بين أوباما ونتنياهو والمواقف العربية

بين أوباما ونتنياهو والمواقف العربية

د.أنيس مصطفى القاسم

إن أهم ما يميز خطاب نتنياهو هو إغفاله الكامل لأية اشارة للمبادرة العربية ولإنهاء الاحتلال للضفة الغربية والقطاع وبقية الاراضي العربية المحتلة، واغفاله الكامل كذلك حتى لمجرد الاشارة الى الاتفاقيات السابقة التي أبرمت مع الجانب الفلسطيني، بالرغم مما فيها من تنازلات، ولا الى شروط الرباعية أو أنابوليس. وبالمقابل، فان ردود الفعل الغربية، والامريكية بوجه خاص، بل وحتى ردود الانظمة العربية، لم تطالبه بما طالبت به حماس، حتى قبل تشكيلها للحكومة، ,وما طالبت به حكومة الوحدة الوطنية بعد تشكيلها وما تطالب به الجانب الفلسطيني باستمرار، حيث اشترطت عليهما وما زالت تشترط القبول بجميع الشروط التي طالبت وتطالب بها اسرائيل، ورددتها بالحرف الواحد دون زيادة أو نقصان. لم يذكروه حتى بانابوليس أو باْسلو، وانما رحبت باشارته الى دولة فلسطينية، دون النظر في طبيعة هذه الدولة التي يريدها نتنياهو من منطلق ما اسماه “أمن اسرائيل” وما تأثير ذلك على طبيعة “الدولة” الفلسطينية ، ودون أي تعليق على القضايا الاخرى التي أثارها والتي يجب أن تكون محل تعليق من الرباعية على الأقل. نحن اذن مرة أخرى أمام تحيز كامل، حتى بعد خطاب أوباما، وفي مواجهة مشهد يستوجب الحذر الكامل والاستعداد له بطريقة صريحة وصارمة ليس فقط مع اسرائيل وانما مع الادارة الامريكية أيضا والرباعية.

ليس هذا فقط، بل إن مبعوث الرئيس الامريكي الى الشرق الاوسط، جورج ميتشل، وقبل أن يلقي نتنياهو خطابه، صرح في القدس وفي مؤتمر صحفي عقده مع الرئيس الاسرائيلي بأن تكون اسرائيل “يهودية”. أي أنه أكد قبول امريكا بما تطالب به اسرائيل من الاعتراف بها كدولة يهودية، وهو ما عاد وأكده نتنياهو في خطابه. وبعد الخطاب وافق المبعوث هذا أيضا على أن تكون الدولة الفلسطينية العتيدة منزوعة السلاح، كما اشترط نتنياهو. هذا الموقف من المبعوث الامريكي يشير الى أن امريكا قد شرعت في تكوين قناعاتها بشأن ما قد تتمخض عنه سياستها تجاه القضية الفلسطينية، وأن هذا الموقف أخذ في التجاوب مع الطروحات الاسرائيلية بشكل علني متعمد أولا لكي يتم تسجيل موقف علني لصالح اسرائيل وثانيا لإشعار العرب بهذا الموقف واختبار ردود فعلهم. ومن المؤسف أننا لم نسمع ردا عربيا أو فلسطينيا على تصريحات ميتشل. اسرائيل بدأت في اقتناص المواقف العلنية والعرب والقلسطينيون الرسميون في غفلتهم. وقد قال أوباما في خطابه في جامعة القاهرة بأنه سيتبع سياسة الشفافية وقال إن ما يقوله في العلن هو ما سيقوله في الغرف المغلقة. ومن المؤكد أن مبعوثه الى الشرق الاوسط لا يعلن هذه المواقف ذات الخطورة دون أن يكون قد حصل على موافقة مسبقة من رئيسه. وإذن فقد بدأ الموقف الامريكي يتكون بعد أن كان عبارات غامضة عائمة في خطاب أوباما.

هناك بين المعلقين من العرب على خطاب أوباما من نصحوا بالتريث في الحكم عليه أو له الى أن يكون الرئيس الامريكي قد أعلن موقفه بالتفصيل. هذه نصيحة في غير محلها لأنها تتجاهل أمرا في غاية الأهمية ، وهو وجوب محاولة التأثير على مضمون هذه السياسة قبل اعلانها. فبعد الاعلان عنها يصبح تعديلها أمرا في غاية الصعوبة، لأن ذلك يعني التراجع عن عناصر وردت فيها بعد أن يكون الرئيس قد استنفذ مشاوراته مع مستشاريه وقادة الكونغرس واسرائيل بطبيعة الحال. فإذا أراد الفلسطينيون والعرب أن يكون لهم دور في تكوين هذه السياسة فمن الواجب التحرك بسرعة قبل أن تستوي الطبخة بجميع مكوناتها. لقد طاف ميتشل عواصم عربية وأجرى لقاءات مع الرئيس الفلسطيني ولم يصدر عنه أي بيان أو تصريح لا في مؤتمر صحفي أو غيره يدل حتى الآن على تبني أي موقف عربي، على غرار ما فعل بالنسبة للمواقف الاسرائيلية. الحديث عن عدم توسيع المستوطنات هو حديث عن جانب فرعي، لأنه لا يتحدث عن الأصل، وهو عدم شرعية المستوطنات في حد ذاتها. ويجب الا ننشغل بالفروع مرة أخرى ونتغافل عن الأصل، ثم تتنازل اسرائيل عن التوسع، بعد أن تكون قد نفذت ما تريد، ونعده نصرا كبيرا.

اسرائيل لا تتردد لحظة في تذكير الولايات المتحدة بما التزمت به حيالها، سواء كان ذلك في تصريح صحفي أو رسالة أو اتفاق رسمي. وحان الوقت بتذكير الولايات المتحدة بما التزمت به دوليا في موافقتها على قرارات صادرة عن مجلس الأمن. يجب تذكيرها، على الأقل، بالقرارات التي مرت دون أن تمارس الفيتو ضدها، مثل القرار بعدم شرعية ضم القدس أو تغيير معالمها أوتركيبتها السكانية، ومطالبتها بالغاء كل ما أجرته. ومثل القرار بعدم شرعية المستوطنات، فأمريكا كان هذا موقفها المسجل عليها في مجلس الأمن. جميع قرارات مجلس الأمن التي وافقت عليها أمريكا يجب مطالبتها بالالتزام بها كالتزامات دولية تعلو على أي التزام فردي. وليس التذكير فقط، بل المطالبة بالالتزام.

دعا أوباما في خطابه الى ضرورة التمسك بالقيم ، ومن أولها سيادة القانون. ولذا يجب الاصرار على ذلك، فما هو غير شرعي لا يجوز منحه شرعية. المستوطنات ليست شرعية، وقضى بذلك مجلس الامن ومحكمة العدل الدولية في فتواها الخاصة بجدار الفصل. لقد أجمعت المحكمة على ذلك، بما فيها القاضي الامريكي. وسيادة القانون تتطلب احترام ما افتت به المحكمة، وليس لاسرائيل أو الولايات المتحدة أن تخالفه اذا كانت تحترم مبدأ سيادة القانون وتريد لهذا المبدأ أن يسود. وهذا نفسه ينطبق على عدم شرعية الاحتلال وما ترتب عليه من تصرفات اسرائيلية. وينطبق على الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف والتي تشمل، وفقا لقرارات الامم المتحدة أيضا والشرعية الدولية، حقه في الاستقلال والسيادة واقامة دولته المستقلة على ترابه الوطني، وحقه في تقرير مصيره، وحق اللاجئين في العودة.

وليست قرارات مجلس الأمن وحدها هي التي تعبر عن الشرعية، بل إن قرارات الجمعية العامة للامم المتحدة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية لها شرعيتها. وقد شكلت الجمعي العامة العديد من اللجان لمتابعة حقوق الشعوب الفلسطيني، وتقارير هذه اللجان كانت محل نظر واقرار من الجمعية العامة ويجب الرجوع اليها. لقد قررت محكمة العدل الدولية أن الجمعية العامة للامم المتحدة هي صاحبة الاختصاص الاصيل فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، بصفتها الوريث القانوني لعصبة الامم. جاء ذلك أيضا في الفتوى المذكورة، وفي تلك الفتوى اعتمدت المحكمة على قرارت الجمعية العامة وقرارات مجلس الامن، بل وحتى على مشروعات القرارات التي لم تنجح في مجلس الأمن بسبب الفيتو الامريكي، ووجهت المحكمة نقدا لاساءة استعمال هذا الحق. والجمعية العامة هي التي اعتمدت حق العودة كحق مقرر في القانون، وكررت اعنمادها له طوال هذه المدة. والتغييرات التي قد تطرأ في داخل موطن اللاجئين لا تمس هذا الحق ما دامت ممارسته اختيارية بالنسبة للاجئ. ولا يقبل حرمان اللاجئ من ممارسة هذا الحق لاسباب عنصرية، كما هو الحال في الموقف الاسرائيلي الذي تبناه ميتشل من يهودية اسرائيل، لأن وجود اللاجئ في وطنه سابق على جميع هذه التغيرات وسابق في حالتنا لقيام اسرائيل. وعودته هي اعادة الامور الى طبيعتها – الى ما كانت عليه، والطارئ لا يعتد به. والجمعية العامة للامم المتحدة اعتبرت حق العودة واحدا من الحقوق الثابتة غير القابلة للتصرف بالنسبة للشعب الفلسطيني، وقد اتخذت قراراتها في هذا الشأن بعد قيام اسرائيل وبعد كل ما أحدثته من تغييرات على أساس أنه حق ثابت لا تمسه التغيرات. وبالنسبة للشعب الفلسطيني فإن هذا الحق يكتسب أهمية خاصة لأن تشريدهم لم يكن اختياريا وانما كان نتيحة لتطهير عرقي مبرمج، أي نتيجة جريمة يعاقب عليها القانون الدولي. الجمعية العامة للامم المتحدة هي التي تمثل المجتمع الدولي، وليس أمريكا أو الرباعية، وقراراتها أولى بالاحترام والتطبيق من التزامات فردية تقدمها أمريكا لاسرائيل أو تتبرع بها الرباعية بالمخالفة للقانون الدولي أو القانون الدولي الانساني.

يجب شهر سلاح القانون، هذا السلاح الذي أغفله العرب والفلسطينيون طوال هذه المدة، بل واستخفوا به، كلما أثير. ولكن عندما استندوا اليه أنصفهم، كما هو الحال في موضوع الجدار. وهذا عكس ما تفعله اسرئيل والحركة الصهيونية، حيث تحرصان دائما على محاولة الباس ما تريدان بلباس قانوني. وفي هذا الوقت بالذات الذي تحاول فيه أمريكا استرداد مصداقيتها، فإنه من الاهمية بمكان إشهار هذا السلاح. فالادارة الامريكية السابقة انتهكت القانون انتهاكا صارخا في نفس الوقت الذي كانت تتحدث عنه كقيمة يجب أن يلتزم بها العالم. وانتهاكاتها هذه هي التي أفقدتها مصداقيتها على المستوى العالمي. الادارة الحالية تحاول أن تسترد لامريكا مصداقيتها، وهي فرصة للتأكيد لها على ضرورة احترام مبدأ سيادة القانون والشرعية الدولية في معالجة القضية الفلسطينية. المفاوضون الفلسطينيون والعرب يجب أن يتمسكوا بهذا الموضوع بجدية، وعليهم أن يتغلبوا على مرض الاستخفاف به أو الرغبة في ارضاء الدول الكبرى أو اسرائيل على حسابه. يجب احراج أمريكا والاتحاد الاوروبي بالاستناد الى القيم التي يدعون أنها قيمهم وأساس حضارتهم، وأهمها سيادة القانون والديموقراطية، وركز عليها أوباما في خطابه. والموضوع ليس الكيل بمكيالين، وانما هو انتهاك لمبدأ أساسي من مبادئ القانون الدولي والمبادئ التي ينادي بها الغرب، وهو مبدأ سيادة القانون. إن اسرائيل تلقى تجاوبا في الغرب لأسباب متعددة، ومن بينها أساسا أنها تخاطبهم من المنطلقات التي يؤمنون بها، مثل الديموقراطية وسيادة القانون، في حين أن ممارساتها تتعارض نع كليهما. ولكنها نجحت الى حد لا بأس به في ادعاءاتها. وعلينا أن نستعمل اللغة ذاتها في مواجهة الغرب وفي عرض حقوقنا والمطالبة بها، خاصة وأن القيم التي يدعونها هي قيم نؤمن بها نحن ونسعى جاهدين لنراها سائدة في أوطاننا، ومن أولها سيادة القانون والديموقراطية.

وتميز خطاب نتنياهو كذلك بالالتزام الكامل بالمشروع الصهيوني والحرص على تحقيقه في فلسطين من جميع جوانبه كما وضعه أستاذه فلاديمير جابوتنسكي، والذي استعرضناه في مقال نشرته القدس العربي في عددها الصادر في 13 يونيو 2009. وبقدر حرصه على تنفيذه، الا إنه قلق عليه ويريد أن يضمن له البقاء والشرعية. وجميع الشروط التي وضعها تصب في هذا الاتجاه. وبذا يضع الفلسطينيين والعرب مرة أخرى في مواجهة كاملة مع ذلك المشروع، لا فرق في ذلك بين معتدلين وممانعين أو بين من تصالحوا مع ذلك المشروع وبين من يرفضونه.

شرطه الاول الاعتراف بحق اسرائيل في الوجود وأن تكون هذه الدولة يهودية، شرطه الثاني أن تكون الدولة الفلسطينية العتيدة منزوعة السلاح وأن يكون لاسرائيل السيطرة الكاملة على معابر الحدود والمراقبة الداخلية لمنع وصول السلاح الى الفلسطينيين، وشرطه الثالث الا يكون للفلسطينيين جيش أو قوات مسلحة، وشرطه الرابع عدم عودة اللاجئين، وشرطه الخامس أن تكون القدس الموحدة عاصمة أبدية لاسرائيل. وهذه الشروط كلها مرتبطة ارتباطا وثيقا بتحقيق المشروع الصهيوني الأصيل، والذي تم تنفيذ اجزاء منه على مراحل، وتهدف الى فرض القبول بها لتأمينه ، وليس لتحقيق سلام مع الفلسطينيين أو العرب، ظنا منه بأن الشعب الفلسطيني قد وصل الى حالة اليأس التي تفرض عليه الاستسلام وفقا للمنطق الصهيوني.

اعتراف الفلسطينيين بحق اسرائيل في الوجود هدف من الاهداف الاساسية للحركة الصهيونية، ومصدر هذا الشرط أن الحركة الصهيونية حركة استعمارية استيطانية في نشأتها وأهدافها والأساليب التي اتبعتها. هم يعرفون ذلك تماما وقد كتبوا فيه المقالات وأعدوا الدراسات. وهم يعرفون كذلك أن عهد الاستعمار قد ولى، وأن سيادة الشعوب على أوطانها هو من البديهيات، وأن حركة التحرر الوطني من الاستعمار قد انتصرت وألغت المفاهيم الاستعمارية. وميثاق الامم المتحدة والعديد من قراراتها تؤكد هذا. ونتنياهو يعلم أن قرار التقسيم فرار باطل من اساسه لأنه اعتدى على حق الشعب الفلسطيني في تقرير وصير وطنه فلسطين، ويعلم أن حق تقرير المصير من الحقوق الثابتة للشعوب غير القابلة للتصرف. نتنياهو قرأ كتابات استاذه جابوتنسكي، الذي حدد طبيعة المشروع الصهيوني على أنه استعماري استيطاني وأن الفلسطينيين، السكان الاصليين لقلسطين، سيقاومونه، وأنه لا مجال لتنفيذه الا بفرضه عليهم. ولذا فهو يرد موافقتهم عليه ويضعه شرطا.

ولأن حق تقرير المصير غير قابل للتصرف، فإن نتنياهو لم يكتف للاطمئنان على المشروع الصهيوني بالاعتراف به، سواء كان هذا الاعتراف نتيجة للضغوط أو بالاتفاق أو نتيجة للاستفتاء، وانما أراد كذلك ضمانا له أن تكون الدولة الفلسطينية العتيدة مجردة من السلاح وبدون جيش ولا تتوفر لها فرص التسلح أو تكوين الجيش، وأن لا تكون لديها صواريخ. وهذا في حد ذاته يعبر عن عدم الثقة في قدرة العسكرية الاسرائيلية على حماية المشروع الصهيوني في المستقبل. ولذا يجب تجريد الشعب الفلسطيني من امكانية أية فرصة لمقاومته أو تهديده مستقبلا. وهذا كله يدخل في مفهوم الامن الاسرائيلي. ولذا لا بد من اخضاع “الدولة” الفلسطينية للسيطرة الاسرائيلية الكاملة للاطمئنان على عدم وصول السلاح أو ما يمكن أن يصنع منه السلاح، مهما كانت استعمالاته الاخرى. والحصار المفروض على قطاع غزة يدل على مدى ما يمكن أن يصل اليه الأمر بحجة منع تهريب السلاح الى القطاع. معنى هذا أن الشعب الفلسطيني في الدولة المقترحة سيبقى خاضعا لاحتلال أسوأ، حيث أن اسرائيل لن تتحمل أية مسئولية من المسئوليات التي يفرضها القانون الدولي على دولة الاحتلال، ولكنها ستتحكم تحكما كاملا في حياته بحجة تأمين عدم وصول السلاح اليه. ومع ذلك، فقد رحب مبعوث الرئيس اوباما بهذا الشرط الاسرائيلي.

من حق الشعب الفلسطيني أن يقول اذا كان أمن اسرائيل يتطلب تجريد الدولة الفلسطينية العتيدة من السلاح والجيش فإن أمن الدولة الفلسطينية يتطلب المعاملة بالمثل، أي تجريد اسرائيل من السلاح والجيش والا فانها ستبفى خطرا دائما على الدولة الفلسطينية. واذا كان من حق اسرائيل أن تعيش في أمن وسلام، فان هذا الحق ينصرف للدولة الفلسطينية أيضا، خاصة وأنها ستكون الاضعف في هذه المعادلة. وبدون معاملة متساوية فإنه لا يمكن تحقيق هدف دولتين تعيشان في أمن وسلام، مع العلم بأن اسرائيل لديها الضمان الامريكي لأمنها في حين أنه لا أحد يضمن أمن الدولة الفلسطينية، ولا مجال لقبول التطمينات أو حتى الضمانات الامريكية، فقد جرب الشعب الفلسطيني قيمة هذه الضمانات، حتى وإن كانت خطية، في مجازر مخيمي صبرا وشاتيلا. واذن فان هذا الشرط مرفوض من حيث المبدأ. بل على الجانب الفلسطيني أن يصر على أن يكون له جيش ولديه السلاح والصناعة العسكرية المتطورة لايجاد حالة من توازن الردع لحماية الدولة الفلسطينية من أية محاولة اسرائيلية للاعتداء عليها لاستكمال المشروع الصهيوني تحت أية ذريعة، وفي هذه الحالة سيتعذر على “الدولة” الفلسطينية مقاومة واقع جديد سيفرض عليها. هذه ليست فرضية بعيدة الاحتمال، فتاريخ اسرائيل حافل بعدم التزامها بما توافق عليه في الشأن الفلسطيني. هذا كلام يجب أن يقال دون خجل أو مواربة أو مجاملة.

أما يهودية الدولة فقد كتبنا وكتب غيرنا الكثير في هذا الموضوع، ومع ذلك فإن أجهزة الاعلام العربية ما زالت تصر على استعمال نفس التعبير الذي يريده نتنياهو وهو الدولة العبرية. هذا خطأ فادح لاسيما أنه يُعَوِّدُ الناس على هذا الاصطلاح وتدريجيا يعتادون على مدلوله. وهو خطأ لسبب ثان في غاية الأهمية وهو أن الدولة التي أشار اليها قرار التقسيم باليهودية لم تكن دولة خالصة لليهود، اذ كان عدد الفلسطينيين الذين أدخلوا فيها مساويا تقريبا لعدد اليهود وكانوا يملكون أكثر من تسعين في المائة من الاراضي التي خصصت لهذه الدولة. واذا كان عدد الفلسطينيين اليوم أقل فذلك مرجعه جريمة التطهير العرقي الذي ارتكبته الحركة الصهيونية واسرائيل عامي 1947 و 1948. ووفقا لقرار التقسيم فان اليهود والفلسطينيين الذين أدخلوا فيما سمي بالدولة اليهودية هم جميعا مواطنون في هذه الدولة متساوون في الحقوق وفقا لقرار التقسيم ولا يجوز التمييز فيما بينهم، ولا يجوز اعطاء الدولة صفة عنصرية تضر بالفئة الاخرى من المواطنين. ولا يجوز لاسرائيل أن تستفيد من جريمة التطهير العرقي التي ارتكبتها أو تستند اليها لتحقيق مكاسب لفئة من مواطنيها على حساب الفئة الاخرى. وهؤلاء الذين أرغمتهم اسرائيل على مغادرة وطنهم من حقهم أن يعودوا اليه، مهما كانت ظروفه، ما داموا يرغبون في العودة.

أما القدس فلا يرضى فلسطيني واحد مهما كانت ظروفه ومهما كانت الضغوط أن تكون عاصمة أبدية لاسرائيل وأن يكون له فيها مجرد حق معنوي هو زيارة الاماكن المقدسة. القدس قلب الوطن الفلسطيني بغض النظر عن مكانتها الدينية. ونرجو أن يكون هذا خو أيضا موقف الانظمة والشعوب العربية. وأذكر بهذه المناسبة أن الرئيس المصري كان قد صرح بأن القدس خط أحمر، والقدس الشرقية على الأقل مشمولة في المبادرة العربية. وبهذه المناسبة فإن من حق اللاجئين الفلسطينيين العودة الى بيوتهم في القدس الغربية، كما أن التوسعات التي أدخلتها اسرائيل بانشاء ما اسمته القدس الكبرى عن طريق ضم قرى وأراض من الضفة الغربية يجب رفضها واعادة القدس الغربية الى ما كانت عليه، وهذا ما تضمنه أيضا قرار مجلس الامن بخصوص التعييرات التي أدخاتها اسرائيل على القدس.

غني عن القول أن جميع طروحات نتنياهو مرفوضة، ولكن لا يكفي مجرد اعلان الرفض كما لا يكفي انتظار ما يمكن أن تقترحه الادارة الامريكية من حلول تنفيذا لخطاب أوباما. يجب أن يكون هناك تحرك يؤثر في السياسة الامريكية اثناء صياغتها. ويجب التوقف عن اعطاء التنازلات المجانية للتدليل على حسن النية أولتشجيع اسرائيل على السعي الى السلام. وهاهو أوباما يطالب بخطوات تطبيعية من العالمين العربي والاسلامي، تماما كما طلبت الادارات الامريكية السابقة. والنتيجة معروفة نشهدها على أرض الواقع. على القادة العرب أن يحاولوا ولو لمرة واحدة أن يتخلوا عن تسليم مصير القضية لامريكا أو للجنة الرباعية وان يحزموا أمرهم في موقف يستجمعون فيه ما لدى الدول العربية والاسلامية وشعوبها من قوة وتصميم. وأول ما عليهم أن يفعلوه هو أن يضعوا مخالب للمبادرة العربية كأن يبدأوا بسحب التطبيع الرسمي، كأول هذه المخالب، لكي يتأكد نتنياهو بأن العرب والمسلمين جادون في رفض مشروعه. أما المخلب الثاني فهو مطالبة اسرائيل بالوفاء بتعهداتها للامم المتحدة عندما طلبت الانضمام لهذه المنظمة. اسرائيل وحدها هي الدولة الوحيدة التي اشترطت عليها الامم المتحدة شروطا لقبول عضويتها، وهذه الشروط تشمل تنفيذ قرارات الامم المتحدة الخاصة بفلسطين، ومن بينها حق العودة. هذه مسألة يجب اثارتها في الجمعية العامة ومتابعتها بفرض عقوبات ليس آخرها تعليق عضوية اسرائيل في المنظمة أو على الأقل رفض اعتماد ممثليها، تماما كما حصل مع جنوبي افريقيا أيام الابارثيد، وذلك ردا على عدم امتثالها للشرعية الدولية المتمثلة في قرارات الامم المتحدة ذاتها وفتوى محكمة العدل الدولية. لقد حان وقت الجد للتعامل مع القضية.

قال لي سفير أمريكي سابق عمل في عدد من الدول العربية وشهد لقاءات رؤسائها وقادتها مع الرؤساء الامريكيين، قال لي إنه لا يذكر مرة واحدة أثار زعيم عربي القضية الفلسطينية في تلك اللقاءات. ومسيرة القضية تؤكد صدق ما قال. اننا نرجو أن تكون الاوضاع قد تغيرت وأن القادة العرب قد تعلموا من الماضي، وأن أمريكا واسرائيل لن تتبرعا لهم بحقوق لا يطالبون بها، وفي جميع الاحوال فإن الحقوق لا تعطى وانما تؤخذ.