعية فقد كانت الرعية في انتظاره في كل مدينة يصلها . وبهذا كسب الرعية والأمراء معا. وهذا يفسر لنا تلك الطاهرة التاريخية وهي أن صلاح الدين كان يجد أبواب المدن مفتوحة لاستقباله ليدخلها دون حرب. كما يفسر لنا تلك السرعة التي استطاع بها توحيد ديار الشام ومصر والجزيرة العربية واجزاء من شمال افريقيا في فترة زمنية قصيرة نسبيا.

يضاف الى هذا كله ما اشتهر به من مزايا شخصية، فقد كان ملتزما يشعائر الدين ولا يجالس الا العلماء ولا يرتكب المعاصي، كما كان مثالا يحتذى به في المعركة، وكان بعيدا عن اغراءات حطام الدنيا لدرجة أنه لم يكن يملك الا جوادا واحدا يحارب عليه، فاذا تعب الجواد استعار جوادا من أحد جنوده ليواصل القتال. وبعد تحرير القدس كان مع جنوده يجدد سور المدينة، يحمل الحجارة ويزيل التراب بيديه كأي جندي من جنوده. ولا نود الاطالة بالاشارة الى الاحترام الشديد الذي كان يتمتع به عند الخصوم، وقد أشار الدكتور الكركي الى بعض من ذلك.

ازاء هذا من صفات شخصية وسياسة في السلم والحرب لم يكن غريبا أن يستجيب له الشعب والأمراء عندما أعلن الجهاد وبدأ حروبه ضد الصليبيين، وليس غريبا أ يواصلوا الجهاد معه الى النهاية. وكانت جنوده من جموع الشعب، من جيشه النظامي ومن المتطوعين الذين انضموا اليه بخيولهم ومعداتهم ومؤنهم، حتى انه كان أحيانا يضطر لعقد هدنة مؤقتة ليتمكن متطوعوه من حصد الغلال.

وهذه السياسة التي سار عليها سواء في مصر أو في الديار الاسلامية الأخرى التي دخلت في سلطانه هي التي تفسر لنا ظاهرة غريبة في مسيرة صلاح الدين، وهي أنه لم يحاول أحد الانقلاب عليه، كما كان مألوفا كلما غاب السلطان عن قاعدة ملكه. فصلاح الدين، عندما خرج من مصر لمحاربة الصليبيين، لم يرجع اليها حتى بعد انتصاراته، وانما اتجه الى دمشق حيث وافته المنية.غادر مصر وأبقى الأمور في يد وزيره القاضي الفاضل، ابن غزة البار. ومع ذلك لم يحاول أمراء مصر ولا وزيره الانقلاب عليه والاستيلاء على السلطة في غيابه هذا الطويل وانشغاله بالحرب، كما كانت عادة أمراء الفاطميين ووزرائهم من قبل. وبالمثل فان امراء الشام والجزيرة العربية لم ينقلبوا عليه وهو مشغول بمحاربة الصليبيين للتخلص من سلطانه. ولو حاولوا لثار الشعب الوفي وقضى على التمرد.

وعندما وصل متعبا الى دمشق وقد حقق الله النصر على يديه لم يكن مزهوا بما فعل، ولم يستقبل الشعراء الذن احتشدوا بقصائدهم لمدحه، ولم يعدل عن سياسة التقشف التي سار عليها. وعندما وجد أن واليها قد بنى له قصرا يستريح فيه، رفض أن يدخل ذلك القصر، وأنب الوالي على فعلته، وتوفي رحمه الله ولم يترك وراءه من حطام الدنيا الا جوادا واحدا كان يمتطيه في حروبه، وترك غير الجواد ما أشار اليه الدكتور الكركي من دراهم معدودة. غير أن صلاح الدين ترك ما هو أعز وأغلى وأبقى أثرا، ترك هذا المثل والذكرى وهذا الحب الذي ما زال له في نفوس وقلوب الأجيال المتعافبة بحيث لا يقترن ذكره الا بالترحم عليه عبر قرون ثمانية مرت على وفاته.

فهل يا ترى في منهج صلاح الدين ما لايمكن تطبيقه اليوم؟ أليس الخطر محدقا بالحكام العرب والمسلمين جميعا؟ هل أفادهم استسلامهم لما يسمونه بالأمر الواقع في شيء أم أن الطلبات من العدو لا تنتهي؟ هل أصبحوا أكثر أمانا واستقرارا على كراسيهم أم تضاعف الخطر عليهم فأصبح خارجيا وداخليا؟ وهل نجا واحد منهم من الاذلال والمهانة ؟ فماذا ينتظرهم غير المزيد مما هم فيه من هذا الاذلال وذلك الخطر الداخلي والخارجي؟ لقد عبد صلاح الدين الطريق وبين سبل النجاة. فهل يستحيل عليهم أن يتصالحوا مع شعوبهم، برفع الظلم عنهم والثقة فيهم والاعتماد عليهم كما فعل صلاح الدين؟ هل يستحيل عليهم أن يتفقوا غلى الوفاء بما يتعاهدون عليه ويكفوا عن التآمر على بعضهم البعض ؟ هل يستحيل عليهم أن يدركوا أن الخطر يحيق بكل واحد منهم وأنه لا خلاص الا بالتعاهد على التخلص من ذلك الخطر والوفاء بذلك التعاهد؟ هل يستحيل عليهم أن يكفوا عن تبديد الأموال العامة، ورصدها بدلا من ذلك لبناء قوة الأمة، الأمة كلها؟ وماذا ستفيدهم أموالهم التي يقتطعونها من قوت الشعب ولا يشبعون من تكديسها في بنوك الغير ليستغلها لصالحه وتغل أيديهم هم عنها؟ هل يسنطيعون استردادها اذا تقرر، تجميدها بتهمة أنهم يدعمون الارهاب، وهي تهمة من السهل توجيهها اذا قرر سيد البيت أنهم لا يتعاونون معه بما يرضيه؟ هل يستحيل عليهم أن يقيموا العدل في الرعية وأن يحققوا لها “الرفاه” بالكف عن اغتصاب الأموال العامة وانفاقها في وجهها الصحيح بدلا من تبديدها حسب أمزجتهم، وباحترام كرامة المواطن وحقه في المشاركة في القرار؟

لم يبق في العالم كله أرض محتلة الا الأرض العربية، ومزيد منها معرض للاحتلال. لم بيق شعب تداس كرامته كل يوم ويخطط للسيطرة عليه الا الشعوب العربية والثروات العربية. ومع ذلك لم يرضخ حكام كما يرضخ حكام العرب. لقد استغاثوا بالمجتمع الدولي وبأمريكا وتوسلوا لاسرائيل، فلم يسعفهم لا هذا ولا ذاك، وأهملوا أن يستغيثوا بالجهة الوحيدة التي يمكن لها حمايتهم واسترجاع الحقوق المغصوبة، وهي شعوبهم.

ترى هل سيترحم أحد على حكام اليوم بعد ثمانمائة عام كما ترحم الناس بللأمس ويترحمون اليوم وسيترحمون غدا على صلاح الدين؟ اسئلة نجد الاجابة عنها في سيرة ذلك الرجل الفذ، وهي السيرة التي خلدته عند عدو ذاق الهزيمة على يديه، وأهل انتصرلهم ولحقوقهم في الكرامة والحرية.