رئيس أركان اسرائيلي يُطارَدُ في نيوزيلندا
وصلت سلسلة ملاحقة مجرمي الحرب الاسرائيليين مناطق توهموا أنها آمنة لبعدها عن الأنظار والأحداث، وكانت المحطة الأخيرة في نيوزيلندا. ففي 28 من نوفمبر 2006، أي قبل أيام ، نجا رئيس أركان الجيش الاسرائيلي السابق، موشي يالون، من الاعتقال بالرغم من صدور قرار في اليوم السابق من القاضي النيوزيلندي أفيناش ديوبهاكتا Avinash Deobhakta بالقبض عليه للتحقيق معه بتهمة ارتكاب مخالفات جسيمة لاتفاقية جنيف الرابعة ضد فلسطينيين. وقد ساعد على تسهيل فراره تدخلٌ من نائب رئيس الوزراء النائب العام مايكل كولين Michael Cullen الذي أوقف تنفيذ أمر القبض بشكل نهائي، وأتاح بذلك الفرصة ليالون للفرار من البلاد قبل الطعن في قرار النائب العام. والجنرال يالون رئيس أركان الجيش الاسرائيلي قي الفترة ما بين 9 يوليو 2002 وأول يونيو 2005، وتحت قيادته ارتكب الجيش الاسرائيلي العديد من الافعال التي قد تطالها اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين، بحيث، اذا ثبتت، تُعتَبَرُ جرائم ضد الانسانية يُعاقَبُ عليها وفقا للقانون الدولي الانساني .
وقد أثار قرار النائب العام، الذي لم يكن من رجال القانون، زوبعة من الانتقادات، حيث اعتبر قراره تدخلا سافرا في سير العدالة، وبدأت التساؤلات حول مدى اختصاصه قانونا في اتخاذ قرار كهذا وتنصيب نفسه جهة قضائية تراجع أحكام القضاء وتعطلها. وما زالت المعركة دائرة حول هذا الموضوع، مع العلم بأن القاضي الذي نظر في الطلب قد درس الأدلة وقرر أن هناك “اسبابا جدية وكافية” تبرر أصدار أمر القبض، في حين رأى النائب العام، عندما أعلن فيما بعد أسباب ايقاف تنفيذ أمر القبض، أن البينات التي قدمها المحامون ” كان لا يصح الاعتماد عليها”، وبناء على ذلك اتخذ قراره، متجاوزا بذلك، في نظر الكثيرين من رجال القانون، اختصاصاته ومعتديا على سيادة القانون.
وليست هذه هي المرة الاولى التي يفلت فيها جنرالات اسرائيليون من الملاحقة القضائية. فقد نجا من تلك الملاحقة جنرال آخر بقي محجوزا في طائرة العال الاسرائيلية في مطار لندن حتى لا يستلم أمر القبض عليه، وبعد ذلك صدرت تعليمات المستشار القانوني للجيش الاسرائيلي للقادة العسكريين بعدم السفر الى لندن، وبالفعل ألغى عدد منهم زيارات كانت مقررة اما لجمع التبرعات لصالح الجيش الاسرائيلي واما للالتحاق بالمعاهد العسكرية العليا في بريطانيا.
من الواضح أن هناك تآمرا على العدالة في البلدان التي نجا فيها هؤلاء من الملاحقة، كما أنه من الواضح أيضا أن القضاء يمارس اختصاصه القضائي بعيدا عن أية اعتبارات سياسية. وهذا يقلق المسئولين الاسرائيليين لدرجة كبيرة. فما دام القضاء في منأى عن المؤثرات السياسية فان الخطر يظل قائما وتبقى امكانية ملاحقة مجرمي الحرب الاسرائيليين ماثلة في جميع الدول الاطراف في اتفاقية جنيف الرابعة، وهي جميع دول العالم. وهذه المحاولة الأخيرة في نيو زيلندا تزيد من إحكام الحصار على تحركات القادة العسكريين الاسرائيليين (والساسة أيضا) بحيث أصبحوا لا يعرفون أين ينتظرهم احتمال صدور أوامر قضائية بالقبض عليهم لمحاسبتهم على جرائمهم.
البلدان الوحيدة التي يستطيعون حتى الآن زيارتها وهم مطمئنون هي مع الأسف الشديد تلك الدول العربية التي تقيم مع اسرائيل علاقات رسمية أو شبه رسمية، وكأنما بريطانيا أو نيوزيلندا أو كندا أو أمريكا، حيث يُلاحَقُ المجرمون الاسرائيليون، لا تقيم مع اسرائيل علاقات رسمية قوية، فجميع هذه الدول ينظر قضاؤها في انتهاكات اسرائيل لاتفاقية جنيف الرابعة ومخالفتها للقانون الدولي الانساني، والدول العربية جميعا أطراف في هذه الاتفاقية ويملك قضاؤها اختصاصا في ملاحقة من ينتهكون أحكامها. وباستثناء حالة نيوزيلندا الاخيرة هذه، فان السلطات التنفيذية لم تتدخل لاحباط أوامر القضاء، وانما استطاع الجنرالات الاسرائيليون الفرار خلسة، أوتجنبوا الحضور بعد أن بلغتهم أخبار صدور قرارات القبض والملاحقة، أو تجنبوا الحضور كلية خوفا من أن تكون قرارات في انتظارهم. ولا شك في أن النائب العام النيوزيلندي سيحاسب حسابا عسيرا على تدخله.
ان هذا الحصار العالمي الذي أصبح يشتد يوما بعد يوم على مجرمي الحرب الاسرائيليين قد جاء نتيجة لجهد واع متواصل تقوم به منظمة فلسطينية من منظمات المجتمع المدني، وهي مركز حقوق الانسان في غزة، بقيادة القانوني الفلسطيني المتميز راجي الصوراني، وشبكة دولية من المحامين الاجانب، ومن بينهم عدد من المحامين اليهود الشرفاء، أخذت على عاتقها هذه المهمة الانسانية الصعبة، بالرغم مما تجلبه لهم من متاعب وتتسبب لهم من مشاكل. ومع ذلك فانهم لا يتلقون دعما عربيا، رسميا أو شعبيا، الا من القليل. ولو أنهم وجدوا هذا الدعم لاستطاعوا تطوير العمل وتكثيف النشاط القانوني على نطاق أوسع بحيث يدخل القانون المعركة بصورة جدية بعد أن تعذر خوضه للمعركة بالطرق المألوفة في مثل هذه الحالات. ولقد ناشدنا أهل الخير في أمتنا ليتقدموا، فما تقدم الا القليل مع الأسف، في حين أن العدو يجد دائما الدعم لفتح آفاق جديدة لنيل ما يدعيه من حقوق. هذه مشكلة تمس صميم العمل العربي على جميع المستويات. الكلام كثير وما أقل ما يعقبه من فعل.
على أي حال، فان الفئة المؤمنة بالقضية ما زالت تعمل قدر استطاعتها. وكما يتضح من مجرى الأمور، فإن هذه الشبكة من المحامين في دول العالم المختلفة لديها ملفات جاهزة ضد عسكريين وسياسيين اسرائيليين بحيث لا تطأ أقدامهم بلدا إلا والأمر بالقبض عليهم يكون في معظم الحالات جاهزا. إن هؤلاء القادة والساسة الاسرائيليين أصبحوا يعيشون الآن في سجن كبير اسمه اسرائيل ، مطاردين من العدالة بالرغم من عدم تشكيل محكمة دولية خاصة تلاحقهم وتحاكمهم. إن المهمة صعبة وطويلة وتعتمد حتى الآن على جهد فردي يقوم به محامون ومنظمات حقوق انسان فلسطينية وأجنبية دون دعم من حكومات وما تستطيع أن توفره مؤسساتها من امكانيات وتسهيلات ومراقبة تحركات. ومع ذلك فقد حققت هذه الشبكة من الانجازات ما لم تجرؤ الدول العربية مجتمعة على مجرد التفكير فيه. ولا ننسى أن مؤتمر قمة عربي قرر ملاحقة مجرمي الحرب الاسرائيليين، الا أن هذا القرار قد نسِيَ، ولا نستبعد أن يكون قد شطب من محاضر الجلسة التي اتخذ فيها. ليس هذا فحسب، بل إن دولا عربية يعتدى عليها ويقتل جنودها، وتتستر على الجريمة، بل وتشارك في المؤامرة لتبرئة اسرائيل منها، حتى بعد اعترافها بارتكاب جنودها لها.
حالة مزرية لا مثيل لها. ومع ذلك فان ما تقوم به منظمات المجتمع المدني في هذا الخصوص هو مثال لما يمكن للشعوب أن تقوم به بحيث يتوقف الاعتماد على الحكومات والنظم لحماية الحقوق والدفاع عنها. الأنظمة العربية ميئوس منها، وعلى الشعوب أن تتحرك، ومجالات تحركها كثيرة، وفي طليعتها المقاطعة الكاملة ورفض التطبيع.